«غاليريات الفن» في بيروت تلقت ضربة قاصمة

ما يقارب العشرين منها لحقها الخراب

غاليري تانيت قبل الانفجار
غاليري تانيت قبل الانفجار
TT

«غاليريات الفن» في بيروت تلقت ضربة قاصمة

غاليري تانيت قبل الانفجار
غاليري تانيت قبل الانفجار

كل منهم يحدثك عن العناية الإلهية التي أنقذته من الموت. فأصحاب غاليريات الفن والعاملون فيها، كانوا من بين أكثر المتضررين بالانفجار الضخم الذي هزّ العاصمة اللبنانية في الرابع من أغسطس (آب) الحالي. غالبية الغاليريات، تتمركز بالقرب من المرفأ في أحياء «الكرنتينا، والصيفي، ومار مخايل، والجميزة»، وصولاً إلى كليمنصو والأشرفية. جميعها نالها الحظ الوافر من الخراب. زاد من المأساة تلك الواجهات الزجاجية الكبيرة الهشة التي بدأت تحل مكان الباطون، في المباني القديمة المرممة، لتمنح هذه الغاليريات الجميلة وجهها الشفاف، والحداثي المفتوح على المدينة. إنها حقاً لنكبة. كل منهم يلملم اليوم جراحه، ونثار شقاء العمر. من غاليري «تانيت» إلى «شريف تابت، وجنين ربيز، ومارك هاشم، وصفيرر زملر، وصالح بركات، وعايدة شرفان، وآرت سبيس، وقصر سرسق، ودار النمر»، اللائحة تطول، والأضرار تتجاوز المباني لتطال اللوحات، والمجموعات الفنية الشخصية، والخسارة البشرية التي هي الأفدح.
في «غاليري تانيت» في مار مخايل، لحسن الحظ لم يكن من زوار، وإلا لوقعت الكارثة. فلم تنج من الأذى، سوى سامي - جو نعيم، المسؤولة عن الغاليري، وهي تروي كيف أن «قوة الصوت دفعتنا جميعاً لأن نغادر أماكننا، ونتحرك في اتجاه واحد. عندما انهارت الواجهات الزجاجية التي يبلغ ارتفاع الواحدة منها خمسة أمتار، ومعها الحديد، وسقطت أجهزة التكييف، بدا أننا وبالصدفة وقفنا في المكان الوحيد الذي كان يمكن أن نبقى فيه أحياء. شارلز الموظف في الغاليري تعرض لجروح كبيرة وخطرة في ساقه وظهره، وتحسن. متدرب كان متواجداً انكسرت ضلوعه وشقت يده. أما صاحبة الغاليري نايلة كتانة التي تقطن في الطابق التاسع، فأصيبت بتورم في كل جسدها نتيجة الصدمات، وفقدت بيتها، ومجموعتها الخاصة التي جمعتها بحب كبير طوال 35 عاماً. وهي كما الكثير من أصحاب الغاليريات التي تكاثرت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، عادت من مغتربها في ميونيخ، وليس لها من غاية سوى إعطاء ما تبقى لها من عمر وحيوية لهذا الشغف الذي يسكنها. في مبنى الغاليري نفسه مات أربعة أشخاص، بينهم المهندس المعماري الفرنسي جان - مارك بونفيس، الذي أحب بيروت وعماراتها القديمة، وكرّس حياته لإعادة ترميمها وتصميم المباني، ومن بين أهمها «إيست فيلدج» التي سكنها ومات فيها، وهو يحاول تصوير الانفجار من شرفته المطلة على المرفأ. ولا يزال التسجيل الذي وضعه على صفحته في «فيسبوك» للانفجار الأول؛ ظناً منه أنه يوثق اللحظة الأهم، موجوداً، في حين فقد هو حياته إثر الانفجار الثاني، تاركاً لمساته على المباني البيروتية، وهذا التسجيل الذي لا يمكن أن ينسى.
في «غاليري تانيت» أنقذت لوحات لفنانين رواد مثل هيلين خال، هوغيت كالان، الفريد بصبوص، إيفيت أشقر، وفريد حداد، اللوحات انتهى عرضها قبل نهاية يوليو (تموز)، وأرسلت إلى من اشتراها. تقول نعيم «لا ندري ما الذي حلّ بها بعد أن أرسلت إلى أصحابها، وهل تضررت في منازلهم أم لا؟ أما معرض (وفاة الوردة الحمراء الأخيرة) لعبد القادري الذي كان قائماً أثناء الانفجار، فقد نجت لوحاته، في حين لا نزال نقيم الموجودات التي نضعها في المخزن».
في «غاليري صفير - زملر» الوضع ليس أقل سوءاً. الواجهات نُسفت هي الأخرى، وجزء من سقف صالة العرض السينمائي تهدمت، والمسؤولة عن الغاليري في بيروت ليا شيخاني تتحدث عن الصدفة التي أنقذتها من الموت هي وزميلتها. «لو كنا في الغاليري لحظة الانفجار لما بقينا أحياء. فقد غادرنا المكان قبل دقائق». وكانت شيخاني لا تزال بسيارتها قرب «الفوروم» الذي خصص طويلاً للمعارض، وتحطم مع وقوع الانفجار. وإذا كانت أعمال فنية قليلة قد تضررت في غاليري «صفير - زملر»، فبفضل وباء كورونا، الذي حال دون تنظيم معارض في هذه الفترة ووجود لوحات ثمينة، أو أعمال مهمة. فجزء من الحيطان انهار ومعرض ايتل عدنان، كان آخر ما تم تنظيمه، لحسن الحظ، ولم يبق من لوحاتها الكثير. ثمة قطعة من المعدن طارت من المرفأ، بفعل قوة الانفجار وحطت على ظهر العمارة القديمة المجددة، وتسببت بأضرار جسيمة، رغم صلابة البنيان اللافتة لكل من يدخل هذا المبنى. وكان الغاليري يحضّر لمعرض للفنان مروان رشماوي، وبدأت اللوحات تصل، لكنها لا تزال موضبة بالصناديق؛ مما حماها من الخراب.
قبل خمس وثلاثين سنة، جاءت أندريه صفير - زملر إلى بيروت، تريد أن يكون لها غاليري إلى جانب فرعها في هامبورغ. ومن يومها وهي تبذل جهوداً مضنية، لتجعل من بيروت مدينة للإبداع، بعرض أعمال أشهر وأمهر الفنانين العالميين في عاصمتها لا سيما العرب بينهم، وتمكنت بحنكتها من نقل الفن اللبناني إلى عواصم الدنيا. توقف العمل في بيروت مؤقتاً، لكن فرع هامبورغ لا يزال ناشطاً، ويحضّر مع بداية سبتمبر (أيلول) لمعرض على شرف بيروت، يجمع أعمالاً لوليد رعد، ايتل عدنان وريان تابت.
في العمارة نفسها التي اختارتها صفير قرب المسلخ لتقيم مشروعها، يتمركز أيضاً المعماري الشهير برنارد خوري، ويعرض في مكتبه المتسع مجموعته الأثيرة من السيارات القديمة الفاخرة، التي تبقى ملمعة متعة للنظر، وكأنما الداخل إلى هذا المكتب يشعر بأنه في متحف للسيارات. الانفجار لم يوفر شيئاً. ثمة خراب في غاليري «صالح بركات» أيضاً، ورحيل قاسٍ لدينامو الغاليري فراس الدحويش الذي قضى بالانفجار بعد خروجه من مكان عمله. غاليري «ليتيسيا» دفعت ثمناً غالياً أيضاً برحيل مديرتها غايا فودوليان. تضرر غاليريات، ومنازل أصحابها، وإصاباتهم في وقت واحد، ناتج من حرص عدد منهم على العمل بقرب السكن، أو الجمع بين المكانين معاً. وهي عادة لبنانية، عززتها أجواء الحرب، ثم زحمة السير، لكنها هذه المرة لم تكن لصالح من فقدوا كل شيء في وقت واحد.
رغم مرارة الفقد، الأمر الوحيد الذي يعزي أصحاب الغاليريات، هو التضامن الكبير معهم. من داخل لبنان حيث بدأ فنانون يعرضون أعمالهم للبيع، والتبرع بمردودها لدعم الغاليريات وأصحابها. أما من الخارج فتقول شيخاني إن التلفون لم يتوقف عن الرنين، والسؤال عما يمكن أن يقدمه الأصدقاء لدعمنا. هذا التعاضد والدعم السخي، يتحدث عنه كثيرون من العاملين في مجال الفن في بيروت. حملات التبرع أكثر من أن تحصى، والراغبون في المساعدة ليسوا قلة. ولعل المتاحف مثل «سرسق» هي من بين الأفر حظاً، ويتحدث القيّمون عليه عن اتصالات لا تهدأ من متاحف صديقة، ومحبون، يريدون أن يروا المتحف يعود إلى سابق عهده، في أقرب وقت ممكن.
الكارثة الفنية كبيرة، أكثر من عشرين غاليري تضررت خلال هذه النكبة، وصورها تتشابه إلى حد بعيد. فلا شيء غير الدمار. البعض لا يجد مبرراً لإعادة بذل الجهود في مدينة يمكن أن تضع حداً لأكبر الطموحات في ثانية، وغالبية تجد نفسها تلملم جراحها، ولا تجد بديلاً عن إعادة ما تدمر، رغم الوضع الاقتصادي الكارثي.



الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

«صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة
«صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة
TT

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

«صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة
«صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

تعود أحداث فيلم «صيفي»، الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات، حيث يأخذ المشاهد في رحلة درامية مشوقة تسلط الضوء على طموح الثراء السريع والتحديات التي تواجهها المجتمعات في تلك الحقبة.

الفيلم، المرشح لجائزة مسابقة الأفلام الطويلة، يحكي قصة رجل أربعيني يُدعى صيفي محمد، الذي يعيش وهم تحقيق ثراء سريع باستخدام مهاراته المحدودة، إلا أنه يجد نفسه محصوراً بين فرقته الشعبية التي تُحيي الأفراح الجماعية، وإدارة متجره الخاص «شريط الكون» الذي يبيع فيه أشرطة كاسيت متنوعة، لا سيما تلك التي تتعلق بالخطب الإسلامية الممنوعة، التي يحصل عليها من المهدي حسام الحارثي، المستشار الديني لرجل الأعمال الشيخ أسعد أمان.

وفي خضم حياة مليئة بالتجارب الفاشلة، يعثر صيفي على شريط يحتوي على تسجيل سري بين الشيخ أسعد والمهدي، يكشف عن فضيحة تضع مكانة الشيخ الاجتماعية على المحك، بعدها يقرر صيفي خوض مغامرة خطيرة لابتزاز المهدي مالياً، مستغلاً سراً يمكن أن يُدمّر حياة الجميع. ومع تسارع الأحداث يضطر صيفي للاختباء في منزل طليقته رابعة، التي تشارك في جلسات تطوير الذات واستشفاء الطاقة، إلى جانب أختها رابية، حينها يجد في علاقتهما المضطربة فرصة للبقاء عندها أطول فترة ممكنة.

مخرج الفيلم وكاتب السيناريو، وائل أبو منصور، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن فكرة الفيلم جاءت من شخصية صيفي التي كانت مثيرة بالنسبة لي، فهو شخص يعيش وهم النجاح ولكنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لتحقيق ذلك، وهذا التناقض جذبني لشخصيته، وحاولت أن أقدم شخصية معقدة ترسخ في ذاكرة المشاهد.

وأوضح أبو منصور أن الفيلم يناقش قضايا حساسة مثل الابتزاز والفساد الديني، وهي مواضيع قد تثير الكثير من الجدل، وأضاف: «كان التحدي الأكبر بالنسبة لنا هو الحفاظ على التوازن في طرح هذه القضايا دون الإساءة للمعتقدات أو المجتمع أو الأجيال المختلفة، في المقام الأول، لقد كان من الضروري أن نكون حذرين في تقديم هذه المواضيع، بحيث لا نوجه اتهامات مباشرة أو نظهرها بطريقة يمكن أن تضر بالمجتمع أو تؤذي مشاعر الناس».

وتابع مخرج العمل: «حاولنا أن نعرض هذه القضايا من خلال السياق الدرامي الذي يثير التساؤلات ولا يقدم إجابات قاطعة، بل يحفز المشاهد على التفكير والنقد بشكل مفتوح، كانت هناك حاجة لإيجاد طريقة لتقديم هذه المواضيع بشكل واقعي، مع الحفاظ على احترام الأبعاد الاجتماعية والدينية. لكن الأهم من ذلك هو إيجاد الأسلوب الذي يعكس التعقيد البشري لهذه المواضيع، بدلاً من أن نقدمها بشكل سطحّي أو مسيء».

وفي ختام حديثه يقول أبو منصور إنه حرص على أن يكون «صيفي» متوازناً بين إظهار الحقيقة التي قد تحيط بهذه القضايا، والتأكيد على أن هذا لا يعكس المجتمع ككل، بل يعكس جزءاً من واقعه المعقد، وكان الهدف فتح حوار بنّاء بين الأفراد والمجتمع حول هذه القضايا، بدلاً من استغلالها لأغراض إثارة الجدل أو الهجوم.

تجدر الإشارة إلى أن الفيلم الذي تم تصويره في مدينة جدة الساحلية مطلع عام 2023، واستغرق العمل عليه 28 يوماً، روعي فيه اختيار مواقع تصوير تعكس تلك الحقبة الزمنية لتجنب إرباك المشاهد؛ حيث تم اختيار أحياء ومواقع قديمة من المدينة، ومنها حي الرويس وحي البغدادية العتيقة لتكون ساحات لتصوير مشاهد الفيلم».