تحتل باريس المرتبة الأولى من بين جميع الدول الغربية المهتمة بالملف المالي. فالمستعمرة الفرنسية السابقة تُعدّ ركناً أساسياً للحضور الفرنسي في بلدان الساحل وأفريقيا الغربية بشكل عام.
إن آخر ما كانت تتوقعه باريس هو حصول انقلاب عسكري في مالي من شأنه إحداث فراغ دستوري في البلاد، ودفعها إلى حالة من عدم الاستقرار تُضاف إلى ما عرفته في الأشهر السابقة، بدءاً من يونيو (حزيران) الماضي، من حراك شعبي احتجاجاً على سياسات الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا وعلى نتائج الانتخابات التي حصلت في أبريل (نيسان). وشهدت باماكو في الأسابيع الماضية مظاهرات حاشدة لم يعرف أو لم يستطع الأخير التعاطي معها، الأمر الذي قاد إلى الانقلاب العسكري.
تفيد المصادر الفرنسية بأن الرئيس ماكرون آخر رئيس دولة تحدث بالهاتف مع إبراهيم بوبكر كيتا، قبل أن تضع القوات المتمردة اليد عليه، وتدفعه إلى الاستقالة بفعل الضغوط التي تعرض لها من الانقلابيين. وكانت باريس، بلسان وزير خارجيتها جان إيف لو دريان قد نددت بشدة بـ«التمرد»، الذي وصفته بـ«الحدث الخطير». وشددت على «تمسكها الذي لا يلين» بسيادة مالي وديمقراطيتها. كذلك تبنّت باريس تماماً الموقف الذي عبرت عنه «المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا» لجهة التمسك بالنظام الدستوري القائم ودعوة العسكريين للعودة إلى ثكناتهم. وسارع الرئيس ماكرون للتواصل مع القادة الأفارقة للتشاور، خصوصاً مع رئيس «المجموعة الاقتصادية» حالياً، وهو رئيس النيجر محمدو يوسفو، وكلاهما «يدعو إلى حل سياسي». ونقل عن الرئيس الفرنسي الذي يمضي عطلته الصيفية في حصن بريغونسون المطلّ على مياه المتوسط «إدانته للتمرد الذي هو مصدر لزعزعة الاستقرار، كما أنه يمثل فرصة للمجموعات الجهادية». وعجلت باريس، بالتعاون مع النيجر، لدعوة مجلس الأمن الدولي لجلسة كطارئة لبحث تطورات الوضع في مالي، والخطوات الواجب اتخاذها. والموقف العام لباريس هو رفض الانقلاب وما نتج عنه.
ويهيمن الهم الأمني على المشاغل الفرنسية. ووفق المصادر الفرنسية، فإن الفراغ الدستوري المتمثل باستقالة رئيس الجمهورية وحل البرلمان والحكومة ستكون له انعكاساته على الوضع الأمني، حيث ما زالت المجموعات المسلحة تنشط في المثلث الحدودي، من جهة، وفي شمال شرقي البلاد من جهة أخرى. كذلك فإن باريس تتخوف من «العدوى». وما يثير حنق المسؤولين في باريس أن الجهود التي بذلوها مع كيتا لدفعه للتحرك وتفكيك الأزمة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية في بلاده لم تُعطِ ثمارها؛ فالرجل الذي تعتبره باريس «ضعيفاً» موجود في السلطة منذ سنوات، حيث احتل مناصب وزارية (أبرزها الخارجية)، قبل أن يصبح رئيساً للحكومة، ولاحقاً رئيساً لمجلس النواب، وبعدها رئيساً للجمهورية (في 2013 و2018).
وبنظرها، فإنه استنفد طاقته ولم يعرف الاستجابة للتحديات المتكاثرة، «إضافة إلى التحدي الأمني». وتذكر المصادر الفرنسية أنه من غير تدخُّل الفرقة الأجنبية الفرنسية في عام 2013، لكان المسلحون حولوا باماكو إلى موصل أو رقة جديدة. واللافت أن القوات الفرنسية المرابطة في مالي لم تحرك ساكناً لإعاقة الانقلاب أو لحماية رئيس الجمهورية، وهي تشير إلى أن الانقلابيين سرعوا في فرض أمر واقع جديد من خلال إجبار كيتا على الاستقالة، وحل الحكومة والبرلمان، وتشكيل لجنة عسكرية لإدارة البلاد. ونقلت صحيفة «لو موند» المستقلة عن نيكولا نورمان، سفير فرنسا السابق في باماكو قوله بوجود «إجماع» داخل الدبلوماسية الفرنسية منذ سنوات لاعتبار كيتا رجلاً ضعيفاً «يفتقر للرؤية وللطاقة اللازمتين لحكم البلاد المنقسمة على نفسها؛ بحيث إن المشاكل التي تواجهها مالي، ومنها اليومية، مثل الخدمات العامة والكهرباء والتعليم لم تجد حلولاً». وانتقد نورمان «صمت» السطات الفرنسية الذي يبرره الغربة في تجنُّب تهمة التدخل وتواصل العقلية الاستعمارية. لكن الصمت لا يعكس سوى نصف الحقيقة؛ إذ كانت باريس تردد أن «المعالجة الأمنية» وحدها لا تكفي، وأنه يتعين أن تواكبها إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وهو ما لم يحصل.
ما هو السيناريو المقبل في مالي؟ لا جواب عن هذا التساؤل اليوم؛ إذ تتعين مراقبة ما ستطلبه الدول الأفريقية المعنية، وما سيُطرح في مجلس الأمن الدولي. لكن المؤكد أن باريس تريد «حلاً سياسياً»، وفق ما نُقِل عن مصادر قصر الإليزيه، ما يعني أن استخدام القوة العسكرية للقضاء على الانقلاب ليس أمراً مطروحاً، علماً بأن الانقلابيين سارعوا إلى القول إنهم متمسكون بالاتفاقيات المعقودة بين مالي والأطراف الخارجية، خصوصاً في المجال الأمني.
باريس تشدد على «الحل السياسي» في مالي
ماكرون تواصل مع رئيسها قبل توقيفه مباشرة
باريس تشدد على «الحل السياسي» في مالي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة