فلسفة الحياة في لعبة الزمن حسب كريستوفر نولان

«تَنِت» يعود للماضي لإنقاذ الحاضر

كريستوفر نولان خلال التصوير
كريستوفر نولان خلال التصوير
TT

فلسفة الحياة في لعبة الزمن حسب كريستوفر نولان

كريستوفر نولان خلال التصوير
كريستوفر نولان خلال التصوير

المشاهدة الأولى لفيلم مثل Tenet هي للتعرّف إليه فقط. الثانية هي لدراسته. هذا هو حال كل فيلم يقتطع من الحياة التي نعيش حجماً كبيراً من الخيال والفن ليجسده على الشاشة الكبيرة لمشاهدين توّاقين دوماً للسفر البعيد في رحاب الفيلم الجيد.
ليست المرّة الأولى التي يغرف فيها المخرج كريستوفر نولان من هذا المعين ولا هي المرّة الأولى الذي يحقق فيلماً عليك أن تشاهده مرّة ثانية لتصل إلى أبعاده ومراميه. هذا حدث منذ عشرين سنة عندما أخرج Memento الذي، مثل «تَنِت» هو حكاية تشويقية تتعامل والزمن.
ليس أن كل أفلامه تعاملت والزمن طبعاً، لكن الزمن تعامل معها كلها.
هناك الشرطي الذي لا يعرف النوم في Insomnia («أرق»، 2002) مع ما يُخالط ذلك من دمج الأوقات في سياق واحد متواصل لا يعرف الانقطاع. في «ذَ برستيج» (2006) تعامل نولان مع التنافس بين ساحرين على توظيف الزمن (من بين محاور وعناصر أخرى) حباً في تفوّق كل منهما على الآخر.
ثم جاء Inception («تأسيس»، 2010) بكل ما حواه من دخول وخروج أبطاله من حالات توظّف الأحلام، وهو بعد زمني موازٍ، لتنفيذ عملية دس ذلك الحلم - الزمن في شخصية أخرى. ثم عمد نولان في Interstellar («نجوميات»، 2014) إلى الزمن المطلق، ذلك الذي على الأرض، وذلك الذي في الفضاء الخارجي معاً.
بالتالي، فقط ثلاثية «باتمان» التي أخرجها ما بين 2005 و2012) وفيلم «دنكيرك» (2018) لا تعرف تناول عامل الزمن في صميم الحكاية المُسردة.
- ما الذي يحدث؟
«تَنِت»، في واقعه، كله لعب في الزمن أو - بالأحرى - لعب على منوال الزمانين. واحد مضى والآخر حاضر. واحد نؤمن بأنه لا يعود وحاضر نعرف أنه سيتغيّر وسيصبح ماضياً. لكنهما عند نولان متصلين وبل قد يقفز أحدهما إلى حضن الآخر في نوع من الاحتلال فارضاً التغيير عليه. ثم هناك المستقبل ولو أن الرحلة التي سينجزها «البطل» (كما هو اسمه في الفيلم) ليست صوب المستقبل لمنع حدوثه، بل صوب الماضي لمنع حدوث المستقبل.
البطل المقصود (يؤديه جون ديفيد واشنطن) أميركي يعمل لحساب مؤسسة حكومية تتعامل والحكومة الأميركية، والمهمّة المسندة إليه هي مواجهة هجوم مصالح سياسية وأمنية يخطط لها روسي شرير اسمه ساتور (كينيث براناف) بغية إشعال حرب مدمّرة. هناك عميل آخر يدخل في الصورة له اسم محدد هو نيل (روبرت باتنسُن) يعمل لصالح المخابرات البريطانية التي تريد أن تعرف ما الذي يحدث تماماً ولماذا. وجهتهما تصبح واحدة وهي وضع مصيدة للروسي ساتور (كينيث براناف) أو، على الأقل، إحباط محاولاته.
ليست المخابرات البريطانية وحدها التي تريد أن تعرف ما الذي يحدث. هناك المشاهدون كذلك. الفيلم يطرح مشاهد عدّة لا تفسير لها. يخلط بين الأزمنة في أماكن مناسبة وأخرى تبدو مُقحمة لإثارة الغرابة. هنا على سبيل المثال، قد نرى طيوراً تطير إلى الخلف ومطاردات تخرج عن الخيال المعهود لتدخل آخر أبعد منالاً وأكثر غرابة. طائرة تصطدم بمبنى ثم ترجع إلى الوراء كما لو أن الزمن محى الحاضر وأعاد كتابته.
الأصل في ذلك هو تداخل الأزمنة وعلى الأخص استعادتها. أحد المشاهد الأكثر دلالة على ذلك هو الذي نرى فيه «البطل» يرقب كيف تعود الرصاصات التي تم إطلاقها وأصابت الجدران إلى المسدس الذي انطلقت منه. عند نولان المسألة ليست عملية كوميدية على الإطلاق، بل خط موازٍ لفكرته الفلسفية حول إمكانية استعادة الماضي كما لو أنه يقول إن هذا الماضي لو تمّت استعادته سوف ينقذ الحاضر من هوانه واحتمالات نهايته.
هذه الفكرة، بالطبع، كان يمكن لها أن تذيّل أي فيلم بأقل قدر من التمويه ممكن. «تأسيس»، في الواقع، الذي بدا حين خرج للعروض في عام 2010 كما لو أنه بالغ التعقيد والغرابة يصبح أقل قدرة على التنافس مع هذا الفيلم على صعيد غرائبياته.
فكرة «تَنِت» فلسفية وتستند إلى مفهوم «السوشيال فيزيكز» حول التداخل غير المنظور بين أي فعل وما يتلوه في صلب التاريخ بحيث ما الفرد عليه اليوم ليس إلا نتاج قرارات وأفعال فردية تم اتخاذها قبل عقود، وبل قرون، من ولادته. لكن لا تتوقع من «تَنِت» أن يطرح المسائل لمناقشتها. ولا هو هادف إلى البحث المعمّق فيما يطرحه حول الزمن. أهمية ما نراه ليست في اتخاذ موقف أو التعبير عن قضية، بل معالجة الأفكار الواردة على نحو لغزي كامل والنجاح في هذه الغاية لما وراء المتوقع.
- أفكار حول الزمن
مع مطلع الفيلم (عملية إرهابية في كييف) يشكل المخرج نولان تحديات موجهة إلى الجمهور. لا يخشى أن العديد من مشاهديه سيجد صعوبة في مجاراته وحل أحجياته، بل يتخذها سبيلاً للتشويق. في الواقع الفيلم المذكور لن يعدو أكثر من حكاية جاسوسية - تشويقية مع مطاردات ومشاهد قتال، فيما لو قلّص نولان حجم اعتماده على الألغاز المرصودة. تلك الألغاز هي مشاهد تدعو للتعجب و- كما ذكرت - بعضها عبارة عن أسئلة بلا أجوبة، لكنها ليست في سياق الفانتازيا لأجل الفانتازيا أو الغرابة وحدها. هناك مشاهد تفسّرها مشاهد لاحقة بلا ريب شرط أن يجد المشاهد الزاوية الصحيحة لمتابعة الأحداث.
المراد في «تَنِت» ليس التحليل بل التعرّف إلى ما يسرده وقبوله حتى وإن بدا غريباً أو، لدى بعض المحافظين، غير صحيح. على ذلك، ما يوفره المخرج من أفكار حول الزمن ومآلاته بالغ الجدية من دون شك. يترك لك المخرج المساحة التي تريد احتلالها في هذا الكيان الذي يوفّره. قد تطلب القليل مفضلاً الانسياب مع العرض المشوّق المليء بالمؤثرات كما بالأحداث المتلاحقة. أو ربما تريد أن تصاحب الفيلم على موجته العليا. أن تفهم مرادات المخرج وما يوعز به وكيف يتعامل مع الزمن فلسفياً محذّراً من مستقبل لا يتلاءم والإنسان بل يتركه لاهثاً ومهزوماً.
المسألة المؤكدة هنا (كما في «نجوميات») هو أن هذا المستقبل وصل بالفعل ونعيشه وهو يقضم حياتنا الحاضرة. عندما كتب المخرج هذا الفيلم قبل ست سنوات كان العالم بدأ يثق بالتحذيرات التي سبقت ذلك الحين. شاهد كيف أن هناك مشاكل بيئية في البحر والجو وعلى الأرض. شاهد جفاف أنهر وذوبان جليد وارتفاع منسوب بحار. شاهد التلوّث في السماء والبحار وكيف أن المنظومة التي خلقها الله للأرض بفصولها الأربعة تعرّضت لخلل من صنع الفساد البشري.
في «نجوميات» (أو «بين النجوم» كما يصح القول أيضاً) هناك ذلك الاعتناء بحال الدنيا ومستقبلها. في «تَنِت» هناك اعتناء مماثل إنما في عمل مختلف في حكايته.
حين نسمع الشرير ساتور يعترف بأن مستقبل الأرض بات في خطر (يقول «أكبر أخطائي أني جلبت لعالم على شفير الانهيار ابناً) لا يبقى شك في أن لعبة الأزمنة ممتزجة هنا برغبة المخرج لا التحذير فقط، بل المواجهة على أمل أن يتدخل التاريخ لإعادة توجيه الحاضر والمستقبل. هناك من يرتدي الكمّامات والأقنعة في هذا الفيلم تماماً كما المشاهدين. نقطة لقاء لا يجب أن تفوت أحداً.
لكن «تَنِت» ينتمي إلى منظومة «تأسيس» من حيث حكايته (كتبه المخرج أساساً كملحق لذلك الفيلم) أكثر مما ينتمي إلى «نجوميات». ينتمي أيضاً إلى اندفاعه في سبيل سينما مُدهمة. ضخمة. يوظفها على أكثر من صعيد ويحميها من عثرات اليوم.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

البحرية الأميركية تهدي توم كروز أعلى وسام مدني

توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
TT

البحرية الأميركية تهدي توم كروز أعلى وسام مدني

توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
توم كروز مع الجائزة (أ.ب)

حصل الممثل توم كروز على أعلى وسام مدني من البحرية الأميركية، اليوم الثلاثاء، عن «مساهماته الفنية المتميزة في البحرية ومشاة البحرية» في فيلم «Top Gun» وأفلام أخرى.

ووفقاً لـ«رويترز»، حصل كروز، في أثناء عمله بالمملكة المتحدة، على جائزة الخدمة العامة المتميزة من وزير البحرية الأميركي كارلوس ديل تورو في حفل أقيم في استوديوهات لونغ كروس بالقرب من لندن.

وقال الممثل البالغ من العمر 62 عاماً إنه فخور بتلقي «التقدير الاستثنائي» الذي جاء مع ميدالية وشهادة.

وقال كروز: «أنا معجب بكل العسكريين... أعرف أن القيادة تعني الخدمة، وأرى ذلك في العسكريين».

ومن جهتها، قالت البحرية إن كروز «زاد من الوعي العام والتقدير لأفرادنا المدربين تدريباً عالياً والتضحيات التي يقدمونها في أثناء ارتداء الزي العسكري».

لقد حقق فيلم «Top Gun» الذي صدر عام 1986 نجاحاً كبيراً، وهو يدور حول أبطال الطيران في أثناء الحرب الباردة وجعل من كروز نجماً، كما أدى إلى زيادة كبيرة في أعداد الملتحقين بالجيش.

تجدد الاهتمام بالفيلم عام 2022 «Top Gun: Maverick»، حيث قام كروز بإلهام جيل جديد من الطيارين النخبة.

وقالت البحرية إن الفيلم التكميلي «أعاد الحنين إلى الجماهير الأكبر سناً فيما استهدف بشكل كبير اهتمام الجمهور الأصغر سناً بالمهارات والفرص التي يمكن أن توفرها البحرية».