فتحي باشاغا... «الرقم الصعب» في معادلة حكم ليبيا

«تجاوز الصلاحيات» يُعرقل مسيرة الوزير «الطيار»

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب»  في معادلة حكم ليبيا
TT

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب» في معادلة حكم ليبيا

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب»  في معادلة حكم ليبيا

من لم يشاهد الموكب المهيب لفتحي باشاغا، وزير الداخلية في «حكومة الوفاق» الليبية، وهو يتنقل بين شوارع ومناطق العاصمة طرابلس، فلن يدرك حقيقة ما يُحيط بهذا الرجل ذي الهندام البسيط؛ إلا أن الاستماع إليه ومتابعة أحاديثه المتلفزة يرسخ اليقين بأنه شخص يعرف ما يريد، ويخطط إلى حيث يريد الوصول.
ولأن باشاغا مُغرم بالتخطيط، فهو يجيد رسم المشهد المحيط به، ومنذ تفجر الخلاف العلني الذي اشتعل بينه وبين رئيس «المجلس الرئاسي» فائز السراج، الأسبوع الماضي، على خلفية وقف الأول عن العمل الوزاري قبل العودة عن القرار، أظهر باشاغا، ما يؤكد أنه بات «رقماً صعباً» في معادلة الحكم في ليبيا. ولعل مشهداً آخر كان هو بطله لدى عودته قبل أسبوع من أنقرة في خضم التباين مع السراج، يعزّز من صورته، إذ كان في استقبال الوزير المعلّق عمله، فرقة موسيقية عسكرية وضباط وحشد من المناصرين، بل إن عشرات الآليات المسلحة رافقته حتى منزله لحمايته.
ما أصبح عليه الآن فتحي باشاغا، وهو القريب من تركيا، والمتهم بـ«القفز على صلاحيات السراج» يختلف كثيراً عن بداياته. ذلك أن وزير الداخلية والمنتمي إلى مدينة مصراتة (بشمال غربي ليبيا) صعدت به «انتفاضة» 17 فبراير ككثيرين من أبناء جيله، وأدخلته عالم السياسة من باب الاندماج في «المجلس العسكري» الذي تشكَّل في مصراتة، عقب إسقاط نظام الرئيس الراحل معمّر القذافي عام 2011 ومنذ ذلك الوقت، وباشاغا يواصل الصعود بدأب نحو تحقيق حلمه، وإن كان بحذر شديد.
وفي مصراتة التي تقع على بعد 200 كيلومتر شرق طرابلس، وتعدّ مقراً للجماعات المسلحة النافذة، نما الفتى فتحي علي عبد السلام باشاغا (58 سنة) في المدينة التي سيقيّض لها لعب دور مهم في الأيام المقبلة بإسقاط نظام حَكَم ليبيا قرابة 42 سنة.
ومن ثم، فور إتمامه شهادة الثانوية العامة التحق بالكلية الجوية، وتخرّج فيها برتبة مُلازم طيار عام 1984؛ لكنه سرعان ما استقال عام 1993 واتجه للأعمال الحرة، ليصبح مفوضاً لـ«الشركة العالمية للاستيراد».
من نقطة التجارة الخاصة انطلق باشاغا، المولود يوم 20 أغسطس (آب) عام 1962 لبناء قاعدة جماهيرية بين أبناء مدينته الساحلية التي تعد ثالث كبرى مدن ليبيا من حيث عدد السكان بعد طرابلس وبنغازي. وطوال 18 سنة ظل منكفئاً على ذاته، مكتفياً بالاتجار في إطارات السيارات التي يستوردها من الخارج؛ وهو ما عبر عنه المتظاهرون فيما بعد بوسط طرابلس، عندما هتفوا ضده: «يسقط العجلاتي». غير أن ثمة من يرى أن باشاغا اتقى شرّ نظام القذافي، وفضل «تجارة الإطارات عن العمل في السياسة التي كانت من المحرمات، وتستوجب السجن أو الإعدام آنذاك». غير أن هذه «التقيّة» التي مارسها الطيار الشاب، واشترك فيها مع تنظيم «الإخوان» بمدينته، لم تظل كثيراً، بعد سقوط القذافي أصبح «الإخوان» وباشاغا أشبه بـ«ماردين خرجا من القمقم»، لكل منهما أهدافه وخططه المستقبلية، وهو ما عكسته غالبية التيارات السياسية والتشكيلات المسلحة التي تشكلت تباعاً.

الدخول من «باب الثورة»
ما كانت أرض مدينة سرت قد رويت بعد من دماء القذافي التي سُفكت هناك بعد.
في تلك الأثناء تحوّرت ملامح ليبيا، وبدت أكثر قسوة عما كانت عليه.
تبدّدت معها كل سمات الدولة ومقوماتها على يد التشكيلات المسلحة؛ و«المجالس العسكرية» المُستحدثة. وكانت هناك مصراتة تعيش حالة متّقدة من الزهو، برّرها أحد أبنائها في حديث إلى «الشرق الأوسط» قائلاً: «نحن الذين صنعنا الثورة، ونقدّم الشهداء دفاعاً عن طرابلس (...) أليس هذا بكافٍ لتتصدر مصراتة المشهد، بدلاً من الذين يأتون من مؤخرة الصفوف؟».
على أثر هذه الحالة «المزهوّة» التي تواكبت من تفكك الجيش الليبي آنذاك، واستحواذ المدينة على كثير من مخازن السلاح الذي جمعه أبناء القذافي في مناطق عديدة بالبلاد، تشكلت لجنة قضائية، فاستدعت الضباط العاملين والمُستقيلين لتشكيل «مجالس عسكرية». وهنا تخلى تاجر الإطارات عن «تقيته»، والتحق سريعاً بالمجلس الذي شُكِّل في مصراتة لكونه «مدرب طيران مُستقيلا»، وهكذا بدأ نجم فتحي باشاغا يلوح في الأفق؛ لا سيما مع بداية التدخلات الخارجية في ليبيا.

الـ«ناتو» والفتى الطيار
وبشكل أسرع مما رسمه باشاغا، بدأت أسهمه تتصاعد؛ لا سيما، مع بداية ضربات حلف شمال الأطلسي الـ«ناتو» على ليبيا، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي يوم 17 مارس عام 2011 بفرض حظر جوي على البلاد، ثم تنظيم هجمات مُسلحة ضد قوات القذافي الجوية لإعاقة حركتها، ومنعها من التحليق في الأجواء الليبية.
هنا برز دور الفتى الطيار باشاغا، بوصفه رئيس قسم «المعلومات والإحداثيات» في المجلس العسكري بمصراتة، وتقرب بما يكفي من أطراف دولية، أبرزها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وهي المرحلة التي يرى أقرانه أنها كانت «بداية طريق» باشاغا الحقيقية؛ إذ إنه كان المسؤول عن منح الـ«ناتو» الإحداثيات اللازمة لضرب قوات القذافي، وفعلاً تيسر لها الإجهاز عليه وعليها.
في تلك المرحلة، بدا باشاغا الذي كان يستهل عقده الخمسين، يتقدم الصفوف على أنه «رجل المهام الصعبة». وأضحى نقطة ارتكاز في مدينته التي تتأهب هي الأخرى لمعركة جديدة تقودها غالبية ميليشياتها المنضوية تحت راية عملية ما عرف بـ«فجر ليبيا». وكان باشاغا، الذي انتخب عضواً بمجلس الشورى في مصراتة، أحد داعمي هذه المعركة التي أتت فيما بعد على المطار الدولي بالعاصمة. ووقف يومذاك صلاح بادي قائد «لواء الصمود» يهتف ويكرّر: «الله أكبر ولله الحمد»، عندما كانت النيران تلتهم الطائرات الرابضة في مدارجه.
وعقب إخماد نيران عملية «فجر ليبيا»، أجريت الانتخابات البرلمانية في 25 يونيو (حزيران) عام 2014 وانتخب فيها باشاغا نائباً عن مصراتة. إلا أنه سرعان ما قرر المقاطعة ضمن مجموعة من نواب المدينة، على خلفية إلغاء المحكمة العليا في طرابلس التعديل الدستوري الذي نتج عنه قانون الانتخابات؛ ولم يعتدّ به برلمان طبرق.
وكأي شيء يحدث في ليبيا، انقلبت الأوضاع في هذا البلد الغني بالنفط، وأصبح باشاغا خلال خمس سنوات ملء السمع والبصر، بما حققه من تقارب لدى شرائح «الثوار» وتأكيده الدائم على ضرورة المحافظة على «مكتسباتهم» من «مكر الساسة».

القرب من أنقرة
في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018، عيّن فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي، فتحي باشاغا وزيراً للداخلية، خلفاً للعميد عبد السلام عاشور، في خطوة وصفها البعض حينها بأنها تستهدف ترضية مصراتة، والبحث عن ثقل عسكري. ذلك أن السراج في تلك الفترة كان ينظر إلى المدينة لما تملكه من ترسانة أسلحة بأنها القوة الضرورية الدعم موقفه؛ خصوصاً في مواجهة اللواء التاسع «الكانيات» الذي كان يسيطر على مدينة ترهونة، ويهدد طرابلس من وقت لآخر.
غير أنه، قبل أن يهل الشهر السابع على تعيين باشاغا، أمر المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» بالهجوم على العاصمة، مقر حكم السراج، فتحقّق للسراج ما كان يريده!
في هذه المرحلة، انخرطت جميع كتائب مصراتة العسكرية وميليشياتها المسلحة خلف السراج، وهنا ظهر باشاغا بصور مغايرة لرجل الأعمال العازف عن الانخراط في السياسة، فأخذ يتفقد محاور الاقتتال ويتردد عليها كرجل حرب خبير، يحيط به عسكريون أشداء مدججون بالرشاشات الثقيلة، ويطَّلع على آخر المستجدات القتالية، ويرشد ويوجه، قبل أن يغادرهم.
ومنذ أن بدأت الحرب على العاصمة التي دامت 13 شهراً، وانتهت، وزيارات باشاغا إلى العاصمة التركية أنقرة لم تنقطع.
لقد تردد عليها مرات عدة، وأقام فيها طويلاً، ربما أكثر من السراج، وهو ما أرجعه البعض إلى أن تركيا تنظر إليه على أنه رهانها التالي في ليبيا، لأسباب من بينها: اضطلاعه بمهام أمنية، وقدرته الحالية على توحيد صف المقاتلين على جبهات القتال، وكذلك لمعارضته لوقف الحرب، وفقاً لرؤية السراج وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب.

«الثوار والميليشيات»
ينظر البعض إلى تحركات فتحي باشاغا الأخيرة الذي يتنقل في موكب مهيب يضم عشرات السيارات والمصفّحات وكاشفات للمتفجرات، على أنها بداية مرحلة من توسيع النفوذ، وإعادة لترتيب البيت من الداخل. وحقاً، دأب منذ انتهاء معركة طرابلس على الكلام عن الفساد، وتوجيه الانتقادات الحادة لبعض الميليشيات، وبالأخص، التابعة للمجلس الرئاسي، مثل «ثوار طرابلس»، و«النواصي» التابعة لـ«قوة حماية طرابلس»، ويرى أنها متجاوزة للقانون، في حين لم يأتِ على ذكر أي من الميليشيات التابعة لمصراتة.
انتقادات باشاغا لقوات «الرئاسي» جاءت في إطار تعهدات سابقة قطعتها وزارته على نفسها للإدارة الأميركية، ببحث وضعية الميليشيات في العاصمة. ومضى معززاً هذا التوجه بالكتابة عبر حسابه على موقع التدوينات القصيرة «تويتر»: «(الثوار) فقط هم مَن يساندون الدولة المدنية، ولا يعتدون على مؤسساتها، ويحمون الوطن والمواطن».
و«قوة حماية طرابلس» التي تمثل القوة المسلحة بالعاصمة، تضم ميليشيات «قوة الردع الخاصة» و«ثوار طرابلس» و«قوة الردع والتدخل المشترك أبو سليم»، و«باب تاجوراء»، بالإضافة إلى القوة الثامنة «النواصي».
وهكذا لاقت الخطوات التي اتخذها باشاغا باتجاه كبح جماح ميليشيات طرابلس، الحامية لظهر السراج، استحساناً أميركياً، ورفعت أسهمه داخل مصراتة التي تُوصف بأنها «دولة داخل دولة»، لما تملكه من تأثير سياسي على أي سلطة تأتي لطرابلس. وفي كل الأحوال بات الرجل يحظى بتقدير واسع من قبل الداعمين الدوليين لـ«حكومة الوفاق»، كرَّس له بلقاء وأحاديث يراها البعض بأنها جاءت خصماً من رصيد وسلطات السراج.

لماذا الصِدام؟
عشية 20 أغسطس الماضي، وجد «مُدرب الطيران» الذي لم يشاهده الليبيون يقود طائرة ولو لمرة واحدة نفسه خارج السلطة.
حصل ذلك بعدما أوقفه السراج عن العمل، وأمر بإخضاعه للتحقيق الإداري أمام المجلس الرئاسي، خلال أجل أقصاه 72 ساعة من تاريخ صدور هذا القرار، لاتهامه بتوفير الحماية للمتظاهرين. لكن باشاغا لم يبد انزعاجاً، وأعلن موافقته على التحقيق، شريطة أن يبث مباشرة على التلفزيون، كما لم يكترث بمتظاهري مدينة الزاوية الذين وصفوه في هتافاتهم بـ«العجلاتي».
من ناحية أخرى، أظهرت أزمة السراج وباشاغا تقاربا بين الأخير وتنظيم «الإخوان» في مصراتة، إذ أبدى التنظيم وذراعه السياسية حزب «العدالة والبناء» تأييداً ومساندة واسعة لوزير الداخلية الموقوف، تمثلت في مظاهرات وهتافات مناوئة للسراج؛ بل ومهينة أيضا، وهذا ما رصده يعرب البركي، الناشط السياسي في غرب ليبيا، ضمن حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إذ قال: «في هذه الليلة كانوا يخططون لانقلاب على السراج، يتولى بمقتضاه باشاغا رئاسة الوزراء، وينصّب زعيماً وطنياً لضمان وجودهم في أي تسوية سياسية مقبلة».
وتابع البركي «هذه الخطوة كانت مدعومة من أجهزة استخباراتية لدول داعمة لوجود باشاغا في المشهد السياسي، واستهدفت إيهام الرأي العام الدولي بأن للأخير حاضنة شعبية، وبالتالي فهو جدير بالتحاور معه». لكن هذه المحاولات لم تنطلِ على سكان غرب ليبيا الذين أوقفوا حراكهم السلمي، ليثبتوا أنهم يرفضون باشاغا ومن خلفه تنظيم (الإخوان).
من جهتها، اتهمت «قوة حماية طرابلس» التابعة للمجلس الرئاسي باشاغا و«الإخوان» بـ«السعي نحو الحكم بأي طريقة»، وقالت: «التزمنا الصمت طيلة الأيام الماضية التي شهدت فيها العاصمة طرابلس موجة احتجاجات شعبية مطالبة بالإصلاح ومحاربة للفساد»؛ لكن «البيانات المتضاربة لباشاغا لا تختلف كثيراً عن تصريحاته المثيرة للجدل أثناء (حرب البركان) ضد قواتنا المدافعة عن الحق».
صباح أول من أمس، خضع وزير الداخلية للتحقيق، وكان لدى عودته من زيارة إلى تركيا قد قال للصحافيين في مطار معيتيقة: «أنا لست ضد أي مجموعة ولا ضد أي فرد. أنا أتكلم عن حالة مرضية اسمها الفساد... ولا أريد هذا المنصب إذا كان لا بد من أن أظلم الشعب الليبي (...) لن أنحاز للفاسدين». والمدهش أنه كان في استقبال الوزير رغم تعليق عمله، في حينه (وقبل إعادته إلى عمله), فرقة موسيقية عسكرية وضباط وحشد من المناصرين!



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».