من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية
TT

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

تكاد كل دولة بعد بنائها أن تتعرض لحرب أهلية داخلية ويكون ذلك عندما تلجأ الفرق السياسية أو الدينية المختلفة فيها إلى الصراع المسلح من أجل فرض أهدافها فيكون الحوار قد نفد ويبقى العنف هو الحل الأخير أمام هذه الفرق، وقد تعرضت الكثير من الدول لهذه الأزمات في مراحل تكوينها الأساسية عبر تاريخها، وعادة ما تكون أسباب هذه الحروب الأهلية مرتبطة بشكل مباشر بالتركيبة الاجتماعية والسياسية والثقافية مجتمعة وعندئذ تكون حدة الصراع المسلح كبيرة للغاية بسبب عدم تجانس هذا المجتمع، ويكون الهدف من هذه الحروب إما السلطة والسيطرة السياسية، أو محاولة فرض طابع اجتماعي - ثقافي جديد على الدولة ككل أو الإبقاء على هذا النظام أمام الفرق المطالبة بالتغيير، وفي أغلبية الأحوال لا يكون العامل الاقتصادي وحده سببا في مثل هذه الحروب، وتشير الكثير من حالات الحروب الأهلية عبر التاريخ الحديث إلى أن الحروب الأهلية تكون مرتبطة بشكل مباشر بعملية تكوين الدولة وبمحاولة فرض مفاهيم الشرعية بداخلها، ولذلك فقد يربطها البعض بمراحل نشأة الدولة، ولكن هذه ليست قاعدة فقد تنشب مثل هذه الحروب عندما يكون هناك عملية تغيير لمفهوم الشرعية داخل الدولة الراسخة، والأمثلة على ذلك كثيرة للغاية مثل إنجلترا خلال القرن السابع عشر، وفرنسا بعد الثورة الفرنسية، والكثير من دول أوروبا في مرحلة الربيع الأوروبي عام 1848، وهنا فإن هذه الحروب لا تكون بسبب النشأة ولكن لعوامل التغيير.
وفي هذا الإطار فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تكن استثناء من هذه القاعدة، فلقد تكاملت الولايات الـ13 وواجهت بجيشها الوليد والموحد الجيش البريطاني العتيد بهدف الاستقلال حتى نالته بعد إعلان الاستقلال بأعوام قليلة، وقد تمت صياغة الدستور الأميركي بشكل يضمن نوعا من التوازن الدقيق بين الولايات المختلفة آخذا في الاعتبار أحجامها المختلفة بشكل مثّل سابقة فريدة من نوعها في الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في العالم الحديث، وقد تغلبت هذه الدولة الوليدة على كافة المصاعب بمرور الوقت، ولكنها لم تستطع وقاية نفسها من شرور الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1861 والتي كانت حربا مختلفة بعض الشيء، فهي لم تكن مرتبطة بمحاولة ولاية أو أخرى تغيير النظام السياسي للدولة أو عملية إعادة توازن أو توزيع للقوة، بل كانت لأسباب اقتصادية اجتماعية في الأساس.
لا يختلف أغلبية المؤرخين في اعتبار العبودية السبب الأساسي وراء اندلاع هذه الحرب الأهلية، ولولاها لما اندلعت هذه الحرب، فلقد كانت التركيبة الاقتصادية والاجتماعية الأميركية تختلف عن مثيلاتها في العالم، فولايات الشمال القوية كانت تعتمد في الأساس على القاعدة الصناعية وبدرجة أقل الزراعة، وهو ما ساهم بشكل مباشر في خلق بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة عن ولايات الجنوب التي اعتمدت على الاقتصاديات الزراعية في الأساس، فلقد أدى هذا النمط من التطور والتنمية في الشمال إلى خلق بيئة فكرية وثقافية وطريقة حياة مختلفة بشكل كبير عن الجنوب الذي لم يستطع بدوره أن يطور من نفسه بالشكل المطلوب، فلقد كانت اقتصاديات الولايات الجنوبية تعتمد في الأساس على الزراعة، خاصة زراعة القطن والسكر والتبغ وغيرها من السلع التي كانت تدر عائدا ماديا عاليا Cash Crops، وقد نتج عن ذلك اعتماد مباشر على العمالة التي لم تكن متوفرة بيسر بين أبناء طبقة ملاك الأراضي، وبالتالي ظهر توجه للاعتماد على الرق لزراعة الأراضي، فهذه الزراعات تحتاج إلى عمالة كثيفة Labor Intensive، وكلما توسعت دول الجنوب في التطور الاقتصادي الزراعي زادت الحاجة لمزيد من الرق، وتشير بعض الإحصاءات التاريخية إلى أن حجم العبيد الأميركي عند الاستقلال لم يتخط السبعمائة ألف، ولكن هذا الرقم قفز بشكل مباشر إلى ما يقرب من مليونين بحلول عام 1830. ثم قفز مرة أخرى إلى قرابة 4 ملايين بحلول عام 1860.
ورغم ذلك فإن ولايات الجنوب الأميركي لم تسع في أي مرحلة من مراحل تطورها لإدخال الصناعة لتخفف من حدة اعتمادها على الزراعة أو تُحدث تنويعا مطلوبا، وقد تعددت الآراء في السبب وراء هذا التكاسل الصناعي فمنها الآراء التي أرجعته إلى عدم ملاءمة البيئة الجنوبية لمثل هذه الحداثة، كما أن العبيد لم يكن من الممكن الاعتماد عليهم لمحاولة إقامة هذا النظام الاقتصادي، وبالتالي انحصرت القاعدة الصناعية في الجنوب على الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل المنسوجات وغيرها، وقد أدى هذا إلى تطور اجتماعي للجنوب يختلف تماما عن الشمال، حيث انزلق هذا المجتمع في توجهاته الاجتماعية ومن ثم الثقافية المختلفة، فأصبح مجتمعا محافظا مبنيا على أشكال تشابه أنماط التطور في القرون الوسطى الأوروبية بتركيبة اجتماعية مختلفة تماما عن ولايات الشمال، وهو ما جعل الهوة تتسع بين الأهداف والمصالح في الشمال مقارنة بالجنوب.
حقيقة الأمر أن بذور الحرب الأهلية بدأت منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية، فالتركيبة السياسية والاجتماعية دفعت الكثير من المفكرين ورجال الكنيسة والساسة لمحاولة القضاء على ظاهرة الرق وهو ما نظرت إليه ولايات الجنوب باعتباره سببا مباشرا في ضرب بيئتها الاقتصادية والاجتماعية، وقد بدأت الأصوات المنادية بالقضاء على العبودية، وكان منهم بطبيعة الحال ساسة ومفكرون ممن ساهموا مباشرة في صياغة وثيقة الاستقلال وعلى رأسهم «جيمس ماديسون Madison» و«جون آدمز Adams»، ولكن هذه الحركة لم تخرج عن نطاق النداءات المجردة لتحرير الرق وتحريمه، ولم يكن من المستغرب أن تندلع هذه الحركة تدريجيا من ولاية «ماساشوستس» التي كانت مصدر حرب الاستقلال وأكثر الولايات تحضرا وثقافة، ولكن هذه الحركة سرعان ما بدأت تنتشر في الولايات الأخرى، ثم في ولايات الجنوب ذاتها، وبدأت حركة اجتماعية واسعة تطالب بضرورة التحرير، وسرعان ما اندلعت نيران التحرير إلى الجنوب أيضا، فبدأت تظهر الأصوات المنادية بإنهاء العبودية، ولكن المقاومة الجنوبية بدأت تظهر، حتى إن كثيرا من الكنائس في الجنوب بدأت تسعى من أجل وضع التبرير المناسب لهذه الظاهرة الاجتماعية على أسس دينية، مستندة إلى أن الرق وارد في العهد القديم والجديد على حد سواء دون التحريم، وأن السيد المسيح لم ينه العبودية، كما أن الحركات السياسية المناهضة لم تتأخر أيضا في هذا الاتجاه، وبحلول العقد الرابع من القرن الـ18 بدأت المناوشات السياسية داخل الكونغرس حيث سعى الكثير من الساسة لمحاولة استصدار تعديلاتهم الدستورية من أجل إلغاء الرق في الجنوب وهو ما واجهه ممثلو الجنوب بحروب كلامية وسياسية كبيرة للغاية في الكونغرس.
حقيقة الأمر أن هذه الحرب اندلعت في الكونغرس الأميركي قبل ساحات المعارك المختلفة على مدار 4 سنوات تلت ذلك، فبحلول عام 1818 صارت هناك 22 ولاية نصفها يجيز الرق والنصف الآخر يرفضه، وقد تم التوصل إلى حالات كثيرة من التوافق السياسي لمعالجة هذه الأزمة، منها «توافق ميزوري» الذي أجاز العبودية في ولاية «ميزوري» ومنعها في ولاية «ميين Maine» ثم تفجرت الأزمات بعد ذلك عندما توسعت الولايات المتحدة على حساب المكسيك، فماذا سيكون مصير الرق في هذه الولايات؟، وقد دخلت الولايات المتحدة في شبح الحرب بحلول خمسينات القرن التاسع عشر، وكان الحل هو مزيد من المواءمة والتوازن داخل الكونغرس وفي هذه الولايات حيث قرر الكونغرس أن يترك لهذه الولايات تحديد موقفها من مسألة الرق، خاصة ولايتي نيومكسيكو ويوتاه، وقد عُرف ذلك فيما بعد بالمواءمة 1850، خاصة بعدما تقرر أن تنضم ولاية كاليفورنيا إلى الولايات المتحدة على أساس أنها ولاية مستقلة لها حق إجازة الرق من عدمه في إطار ما عُرف «بالسيادة الشعبية»، بينما تقرر على صعيد آخر تغليظ عقوبة العبيد الهاربين. وعلى مدار حقبة الخمسينات بدأ الحوار حول الرق يأخذ طابع التوترات السياسية إلى أن تحول في إحدى المناسبات للتطاول بالأيدي داخل الكونغرس، وهو ما كان يُنذر بأن انتشار العنف في الولايات أصبح مسألة وقت لا غير، وكانت ولاية كانساس هي المرشحة لتشهد ساحات من العنف جراء هذا النقاش المحتدم.
وهكذا أصبح القتال هو الحل الوحيد عندما تحول المشهد السياسي إلى خلاف بين الشمال والجنوب حول الرق خلافا سياسيا ممتدا إلى طريقة الحياة الجديدة التي ستنتهجها الولايات المتحدة، وهذا كان لب الأمر، فالحرب الأهلية أصبحت هنا أداة لتغيير طريقة ونمط الحياة وأسلوبها بين الشمال والجنوب كما سنرى.



ليبيا: حسابات الخصوم تفتح الأبواب «على المجهول»

مركباات عسكرية أثناء إحدى جولات المواجهات في ليبيا (أ.ب)
مركباات عسكرية أثناء إحدى جولات المواجهات في ليبيا (أ.ب)
TT

ليبيا: حسابات الخصوم تفتح الأبواب «على المجهول»

مركباات عسكرية أثناء إحدى جولات المواجهات في ليبيا (أ.ب)
مركباات عسكرية أثناء إحدى جولات المواجهات في ليبيا (أ.ب)

شرعت الأزمة الليبية أبواباً جديدةً على مستقبل غامض، دفعت إليه حسابات سياسية وعسكرية لخصوم وأفرقاء في بلد يغرق في الفوضى منذ 14 سنة، وتتنازعه سلطتان متصارعتان بين شرق وغرب البلاد، وسط طيف واسع من الأهداف والطموحات الإقليمية والدولية. من طرابلس إلى بنغازي، تطول المسافات، وتتوزَّع معها أهداف وطموحات الخصومة مع حكومة في العاصمة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وميليشيات متنازعة؛ سعياً لمخاض معادلة نفوذ جديدة في غرب ليبيا. وفي الجبهة الأخرى بشرق البلاد، هناك قوة اسمها «جيش وطني» بقيادة المشير خليفة حفتر، وظهيره السياسي في مجلس النواب وحكومته، الذين لا يُخفون أحلام السيطرة على عموم ليبيا، بعدما دان لهم ثلثاها تقريباً. وبين مشروعَيْن في ليبيا وُلدا مع انهيار نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، في 2011، ونضجا في غمار حربَين أهليَّتين عامَي 2014 و2019، يغوص الليبيون في رمال متحركة، في ظل وجود دوامة مبادرات أممية وإقليمية طافت عواصم غربية وعربية.

اليوم في طرابلس لم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت «حملة عسكرية» تشنها حكومة «الوحدة» برئاسة عبد الحميد الدبيبة ضد ميليشيات أضنت الليبيين، لكن هذه «الحملة العسكرية» لم تسلم من شكوك حول أهداف شخصية تهدف لبسط السيطرة السياسية والعسكرية على غرب ليبيا، وفق رؤية متابعين.

الدبيبة، الذي عزَّز قواته بحلفاء ميليشياويين من مصراتة (مسقط رأسه) والزنتان، بات يقف عند نقطة مواجهة تصعب معها الرجعة، وفق محللين، خصوصاً بعد عملية أطلقها في مايو (أيار) الماضي بالقضاء على «حليف الأمس»، الميليشياوي عبد الغني الككلي الشهير بـ«غنيوة»، وقوته «دعم الاستقرار».

محطة استنفار

وهكذا تقف العاصمة الليبية عند محطة استنفار على وقع تقديرات وحسابات الدبيبة، مشحونة بالتحشيدات العسكرية لحلفائه من طرابلس ومصراتة، وهم جميعاً قادة ميليشياويون انخرطوا في وزارتَي الدفاع والداخلية، ليبدأ بعدها التأهب لخصم آخر يتمثل في ميليشيا «الردع» بقيادة عبد الرؤوف كارة. ومع اعتقاد محللين بأن طرابلس ماضيةٌ بقوة نحو جولة اقتتال جديدة قد تغيِّر خريطة مشهد الفصائل المتصارعة، فإن «المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية» لا يستبعد توجُّهاً أميركياً «نحو التخلص من بعض الأجسام المسلحة بالعاصمة لصالح قيادة موحدة»، وفق رؤية مدير المركز، شريف بوفردة.

وفي زاوية بعيدة عن مشهد «طرابلسي» ملبّد بالغيوم، سارع الدبيبة إلى إطلاق مبادرة على وقع مظاهرات أسبوعية حاشدة ضد حكومته، تضمَّنت إعادة هيكلة وزارية على أساس ما قال إنها «الكفاءة، والبُعد عن المحاصصة»، ثم إطلاق مشروع الاستفتاء الوطني، ووضع آلية واقعية لتأمين الانتخابات.

بيد أن مبادرة الدبيبة لم تجد آذاناً مصغية، وعدّتها أطراف سياسية «محاولة للالتفاف على المطالب الشعبية بإقالة حكومة فقدت شرعيتها بعد استقالة غالبية وزرائها، ورفض الشارع لاستمرارها»، وهي رؤية تكتل ليبي يُعرف بـ«الوطن بالجميع».

ومع ذلك، لم تغب عن طرابلس تحركات المبعوثة الأممية هانا تيتيه، ونائبتها ستيفاني خوري، سواء مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، أو الدبيبة، أو فعاليات قبلية وشعبية واجتماعية، لاحتواء التوتر في طرابلس، واستكشاف انطباعاتهم حول خريطة طريق صاغتها لجنة خبراء ليبيين برعاية أممية.

حفتر (رويترز)

المجلس الرئاسي

أما عن المجلس الرئاسي الليبي فإنه يقف، وفق مراقبين، على أرضية رخوة، وتتنازعه فيها مطالب وضغوط شعبية بالإطاحة بحكومة الدبيبة، وهما (الحكومة والمجلس) مَن جاء بهما للسلطة «مؤتمر جنيف» 2021. وبحسب تقديرات متابعين للشأن الليبي، فإن مبادرات المجلس الرئاسي ومراسيمه، التي أطلقها الأشهر الماضية بخصوص «الاستفتاء على العملية السياسية»، تبقى مُكبَّلة بـ«صلاحيات محدودة» أنتجها «اتفاق الصخيرات» المُقرّ في المغرب عام 2015، وقلّصها «اتفاق جنيف» المُبرَم في سويسرا عام 2021.

ومن ثم، فإن البُعد الأهم الذي يتحكم في مسارات المجلس الرئاسي، أعلى سلطة تنفيذية مفترضة في ليبيا، أنه لا يحظى بظهير عسكري يدعم قراراته ويضعها موضع التنفيذ، وهذا في واقع ليبي تهيمن عليه شبكات النفوذ المسلح، أو حسب المحلل الليبي محمد الأمين، مثل «القائد الذي يصدر أوامر في مدينة لا يسمعه فيها أحد».

وللعلم، لم يكن الوضع أفضل حالاً مع «المجلس الأعلى للدولة» (الاستشاري)، وهو أحد الأطراف الفاعلة في العملية السياسية، والوريث الشرعي لـ«المؤتمر الوطني العام» السابق. ذلك أن حساباته السياسية في المشهد الليبي لا تزال غامضة، وهو رهينة رأب انقسام بين خالد المشري ومحمد تكالة، المتخاصمَين على رئاسته، منذ 9 أشهر.

ورغم تفاؤل ساد أخيراً بشأن قرب إنهاء الخصومة في المجلس الاستشاري، سواء بانتخابات جديدة أو تنفيذ أحكام القضاء بين تكالة والمشري، فإن دور المجلس الأعلى للدولة قد يحتاج إلى فسحة من الوقت لإطلاق موقف سياسي متماسك. وهذه، وفق المحلل السياسي أيوب الأوجلي «نقطة يترقبها مجلس النواب، شريكه في جولات تسوية سياسية سابقة».

تطورات شرق ليبيا

أما في شرق ليبيا، فقد كانت المناورات السياسية السريعة أكثر حضوراً في حسابات البرلمان الليبي، إذ سارع الخطى على مدار جلستين في مايو الماضي؛ لاستطلاع برامج 14 مرشحاً لرئاسة «حكومة جديدة»، على الرغم من يقينه مسبقاً بمعارضة حكومة الدبيبة لهذه الخطوة، لكنه، في أي حال، يعتمد على التوترات بطرابلس بوصفها من أهم مبرّراته المعلنة لتحركه المفاجئ. وهنا تباينت تقديرات سياسيين وأكاديميين بشأن خطوة تلقي ترشيحات رئاسة الحكومة من جانب البرلمان، إذ عدَّها البعض، ومنهم فيضي المرابط، أستاذ الدراسات المستقبلية بجامعة طرابلس، ضمن «مشروع صناعة الأزمة الذي يديره مجلسا النواب والأعلى الدولة». وفي المقابل، ينظر سياسيون ليبيون إلى تحرك «النواب» بوصفه «محاولة استباقية لإلقاء الكرة في ملعب البعثة الأممية»، التي رسمت 4 مسارات تبدأ من «تشكيل حكومة موحدة»، وقد تنتهي إلى عملية سياسية جديدة تطيح بكل الأجسام السياسية الأخرى، من بينها البرلمان. وفي هذا السياق، بدا منطقياً لمهتمين بالشأن الليبي تجاهل مجلس النواب تحذيرات أطلقها عددٌ من أعضائه من الإقدام على تشكيل «حكومة جديدة»، إلى جانب رسالة رئيسه عقيلة صالح إلى المجتمعَين المحلي والدولي بأن «التأخير في إنجاز هذا الاستحقاق سيؤدي إلى الفوضى، ويهدد وحدة البلاد».

أما بالنسبة للمشهد العسكري في شرق البلاد، فإن المشير خليفة حفتر، قائد «الجيش الوطني»، يرصد ما يجري من اقتتال بين الفصائل المسلحة في طرابلس، وهو الذي سبق أن خاض معركة انتهت عند أبوابها في عامي 2019 و2020، بهدنة تستمر حتى الآن. بل إن حفتر فتح باباً للتأويلات نحو «تحرك جديد» قد يشنُّه على العاصمة، يقتنص فرصة اقتتال ميليشيات العاصمة، وذلك بتعهّده بأن «القوات المسلحة الليبية ستكون لها الكلمة الفاصلة في اللحظة الحاسمة». وجاء كلامه هذا خلال احتفال عسكري نُظِّم في مدينة بنغازي، قاعدة الشرق الليبي، بمناسبة الذكرى الـ11 لـ«عملية الكرامة». ومع ذلك، فإن مراقبين من بينهم المحلل السياسي أيوب الأوجلي، المقرّب من القيادة العامة، رأى أن تصريح حفتر «لا يعني المواجهة المباشرة مع خصوم القيادة العامة». وأردف قائلاً إن «الجيش الوطني الليبي لن يتخلى عن الشعب في حال حصول أي مكروه، أخذاً في الاعتبار حالة الغضب الشعبي ضد حكومة طرابلس».

الدبيبة (رويترز)

غيوم سياسية وعسكرية

في أي حال، الغيوم السياسية والعسكرية لم تعرقل التحركات الأممية الممدودة بين طرابلس وبنغازي من جانب مبعوثة الأمين العام هانا تيتيه ونائبتها ستيفاني خوري، لتختبر مساراً أممياً آخر سبقه مبعوثون آخرون. لكن الظاهر للعيان أن المسار الأممي لحل الأزمة الليبية ما عاد يحظى بثقة كبيرة لدى قطاعات من الليبيين، بل واتخذ مشهداً غير مسبوق بمظاهرات أمام مقر البعثة الأممية في جنزور (غرب العاصمة).

أيضاً، في خضم الحسابات المُعقَّدة للخصوم في ليبيا، فإن السيطرة الكاملة على العاصمة الليبية طرابلس تبقى «الكعكة الكبرى» أو «الهدف الذي يوحِّد الأفرقاء السياسيين والعسكريين»، كما يرى الباحث بمعهد الخدمات الملكية المتحدة، جلال حرشاوي. وبالتالي، تظل الأطراف السياسية المتمسكة بالسلطة في ليبيا - التي لم تسلم من انتقادات المبعوثين الأمميين - تعمل منفردةً لتحقيق ما يراها البعض «مكاسب شخصية»، بينما الأزمة على حالها، ما قد يفتح الباب على كل الاحتمالات.

في خضم الخصومات الليبية تبقى السيطرة الكاملة على طرابلس «الكعكة الكبرى»

14 سنة من تعاقب الحكومات... والأزمة الليبية مستمرة

لم تنعم ليبيا بالاستقرار السياسي والأمني منذ اندلاع «ثورة 17 فبراير (شباط) 2011»، بل عاشت في حلقة مفرغة من الانقسامات المزمنة على مدار 14 قرابة سنة. وطوال هذه الفترة توالت على البلاد 8 حكومات، ثلاث منها لم يُعترَف بها دولياً. البداية مع حكومات ما بعد القذافي. كانت حكومة الدكتور عبد الرحيم الكيب، قد أدت اليمين الدستورية بتكليف من «المجلس الانتقالي الليبي» في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011. حكومة الكيب التي أنهت مهام «المكتب التنفيذي» برئاسة الراحل الدكتور محمود جبريل، قرّرت الاعتماد على ما قالت إنها حكومة كفاءات، لكنها آثرت الاستقالة بعد 11 شهراً أمضتها في السلطة، لتشهد ليبيا أول تجربة تداول سلمي حكومي للسلطة من الكيب إلى خلفه علي زيدان. أما حكومة زيدان التي تولت السلطة في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 فقد كانت على موعد مع حادث خطير وغير مسبوق، حين خطفت إحدى الميليشيات المسلحة رئيس الحكومة نفسه، تزامناً مع تصاعد أعمال الاقتتال وتنامي دور الميليشيات المسلحة في العاصمة، وتحديداً في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2013. لم يطل عمر حكومة زيدان بعد هذه الواقعة سوى بضعة أشهر، إذ صوَّت «المؤتمر الوطني العام»، (آنذاك)، بحجب الثقة عنها في 11 مارس (آذار) 2014 وتكليف وزير الدفاع عبد الله الثني، بمهام رئيس الحكومة لحين انتخاب رئيس حكومة جديد. وفي 12 مارس (آذار) من العام ذاته أدى الثني، اليمين الدستورية رئيساً مؤقتاً للحكومة لحين انتخاب رئيس وزراء دائم، غير أنه ظل في هذا المنصب حتى سبتمبر (أيلول) 2020، علماً بأن حكومته لم تحظَ باعتراف دولي. وبعد «عملية الكرامة» التي أطلقتها قوات «الجيش الوطني الليبي» في شرق ليبيا في مايو (أيار) 2014، أقال «المؤتمر الوطني العام» -المنعقد حينذاك في طرابلس- الثني، وكلف بدلاً منه عمر الحاسي. وفي مطلع أبريل (نيسان) 2015 سلَّم الحاسي رئاسة «حكومة الإنقاذ» لنائبه خليفة الغويل، فشهدت ليبيا وجود حكومتين: الأولى في بنغازي والأخرى في طرابلس. وبدأ المشهد المنقسم تُرسم معالمه، فمع وجود حكومة الثني المدعومة من البرلمان في شرق البلاد، كانت هناك حكومة الغويل في طرابلس المدعومة هي الأخرى من «المؤتمر الوطني». بعد «اتفاقية الصخيرات» الموقعة يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 2015، باتت حكومة الثني تتنازع السلطة مع حكومة «الوفاق الوطني» برئاسة فائز السراج، المعترف بها دولياً. ولكن بعدما شنت قوات «الجيش الوطني» بقيادة حفتر حربها على طرابلس (2019-2020)، طرحت الأمم المتحدة «خريطة طريق جديدة»، رعتها المبعوثة الأممية السابقة بالإنابة حينها ستيفاني ويليامز، وأسفرت عن خروج حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة إلى النور. بعد 3 أيام من المشاورات بين أعضاء البرلمان الليبي، حصلت حكومة الدبيبة على ثقة غالبية النواب في جلسة رسمية في 10 مارس (آذار) 2021، برئاسة عقيلة صالح، في مدينة سرت. مع هذا، ما لبث شبح الانقسام السياسي أن عاد مجدداً، ففي21 سبتمبر (أيلول) 2021 قرر مجلس النواب سحب الثقة من حكومة الدبيبة، ليكلف بعدها فتحي باشاغا بتشكيل «حكومة جديدة» منحها الثقة مطلع مارس (آذار) من عام 2022. لكن حكومة باشاغا أخفقت بتسلم مهامها من حكومة «الوحدة الوطنية»، بسبب رفض الأخيرة تسليم السلطة إلاّ لجهة منتخبة، الأمر الذي أعاد البلاد إلى مربع الانقسام السياسي بين حكومة معترف بها دولياً في طرابلس (حكومة الدبيبة) وأخرى غير معترف بها، وتتخذ من بنغازي وسرت مقراً لها (حكومة باشاغا). والواقع، أنه طيلة فترة تولي باشاغا السلطة في شرق البلاد، حاول عبر قوات عسكرية موالية له دخول طرابلس بالقوة لتسلم مهامه، لكن الدبيبة رفض تسليم السلطة، مؤكداً أنه لم يتخلَّ عن منصبه حتى إجراء الانتخابات العامة.وفي 16 مايو (أيار) 2023، أصدر البرلمان الليبي قراراً يقضي بتعليق مهام باشاغا، وإحالته إلى التحقيق وكلّف أسامة حماد رئيساً جديداً للحكومة، وبقي في منصبه حتى اللحظة.