«أورفوار عكا».. المفاضلة بين «الجزار» الحاكم المستبد ونابليون المحتل

عن المدينة وعلاء حليحل وروايته التي لاحقها متطرفون حتى مقاعد الدراسة

غلاف «أورفوار عكا»  -  علاء حليحل
غلاف «أورفوار عكا» - علاء حليحل
TT

«أورفوار عكا».. المفاضلة بين «الجزار» الحاكم المستبد ونابليون المحتل

غلاف «أورفوار عكا»  -  علاء حليحل
غلاف «أورفوار عكا» - علاء حليحل

إنها المفاضلة الأصعب، تلك التي يطرحها الفلسطيني علاء حليحل، في روايته الجديدة «أورفوار عكا»، الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان. مفاضلة بين حاكم مستبد (أحمد باشا الجزار) وبين احتلال غربي (نابليون وقواته).
يتكئ حليل في روايته، على حكاية حصار عكا الذي يجعل منه خلفية للعمل، وبالتحديد عام 1799 زمنيا، ليعكس إحدى حالات الصمود الفلسطيني، من دون أن يهتم بالشعارات، أو تجرفه الدلالات السياسية، وينشغل بالبعد الإنساني. ولعل هذا ما دفعه إلى التأكيد، في بداية عمله، بأن «أورفوار عكا» ليست رواية تاريخية، وأطلق بالتالي الكثير من خياله في إطار العلاقات المجتمعية والإنسانية وتحولاتها ما بين الحب والغضب والخيانة.
ولعل «أنسنة» كل من الجزار ونابليون ضايقت الكثيرين، وتركت بعض ردود الفعل السلبية. لكن علاء حليحل، يدافع عن ذلك بقوله: «فعلت ذلك لأن الشخصيات الأدبية تختلف عن الواقع وعن رغبتنا في رؤية الواقع. فأنسنة السفاح نابليون، ليست أمرا مستحسنا في سياق حربنا مع الغرب، إذ يجب أن يظل وحشا كولونياليًّا.. هكذا نعرف التعامل معه»، ويضيف: «في السياق الأدبي، الأمر محسوم عندي مائة في المائة، أحب شخصياتك دائما، واعطها العمق والتعقيدات البشرية، وسِر معها في القصة كما لو أنك رفيقها وليس جلادها.. قلت أكثر من مرة في هذا السياق، إنني لو قررت يوما ما كتابة رواية عن هرتسل، فإنني مضطر لحبه وتعقب خفاياه البشرية وحسناته ونقاط ضعفه وقوته كإنسان.. هذه أسس الكتابة.. إذا لم أكن قادرا على ذلك، فليس علي كتابة رواية عن هرتسل».
وتعكس «أورفوار عكا» اهتماما من حليحل بالموروث والهوية، عبر نبش الأوراق التاريخية مرة أخرى، ليس لغرض تأريخي هذه المرة، ولكن لغرض إبداعي أدبي. فـ«أورفوار عكا»، رواية استثنائية لجهة الموضوع الذي اختاره الكاتب، وأيضا من حيث تقنية السرد. وهي تدخل عموما في إطار توجه حليحل في مشروعه الروائي خاصة والإبداعي عامة، إلى المناطق الإشكالية أو المسكوت عنها. وفي روايته الأخيرة يكتب عن مرحلة تاريخية تجمع ما بين عكا المدينة، وعكا التاريخ، وعكا الحدث، فالرواية تنطلق من حصار عكا، والحملة الفرنسية، وحكاية نابليون الشهيرة التي رمى فيها قبعته حين فشل في اقتحام المدينة.
وكشف حليحل لـ«الشرق الأوسط»، أن الكاتب والأديب الفلسطيني الراحل، حنا أبو حنا، أخبره ذات يوم، بأن باريس أرسلت، خلال حملة نابليون بونابرت العسكرية لاقتحام عكا، سفينة تحمل على ظهرها عددا كبيرا من بنات الليل لرفع معنويات جنودها. وأن أبو حنا، طلب منه أن يتكئ على هذه الحادثة للخروج برواية تاريخية حول حصار عكا. وقال حليحل: «بعد عامين من إقامتي في عكا، التي بدأت أحبها بشغف قبل الدخول في مرحلة التحفظ منها، في عملية البحث.. عكا مكان جميل للغاية لأغراض السياحة، لكنه مؤلم جدا للسكن. ما يحدث في عكا اليوم، هو استنساخ لكارثة يافا التي تغرق في الإجرام والرعب والفقر.. علاقتي اليوم شائكة مع عكا، ما بين حب قاتل وكراهية كبيرة أحيانا».
وأشار صاحب «أورفوار عكا»، إلى أن ما أثاره حول تعامله في روايته، مع ما أسماه «أسطورة حصار عكا»، وقال: «قرأت مراجع عربية قديمة عن أحمد باشا الجزار، أبرزها حيدر الشهابي، ومراجع أخرى معاصرة، ومراجع إسرائيلية أيضا، ومذكرات 6 ضباط رافقوا نابليون في حملته، وهي بالإنجليزية مترجمة عن الفرنسية»، لافتا إلى أنه اكتشف بأن لا تاريخ واضح المعالم حول حصار عكا، بل ثمة روايات وليس أكثر، وكل يروي روايته بالاتكاء على هذه المراجع ووفق ما يريد. «لذا شعرت بالراحة، لأن روايتي ستكون واحدة من جملة روايات عن الحصار.. ما همني هو السرد، والحبكة، وبناء الشخصيات، والمدلولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وليس التاريخ ومراجعه بقدسيته التي أشكك فيها، خصوصا إذا كان الحديث عن حصار عكا».
ويمكن القول بأن «أورفوار عكا» تقوم على حضور المرجعية التاريخية كخلفية بعيدة جدا، في حين أن ما يدور على أرضية الرواية، عمليا، من أحداث، هو إعادة إنتاج للتاريخ، وتورط في الفعل التاريخي نفسه، ومحاولة تعبئة الفراغات المتروكة في السرديات التاريخية التي يكتبها «الأقوى» عادة، لصالح شخصيات تنتمي إلى الحياة. هناك «وقعنة» للأسطوري، وأسطرة للعادي، بحيث تضع الرواية شخصا بحجم بونابرت جنبا إلى جنب مع «الخوزقجي»، وهو الشخص الذي يمتهن تعذيب الناس بوضعهم على الخوازيق.
في «أورفوار عكا»، لا يغرق حليحل في التنظير لرواية تاريخية دون غيرها، ولا يغرق القارئ معه، ولا يسرف في محاولة تفكيك رواية عن «حدث عكا» لصالح رواية أخرى. بل ينجح، إلى حد كبير، في تجاوز المرجعية التاريخية، بما يتيح للشخصيات أن تبني بنفسها مرجعياتها من داخل الفعل الروائي نفسه. فالرواية تنحاز في شفراتها إلى القيم الإنسانية العليا، المتمثلة بالتسامح والتعدد والانفتاح، عبر كشف ما هو بشع وضيّق ومتوحش.
وكانت جهة متشددة في مدينة باقة الغربية في الأراضي المحتلة عام 1948، أطلقت على نفسها «أنصار الحق»، شنت حملة شرسة على معلم اللغة العربية في مدرستها الثانوية، علي مواسي، إثر قراره تدريس رواية «أورفوار عكا»، حيث طالبت بإقصاء المعلم وفصله من عمله، بحجة الإساءة للدين. وجاء هذا الموقف، تتويجا لحملة شرسة من التهديدات التي تلقاها مواسي، التي وصلت إلى إلقاء خطب تحريضية ضده في عدد من مساجد المدينة، واضطر مواسي إلى الاستقالة، قبل أن يعود إلى التدريس مجددا.
وقالت الكاتبة والناقدة الأدبية بديعة زيدان عن الرواية لـ«الشرق الأوسط»: «ما يميز هذه الرواية لغتها الأنيقة وتسلسل الأحداث الجميل والمتناسق، فحليحل لم يقع في فخ الحشو، بل على العكس تماما، لدرجة أن إهمال أية فقرة أو سطر قد يجعلك تضيع حجرا من حجارة الأساس في الرواية، وهو ما يحسب له، ولها ما يميزها عن كثير من الروايات حتى من حقق الشهرة منها.. من اللافت استخدام مصطلحات تركية تتماهى والحقبة الزمنية التي طرقتها الرواية، ومن الواضح أن الكاتب صال وجال في تلك الحقبة الزمنية وجمع وقرأ الكثير عنها، كما أنه حلق في عالم الخيال إلى جانب الحقيقة حتى جعل القارئ يعيش مع الرواية أحداثا لا يعلم هل هي خيال أم حقيقة، وهذا ما دفعني لاستخدام (غوغل) في البحث عن صحة بعض المعلومات ومدى حقيقية الشخوص في الرواية».



يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة

يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة
TT

يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة

يوهان هيس وموهق الغنامي... صداقة إنسانية كبيرة

نشرت «الشرق الأوسط» في صفحة «ثقافة وفنون»، بتاريخ 13 أكتوبر 2024، مادة مهمة للباحث السعودي قاسم الرويس عن اكتشاف قاموس خاص بلهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ، يوثق لهجات محكية في السعودية قبل أكثر من 100 عام. هذا القاموس هو جزء من الجهود العلمية العظيمة للباحث الكبير يوهان جاكوب هيس (1866 - 1949) عالم اللغة السويسري المتخصص. نحن نعرف عن هيس أنه المستشرق الذي كتب قصة حياة شاعرنا الفارس الشهير مُوهِق بن عَجاج الغنّامي، ووضع صورة الشاعر على غلاف كتابه، فضمنّا بذلك ألا يغيب وألا يكتسحه النسيان. صورة معبرة للغاية يظهر فيها موهق بملامحه البدوية الخشنة وجدائله الطويلة وسمرة الصحراء التي رسمت ملامحه، ولكن الناس لا يعرفون الكثير عن صاحب الكتاب.

لذلك لعله من المناسب هنا أن نأخذ تصوراً كافياً عن هذا المستشرق الذي تخرج في جامعتي برلين وستراسبورغ مختصاً بعلم المصريّات والآشوريّات واللغات الساميّة، وعلم الصينيّات، وحصل على درجة الدكتوراه بين عامي 1889 و1891، ثم عمل معلّماً خاصاً، ودرّس علم المصريّات والآشوريّات بين عامي 1891 و1908 في جامعة فرايبورغ السويسرية. هذا ما منحه فرصة السفر إلى مصر والنوبة لمدة 4 سنوات ليستقر في القاهرة أثناء قيامه بوظائف في هيئة المساحة البريطانية بالمكتب البريطاني في مصر. في هذه الفترة التقى هيس بشاعرنا موهق الغنامي وابتدأت بينهما صداقة إنسانية عظيمة.

ثم عاد الأستاذ إلى سويسرا عام 1918، ليعمل في معهد الاستشراق؛ حيث ترقى إلى مرتبة أستاذ فخري عام 1936، وهو في عمر يناهز 70 عاماً. تزوج هيس مرتين وتوفي في زيورخ 29 أبريل 1949، عن عمر يناهز 83 عاماً.

إذا كان هيس قد غادر مصر في 1918 فهذا يعطينا نوعاً من التحديد لزمن ذلك اللقاء، لكن ماذا كان الشاعر يفعل في مصر خلال هذه الفترة، في نهاية الحرب العالمية الأولى؟ هذا ما يحيّر كثيرين إلى هذه اللحظة. فقد عاش الشاعر موهق الغنامي معظم حياته في مصر يكتب القصائد العذبة شوقاً لنجد وأهلها من أبناء عمومته ويتساءل شعراً، هل يسألون عنه الحجيج القادمين من مصر، أم أنهم قد نسوه؟ وكيف أنه يشتاق إليهم لدرجة أن يرى وجوههم في الأحلام، ليستيقظ فيجد نفسه وحيداً في دار غريبة، وأن قلبه لرقته تجاههم يهفو إليهم كالطير المنحدر من قمم الجبال. ومما شابه هذا من الصور البديعة واللغة الرقيقة التي لا شك في كونها صادرة عن عاطفة عميقة.

يرجح الرويس أن من ورد ذكره في الرسالة القادمة من سويسرا وأسماه الشاعر «العم محمد» هو محمد العلي الذي يعمل موهق عنده. وفي الرسالة يتحدث الشاعر عن الخواجة والست، وكما هو واضح، يقصد هيس وزوجته، وأن وجوده في سويسرا كان لزيارة صديقه هيس في فترة قيام الأخير بالتدريس في جامعة زيورخ بعد تركه مصر؛ مما يعني أن صداقتهما لم تنتهِ في مصر. وفي الرسالة يصف الشاعر رحلته الشاقة من الإسكندرية بالباخرة، ثم إكمال الرحلة بالقطار ماراً بالنمسا وإيطاليا وصولاً إلى سويسرا.

موهق الغنامي الذي لا نعرف - نحن أبناء عمومته - على وجه اليقين سبب انتقاله إلى مصر في الربع الأول من القرن العشرين، قد هُيئ له هيس لكي يكتب عنه، بل إنه مرجعيته الأولى في كل ما يتعلق بالجزيرة العربية. وسُخر لمؤلفات هيس مستشرق آخر هو البروفيسور مارسيل كوربرشوك الذي خدم هيس وأبرز أهمية إنتاجه، وها نحن نرى الباحث قاسم الرويس وهو يسخر جهده لأعمال مارسيل وحكاية هيس وموهق، من ضمن اهتماماته بالتراث السعودي وحكاياته المهمة.

لقد وثق هيس بموهق مصدراً معرفياً عن عرب الجزيرة، فصار ينقل عنه أجوبة على أسئلته عن عادات عرب الجزيرة وكل ما يتعلق بحياتهم، ونقل عنه أيضاً شيئاً من أخباره الشخصية وقصص فروسيته وبطولته، بل إنه كتب سيرة موهق في كتابه «von den beduinen».

والجديد، الذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط»، معلومة قد لا يعرفها بنو عمومته، ألا وهي أن موهق قد زار سويسرا في تلك الفترة المبكرة. فكل ما نعرفه أنه عاش حياته في مصر ولم يعقب، لا أبناء ولا بنات. هناك من كان يداعب المستشرق مارسيل كوربرشوك بالقول إن مارسيل ربما يكون ابناً لموهق لكثرة ما يطرح من الأسئلة عنه ويتثبت من قصصه، لكن المؤكد أنه لم يعقب وقيل لم يتزوج. ولأنه لم يخلف ذرية يوضحون لنا كيف عاش، فستبقى حياة الشاعر لغزاً بالنسبة لمن يهمّهم أمره.

هناك مَن تَصور أن ثمة أسباباً سياسية وراء سكن الشاعر في مصر، لكن أغلب الباحثين الجادين ينفون العامل السياسي، فقد وفد موهق إلى السعودية في آخر حياته وألقى قصيدة بين يدي الملك فيصل. والدليل الأوضح أنه لا يوجد في شعره ما يدل على أدنى معارضة سياسية، ولا في القصص المحكية عنه. كما أن بعض أشعاره تدل على عدم ابتهاجه بالعيش في القاهرة. إذن ما الذي أبقاه فيها معظم حياته؟ الأغلب على ظني أنه كان يقيم هناك طلباً للرزق لا أكثر. لماذا لم يَعُد بعد رحلة طلب الرزق؟ لا تفسير إلا أنه على الرغم من أبيات الهجاء التي ترد أحياناً في شعره لمصر والمصريين، فقد أحب مصر والمصريين، ويبدو أنه تزوج منهم واختار أن يعيش بينهم. وفي ظني، لا يوجد تفسير آخر.