فتحي باشاغا... «الرقم الصعب» في معادلة حكم ليبيا

«تجاوز الصلاحيات» يُعرقل مسيرة الوزير «الطيار»

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب»  في معادلة حكم ليبيا
TT

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب» في معادلة حكم ليبيا

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب»  في معادلة حكم ليبيا

من لم يشاهد الموكب المهيب لفتحي باشاغا، وزير الداخلية في «حكومة الوفاق» الليبية، وهو يتنقل بين شوارع ومناطق العاصمة طرابلس، فلن يدرك حقيقة ما يُحيط بهذا الرجل ذي الهندام البسيط؛ إلا أن الاستماع إليه ومتابعة أحاديثه المتلفزة يرسخ اليقين بأنه شخص يعرف ما يريد، ويخطط إلى حيث يريد الوصول.
ولأن باشاغا مُغرم بالتخطيط، فهو يجيد رسم المشهد المحيط به، ومنذ تفجر الخلاف العلني الذي اشتعل بينه وبين رئيس «المجلس الرئاسي» فائز السراج، الأسبوع الماضي، على خلفية وقف الأول عن العمل الوزاري قبل العودة عن القرار، أظهر باشاغا، ما يؤكد أنه بات «رقماً صعباً» في معادلة الحكم في ليبيا. ولعل مشهداً آخر كان هو بطله لدى عودته قبل أسبوع من أنقرة في خضم التباين مع السراج، يعزّز من صورته، إذ كان في استقبال الوزير المعلّق عمله، فرقة موسيقية عسكرية وضباط وحشد من المناصرين، بل إن عشرات الآليات المسلحة رافقته حتى منزله لحمايته.
ما أصبح عليه الآن فتحي باشاغا، وهو القريب من تركيا، والمتهم بـ«القفز على صلاحيات السراج» يختلف كثيراً عن بداياته. ذلك أن وزير الداخلية والمنتمي إلى مدينة مصراتة (بشمال غربي ليبيا) صعدت به «انتفاضة» 17 فبراير ككثيرين من أبناء جيله، وأدخلته عالم السياسة من باب الاندماج في «المجلس العسكري» الذي تشكَّل في مصراتة، عقب إسقاط نظام الرئيس الراحل معمّر القذافي عام 2011 ومنذ ذلك الوقت، وباشاغا يواصل الصعود بدأب نحو تحقيق حلمه، وإن كان بحذر شديد.
وفي مصراتة التي تقع على بعد 200 كيلومتر شرق طرابلس، وتعدّ مقراً للجماعات المسلحة النافذة، نما الفتى فتحي علي عبد السلام باشاغا (58 سنة) في المدينة التي سيقيّض لها لعب دور مهم في الأيام المقبلة بإسقاط نظام حَكَم ليبيا قرابة 42 سنة.
ومن ثم، فور إتمامه شهادة الثانوية العامة التحق بالكلية الجوية، وتخرّج فيها برتبة مُلازم طيار عام 1984؛ لكنه سرعان ما استقال عام 1993 واتجه للأعمال الحرة، ليصبح مفوضاً لـ«الشركة العالمية للاستيراد».
من نقطة التجارة الخاصة انطلق باشاغا، المولود يوم 20 أغسطس (آب) عام 1962 لبناء قاعدة جماهيرية بين أبناء مدينته الساحلية التي تعد ثالث كبرى مدن ليبيا من حيث عدد السكان بعد طرابلس وبنغازي. وطوال 18 سنة ظل منكفئاً على ذاته، مكتفياً بالاتجار في إطارات السيارات التي يستوردها من الخارج؛ وهو ما عبر عنه المتظاهرون فيما بعد بوسط طرابلس، عندما هتفوا ضده: «يسقط العجلاتي». غير أن ثمة من يرى أن باشاغا اتقى شرّ نظام القذافي، وفضل «تجارة الإطارات عن العمل في السياسة التي كانت من المحرمات، وتستوجب السجن أو الإعدام آنذاك». غير أن هذه «التقيّة» التي مارسها الطيار الشاب، واشترك فيها مع تنظيم «الإخوان» بمدينته، لم تظل كثيراً، بعد سقوط القذافي أصبح «الإخوان» وباشاغا أشبه بـ«ماردين خرجا من القمقم»، لكل منهما أهدافه وخططه المستقبلية، وهو ما عكسته غالبية التيارات السياسية والتشكيلات المسلحة التي تشكلت تباعاً.

الدخول من «باب الثورة»
ما كانت أرض مدينة سرت قد رويت بعد من دماء القذافي التي سُفكت هناك بعد.
في تلك الأثناء تحوّرت ملامح ليبيا، وبدت أكثر قسوة عما كانت عليه.
تبدّدت معها كل سمات الدولة ومقوماتها على يد التشكيلات المسلحة؛ و«المجالس العسكرية» المُستحدثة. وكانت هناك مصراتة تعيش حالة متّقدة من الزهو، برّرها أحد أبنائها في حديث إلى «الشرق الأوسط» قائلاً: «نحن الذين صنعنا الثورة، ونقدّم الشهداء دفاعاً عن طرابلس (...) أليس هذا بكافٍ لتتصدر مصراتة المشهد، بدلاً من الذين يأتون من مؤخرة الصفوف؟».
على أثر هذه الحالة «المزهوّة» التي تواكبت من تفكك الجيش الليبي آنذاك، واستحواذ المدينة على كثير من مخازن السلاح الذي جمعه أبناء القذافي في مناطق عديدة بالبلاد، تشكلت لجنة قضائية، فاستدعت الضباط العاملين والمُستقيلين لتشكيل «مجالس عسكرية». وهنا تخلى تاجر الإطارات عن «تقيته»، والتحق سريعاً بالمجلس الذي شُكِّل في مصراتة لكونه «مدرب طيران مُستقيلا»، وهكذا بدأ نجم فتحي باشاغا يلوح في الأفق؛ لا سيما مع بداية التدخلات الخارجية في ليبيا.

الـ«ناتو» والفتى الطيار
وبشكل أسرع مما رسمه باشاغا، بدأت أسهمه تتصاعد؛ لا سيما، مع بداية ضربات حلف شمال الأطلسي الـ«ناتو» على ليبيا، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي يوم 17 مارس عام 2011 بفرض حظر جوي على البلاد، ثم تنظيم هجمات مُسلحة ضد قوات القذافي الجوية لإعاقة حركتها، ومنعها من التحليق في الأجواء الليبية.
هنا برز دور الفتى الطيار باشاغا، بوصفه رئيس قسم «المعلومات والإحداثيات» في المجلس العسكري بمصراتة، وتقرب بما يكفي من أطراف دولية، أبرزها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وهي المرحلة التي يرى أقرانه أنها كانت «بداية طريق» باشاغا الحقيقية؛ إذ إنه كان المسؤول عن منح الـ«ناتو» الإحداثيات اللازمة لضرب قوات القذافي، وفعلاً تيسر لها الإجهاز عليه وعليها.
في تلك المرحلة، بدا باشاغا الذي كان يستهل عقده الخمسين، يتقدم الصفوف على أنه «رجل المهام الصعبة». وأضحى نقطة ارتكاز في مدينته التي تتأهب هي الأخرى لمعركة جديدة تقودها غالبية ميليشياتها المنضوية تحت راية عملية ما عرف بـ«فجر ليبيا». وكان باشاغا، الذي انتخب عضواً بمجلس الشورى في مصراتة، أحد داعمي هذه المعركة التي أتت فيما بعد على المطار الدولي بالعاصمة. ووقف يومذاك صلاح بادي قائد «لواء الصمود» يهتف ويكرّر: «الله أكبر ولله الحمد»، عندما كانت النيران تلتهم الطائرات الرابضة في مدارجه.
وعقب إخماد نيران عملية «فجر ليبيا»، أجريت الانتخابات البرلمانية في 25 يونيو (حزيران) عام 2014 وانتخب فيها باشاغا نائباً عن مصراتة. إلا أنه سرعان ما قرر المقاطعة ضمن مجموعة من نواب المدينة، على خلفية إلغاء المحكمة العليا في طرابلس التعديل الدستوري الذي نتج عنه قانون الانتخابات؛ ولم يعتدّ به برلمان طبرق.
وكأي شيء يحدث في ليبيا، انقلبت الأوضاع في هذا البلد الغني بالنفط، وأصبح باشاغا خلال خمس سنوات ملء السمع والبصر، بما حققه من تقارب لدى شرائح «الثوار» وتأكيده الدائم على ضرورة المحافظة على «مكتسباتهم» من «مكر الساسة».

القرب من أنقرة
في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018، عيّن فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي، فتحي باشاغا وزيراً للداخلية، خلفاً للعميد عبد السلام عاشور، في خطوة وصفها البعض حينها بأنها تستهدف ترضية مصراتة، والبحث عن ثقل عسكري. ذلك أن السراج في تلك الفترة كان ينظر إلى المدينة لما تملكه من ترسانة أسلحة بأنها القوة الضرورية الدعم موقفه؛ خصوصاً في مواجهة اللواء التاسع «الكانيات» الذي كان يسيطر على مدينة ترهونة، ويهدد طرابلس من وقت لآخر.
غير أنه، قبل أن يهل الشهر السابع على تعيين باشاغا، أمر المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» بالهجوم على العاصمة، مقر حكم السراج، فتحقّق للسراج ما كان يريده!
في هذه المرحلة، انخرطت جميع كتائب مصراتة العسكرية وميليشياتها المسلحة خلف السراج، وهنا ظهر باشاغا بصور مغايرة لرجل الأعمال العازف عن الانخراط في السياسة، فأخذ يتفقد محاور الاقتتال ويتردد عليها كرجل حرب خبير، يحيط به عسكريون أشداء مدججون بالرشاشات الثقيلة، ويطَّلع على آخر المستجدات القتالية، ويرشد ويوجه، قبل أن يغادرهم.
ومنذ أن بدأت الحرب على العاصمة التي دامت 13 شهراً، وانتهت، وزيارات باشاغا إلى العاصمة التركية أنقرة لم تنقطع.
لقد تردد عليها مرات عدة، وأقام فيها طويلاً، ربما أكثر من السراج، وهو ما أرجعه البعض إلى أن تركيا تنظر إليه على أنه رهانها التالي في ليبيا، لأسباب من بينها: اضطلاعه بمهام أمنية، وقدرته الحالية على توحيد صف المقاتلين على جبهات القتال، وكذلك لمعارضته لوقف الحرب، وفقاً لرؤية السراج وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب.

«الثوار والميليشيات»
ينظر البعض إلى تحركات فتحي باشاغا الأخيرة الذي يتنقل في موكب مهيب يضم عشرات السيارات والمصفّحات وكاشفات للمتفجرات، على أنها بداية مرحلة من توسيع النفوذ، وإعادة لترتيب البيت من الداخل. وحقاً، دأب منذ انتهاء معركة طرابلس على الكلام عن الفساد، وتوجيه الانتقادات الحادة لبعض الميليشيات، وبالأخص، التابعة للمجلس الرئاسي، مثل «ثوار طرابلس»، و«النواصي» التابعة لـ«قوة حماية طرابلس»، ويرى أنها متجاوزة للقانون، في حين لم يأتِ على ذكر أي من الميليشيات التابعة لمصراتة.
انتقادات باشاغا لقوات «الرئاسي» جاءت في إطار تعهدات سابقة قطعتها وزارته على نفسها للإدارة الأميركية، ببحث وضعية الميليشيات في العاصمة. ومضى معززاً هذا التوجه بالكتابة عبر حسابه على موقع التدوينات القصيرة «تويتر»: «(الثوار) فقط هم مَن يساندون الدولة المدنية، ولا يعتدون على مؤسساتها، ويحمون الوطن والمواطن».
و«قوة حماية طرابلس» التي تمثل القوة المسلحة بالعاصمة، تضم ميليشيات «قوة الردع الخاصة» و«ثوار طرابلس» و«قوة الردع والتدخل المشترك أبو سليم»، و«باب تاجوراء»، بالإضافة إلى القوة الثامنة «النواصي».
وهكذا لاقت الخطوات التي اتخذها باشاغا باتجاه كبح جماح ميليشيات طرابلس، الحامية لظهر السراج، استحساناً أميركياً، ورفعت أسهمه داخل مصراتة التي تُوصف بأنها «دولة داخل دولة»، لما تملكه من تأثير سياسي على أي سلطة تأتي لطرابلس. وفي كل الأحوال بات الرجل يحظى بتقدير واسع من قبل الداعمين الدوليين لـ«حكومة الوفاق»، كرَّس له بلقاء وأحاديث يراها البعض بأنها جاءت خصماً من رصيد وسلطات السراج.

لماذا الصِدام؟
عشية 20 أغسطس الماضي، وجد «مُدرب الطيران» الذي لم يشاهده الليبيون يقود طائرة ولو لمرة واحدة نفسه خارج السلطة.
حصل ذلك بعدما أوقفه السراج عن العمل، وأمر بإخضاعه للتحقيق الإداري أمام المجلس الرئاسي، خلال أجل أقصاه 72 ساعة من تاريخ صدور هذا القرار، لاتهامه بتوفير الحماية للمتظاهرين. لكن باشاغا لم يبد انزعاجاً، وأعلن موافقته على التحقيق، شريطة أن يبث مباشرة على التلفزيون، كما لم يكترث بمتظاهري مدينة الزاوية الذين وصفوه في هتافاتهم بـ«العجلاتي».
من ناحية أخرى، أظهرت أزمة السراج وباشاغا تقاربا بين الأخير وتنظيم «الإخوان» في مصراتة، إذ أبدى التنظيم وذراعه السياسية حزب «العدالة والبناء» تأييداً ومساندة واسعة لوزير الداخلية الموقوف، تمثلت في مظاهرات وهتافات مناوئة للسراج؛ بل ومهينة أيضا، وهذا ما رصده يعرب البركي، الناشط السياسي في غرب ليبيا، ضمن حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إذ قال: «في هذه الليلة كانوا يخططون لانقلاب على السراج، يتولى بمقتضاه باشاغا رئاسة الوزراء، وينصّب زعيماً وطنياً لضمان وجودهم في أي تسوية سياسية مقبلة».
وتابع البركي «هذه الخطوة كانت مدعومة من أجهزة استخباراتية لدول داعمة لوجود باشاغا في المشهد السياسي، واستهدفت إيهام الرأي العام الدولي بأن للأخير حاضنة شعبية، وبالتالي فهو جدير بالتحاور معه». لكن هذه المحاولات لم تنطلِ على سكان غرب ليبيا الذين أوقفوا حراكهم السلمي، ليثبتوا أنهم يرفضون باشاغا ومن خلفه تنظيم (الإخوان).
من جهتها، اتهمت «قوة حماية طرابلس» التابعة للمجلس الرئاسي باشاغا و«الإخوان» بـ«السعي نحو الحكم بأي طريقة»، وقالت: «التزمنا الصمت طيلة الأيام الماضية التي شهدت فيها العاصمة طرابلس موجة احتجاجات شعبية مطالبة بالإصلاح ومحاربة للفساد»؛ لكن «البيانات المتضاربة لباشاغا لا تختلف كثيراً عن تصريحاته المثيرة للجدل أثناء (حرب البركان) ضد قواتنا المدافعة عن الحق».
صباح أول من أمس، خضع وزير الداخلية للتحقيق، وكان لدى عودته من زيارة إلى تركيا قد قال للصحافيين في مطار معيتيقة: «أنا لست ضد أي مجموعة ولا ضد أي فرد. أنا أتكلم عن حالة مرضية اسمها الفساد... ولا أريد هذا المنصب إذا كان لا بد من أن أظلم الشعب الليبي (...) لن أنحاز للفاسدين». والمدهش أنه كان في استقبال الوزير رغم تعليق عمله، في حينه (وقبل إعادته إلى عمله), فرقة موسيقية عسكرية وضباط وحشد من المناصرين!



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.