البصرة... في أزقتها دَرجَ بن برد وأبو نواس وفيها شبَّ الفراهيدي وولد الجاحظ

ترابها غفت تحت أدراجه العقول العظيمة

تمثال السياب في البصرة
تمثال السياب في البصرة
TT

البصرة... في أزقتها دَرجَ بن برد وأبو نواس وفيها شبَّ الفراهيدي وولد الجاحظ

تمثال السياب في البصرة
تمثال السياب في البصرة

حين نتحدث عن الأدب والحياة بمجملها في العراق، فإن البصرة ستقف في المقدمة من هذا الحديث، بل لا يمكن الحديث عن الأدب والريادة من دون الحديث عن دور البصرة بصفتها مصدراً للتنوير والتحولات في الأدب والحياة. وهذه القضية لها دواعٍ كثيرة، تقف في مقدمتها طبيعة البصرة بصفتها ميناءً يستقبل ويودع يومياً آلاف الجنسيات الأجنبية، مما يعني أن البصرة موئل للثقافات وللاختلاف.
وقبل الميناء، سيلوح لنا التاريخ بيده وهو يتحدث عن نفسه في أزقة البصرة القديمة، حيث ولد الفلاسفة والمفكرون والشعراء والكتاب والمشاكسون لكل شيء، فالبصرة هي المكان الذي نبتت فيه المدارس الفكرية، والكلامية، والفلسفية، والنحوية، والشعرية. ففي أزقتها درج بشار بن برد وأبو نواس، وفيها شبَّ الخليل بن أحمد الفراهيدي، وبين حاراتها القديمة ولد الجاحظ، وكتب «بيانه وتبيينه» فيها، وسار في شوارعها، ودفن في ترابها، ومنها انطلقت المدارس النحوية والميولات العقائدية، وتحت شمسها اللاهبة دارت الصراعات الكبرى، فما عرفنا المعتزلة وواصل ابن عطائها إلا من جوامع البصرة ومدارسها الفكرية، ولا اقتربنا منه إلا حين اعتزل درس أستاذه الحسن البصري في قلب البصرة القديمة، وما تراب البصرة الآن إلا ترابٌ غفت تحت أدراجه العقول العظيمة، وتسللت تحت رمضائه الأفكار الكبرى، وما السائر فوقها إلا وهو يسير على مئات وآلاف السنين من الروح الحية فيها، وكبار السحرة الذين ملأوا العقل العربي نوادر وقصصاً ومعارف لا تنفد.
فلم نسمع بالتعايش الحقيقي بين جميع أهل الديانات إلا في البصرة، بل إنها انفتحت لكل من ليس له دين، ولهذا فالبصرة عصية على التوصيف. فإذا كان العراق جمجمة العرب -كما يقولون- فقطعاً ستكون البصرة هي العقل الموجود داخل هذه الجمجمة، ودائماً ذلك العقل هو المحرك لكل أطراف الجسد، به يفكر، وبسبب من إيعازاته يقوم الجسد، وتتفتح العيون، وينطلق اللسان. والبصرة لم تكن على طول عمرها في التاريخ إلا حاضنة للحوار، وضحكة نبتت على ثغر هذه البلاد الموكولة بالأنين، والراعية لكل المواويل. والبصرة خبزة لكل جائع، ونجمة مضيئة دليلاً للحائرين؛ لم نسمع يوماً أن البصرة أكلت أبناءها، ولا مر على تاريخها الطويل أنها سكبت أحبتها في البحر، بل دائماً نسمع عنها أنها عبارة عن بيت ومضيف كبير يلوح للقادمين والجائعين والسهارى في النوم بحب تحت أركانه.
وحين نتحدث عن البصرة القريبة منا تاريخياً، بصرة القرن العشرين والحادي والعشرين، فإننا لم نعرف إلا أنها تستقبل الملوك بضحكتها، وتودع العشاق بغمزة عين، فتحت شواطئها فنبت الغناء تحتها، وبين أمواجها صدح المغنون، وخلف سفائنها ناح التائهون، ومن خلالها عرفنا الهند وما وراءه، وبسببها زرع الخليج أحلامه، نخلها أكثر من أحلام أبنائها، وحلم أبنائها أشهى من برحيها ورازقيها.
والبصرة أدبياً تميزت بميزات كثيرة، وسأتحدث عن البصرة المعاصرة -كما قلت: من النصف الثاني من القرن العشرين صعوداً للحظتنا الراهنة. فهي فضلاً عن أهميتها في الريادة الشعرية، وفضلاً عن رفدها الساحة الأكاديمية والإبداعية بأسماء كثيرة مهمة انتشرت في العاصمة بغداد لتختلط في ملامح المدينة، وتكون جزءاً من الناتج القومي للأدب والفكر بشكل عام، فإن البصرة امتازت بأنْ يبقى فيها حارسان دائماً من طبقة الأدب، بشقيه الشعري والسردي، هذان الحارسان يتناوبان على حراسة الجمال في المدينة، ويصران على أن يكونا دائماً معاً، وأنْ ينتجا أدباً في الوقت نفسه. وهذه الظاهرة امتازت بها البصرة، بأن يكون شاعرٌ وقاصٌّ متلازمين معاً، ويكونان نموذجين مصدرين للعراق كله إبداعاً وجمالاً، ولكنهما يمثلان علامة فارقة في روح المدينة، فمثلاً السياب تجد معه القاص الروائي مهدي عيسى الصقر، وتاريخياً لم ينفك مثل هذا الاشتباك الجمالي، فبوجود أبو نواس كان الجاحظ قد بدأ حياته في الكتابة والتأليف، وحين نعبر جيل التأسيس الأول في العصر الحديث، سنجد جيلاً آخر، وهما محمود البريكان يقف معه القاص محمود عبد الوهاب، وحين نصل للجيل الستيني نجد كاظم الحجاج برفقة القاص الروائي محمد خضير، وحين نعبر إلى جيلٍ آخر، نجد طالب عبد العزيز ولؤي حمزة عباس، وحين نصل إلى الراهن من الأجيال الأدبية، نجد ضياء الجبيلي مع علي محمود خضير، إن هذه الثنائية نادراً ما تجتمع في بيئة أو محافظة من المحافظات، لكنها في البصرة شكلت ظاهرة -حسب ما أظن- لم تنفك في يوم من الأيام، وأسهمت بإغناء الحياة الثقافية في البصرة، ومن ثم في العراق بشكل عام، ذلك أن الشعر يتمشى يداً بيد مع القصة والرواية، فيما شكل الحارسان الشعري والسردي أيقونة في كل جيل من الأجيال من الخمسينيات حتى هذه اللحظة.
ولا أعرف من البصرة إلا الخصيبي سعدي يوسف وعلي عباس علوان وعبد الجبار داود البصري ومحفوظ داود سلمان وحسين عبد اللطيف ومجيد الموسوي وفوزي السعد وفؤاد سالم ورياض أحمد وطارق الشبلي وداود الغنام وصادق العلي وعبد الستار البصري وسيتاهوكوبيان وعواطف السلمان وأمل خضير وسليمة خضير وعلي خلف ودكتور ماهر المسيحي الذي قال لي مرة إنه ركض خلف محمود درويش في البصرة ليوقع له، ولمَّا طلب منه التوقيع لم يجد ورقة يوقع عليها، فسحب ماهر المراهق وقتها الربع دينار من جيبه -وهو ما تبقى له-
فوقع درويش على الورقة النقدية التي أبقاها أجرة للعودة إلى البيت، لكنه عاد مشياً على الأقدام، لأن درويش وقع عليها، وعشرات عشرات غيرهم من صناع الحياة فيها. هؤلاء هم البصرة، أعرفهم كما أعرف الجاحظ وأبو نواس والخليل والحسن البصري وواصل بن عطاء، هم وجه البصرة الباقي بعد فناء وجوهها الكالحة، هم الذين سيبقون في الذاكرة لأنهم روح المدينة وضحكتها الباقية، أعرفهم فقط وأعرف الذين يشبهونهم فقط، ولا أعرف غيرهم أبداً.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.