سنوات السينما: «الفتوَّة»

فريد شوقي في «الفتوَّة»
فريد شوقي في «الفتوَّة»
TT

سنوات السينما: «الفتوَّة»

فريد شوقي في «الفتوَّة»
فريد شوقي في «الفتوَّة»

(1957)
(جيد)
حكاية صعود وهبوط
بطل شعبي
قبل عام واحد من هذا الفيلم، قام المخرج صلاح أبو سيف بتقديم فيلم رائع آخر هو «شباب امرأة». والعامل المشترك بين ذلك الفيلم و«الفتوَّة» مؤكد ليس لكون مخرجهما واحداً؛ بل لأنهما يسبران غور المنطقة الشعبية في القاهرة، ويتعاملان مع شخصياتهما بالثقافة والمعرفة ذاتيهما المشهودتين للمخرج في أفلامه الواقعية الأخرى.
كذلك هناك حقيقة أن كلا الفيلمين عن صعود وهبوط بطله، وينتهي على نحو متشابه. في «شباب امرأة» يصل شكري سرحان الجاد في طلب العلم إلى الحارة. تصطاده «المعلِّمة» تحية كاريوكا وتصنع منه شخصاً آخر ثم ترميه وقد نفد وقوده، باحثة عن سواه. المشهد النهائي وصول شاب آخر إلى الحارة ذاتها بأحلام جادة، تمهيداً لدخول شبكة العنكبوت ذاتها.
هنا في «الفتوَّة»، وبعدما شاهدنا صعود هريدي (فريد شوقي) من حمَّال صعيدي رضي بأن يعمل بدل الحمار في جر العربة أول وصوله إلى الحارة القاهرية طلباً للعمل، نراه يحارب من أجل العدالة الغائبة، وضد جشع تاجر السوق الأول أبو زيد (زكي رستم). بعد انتصاره على أبو زيد تحوَّل هريدي إلى طاغية آخر قبل أن يصفِّي كل منهما الآخر في معركة ختامية. المشهد الأخير لقادم جديد (محمود المليجي) يبدأ خطواته الأولى في الحارة بالسذاجة والبراءة اللتين دخل بهما هريدي تلك الحارة ذاتها.
بذلك، النهاية هي البداية في «الفتوَّة» و«شباب امرأة» حالما تُتاح الفرصة أمام الفرد المحروم للوصول إلى سدَّة النجاح. وقف هريدي مع المظلومين و«الغلابة» من عامَّة الناس في مطلع الفيلم، وتجسس على أبو زيد ليطيح به. لكن ما إن تمكَّن من السيطرة على حركة السوق التجارية حتى انقلب بتدرج سريع إلى أبو زيد آخر. والحال قد يتكرر مع القادم الجديد؛ لأن هناك - في مفهوم أفلام أبو سيف - تلك الرغبة الجامحة للبشر في الهيمنة والصعود على أكتاف الآخرين.
قصة «الفتوَّة» وضعها في الأساس فريد شوقي. وكتبها كسيناريو أخير، بعد مرورها على محمود صبحي والسيد بدير (عمل الأخير على سيناريو «شباب امرأة» أيضاً) كل من أبو سيف ونجيب محفوظ. وهي حافلة بمواقف الروائي المصري الكبير الواردة في رواياته الاجتماعية والواقعية، لدرجة أن الفيلم يبدو كما لو كان ينتمي إلى أعمال محفوظ الروائية بالمقدار ذاته الذي ينتمي فيه إلى أعمال أبو سيف.
الرائع في هذا العمل ذلك الرصد الحقيقي والواقعي للحياة الشعبية. على عكس مخرجين آخرين تعاملوا مع قصص الحارة، لا ينشغل أبو سيف بإيضاح الواضح ولا تثبيت البعد المقصود.
لقطاته مركَّزة ومشاهده محسوبة، ولا يوجد منها ما كان يمكن أن يُحذف لأنه إضافة لما سبق ذكره.
كذلك هناك قدرته المتميزة في إدارة ممثليه (يمكن الحديث مطوَّلاً عن كل ممثل ودوره). الشخصيات الصغيرة والكبيرة منسوجة بالاهتمام نفسه، وممتزجة في أداءات لا تعرف الاغتراب. يستطيع المرء بسهولة التعرف على أن واقعية أبو سيف لا تختلف عن واقعية الياباني ياسورجيرو أوزو في أفلامه (مثل «قصة طوكيو»، 1953) إلا من حيث أسلوب وثقافة الحياة التي يرصدها كل منهما للواقع.
هذا الناقد لم يجد قراءة مؤكدة حيال أن الفيلم يصِم الدكتاتوريات، كما ذهب بعض زملاء المهنة. هو يصِم فترة ما قبل ثورة 1952، من دون أن يدلي برأي في الحقبة التالية لها. يبحث في الإنسان الذي ينهار تحت ثقل طموحاته غير المشروعة.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.