مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران (3 - 3): الملك حسين في حيرة وحصار... وبدء انسحاب العراق

: رغم الضغوط... أبلغنا الأميركيين صراحة أنَّنا مع الحلّ السلمي ومع الحلّ العربي لأزمة العراق والكويت

من اليمين: مضر بدران والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك الراحل الحسين بن طلال والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في اجتماع في قاعدة جوية في منطقة المفرق شرق الأردن
من اليمين: مضر بدران والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك الراحل الحسين بن طلال والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في اجتماع في قاعدة جوية في منطقة المفرق شرق الأردن
TT

مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران (3 - 3): الملك حسين في حيرة وحصار... وبدء انسحاب العراق

من اليمين: مضر بدران والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك الراحل الحسين بن طلال والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في اجتماع في قاعدة جوية في منطقة المفرق شرق الأردن
من اليمين: مضر بدران والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك الراحل الحسين بن طلال والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في اجتماع في قاعدة جوية في منطقة المفرق شرق الأردن

في هذه الحلقة الثالثة من مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران، التي تنشرها «الشرق الأوسط»، يتحدث عن الضغوط الأميركية على الأردن لإقناعه بالانضمام إلى التحالف الدولي في مواجهة غزو صدام حسين للكويت، وما واجهه الأردن من أزمة اقتصادية نتيجة موقفه آنذاك إلى جانب صدام، الذي يؤكد بدران أنه كان موقفاً إلى جانب «الحل العربي».
ويروي بدران في كتابه باسم «القرار»، تفاصيل زيارة سرية قام بها طارق عزيز إلى عمان، أبلغ خلالها المسؤولين الأردنيين أنه لم يبق شيء في العراق لم يتعرض للقصف من القصر الجمهوري إلى مصافي النفط والمصانع والجسور. كما يتحدث عن الحيرة التي واجهها الملك حسين في تلك الفترة، إذ إنه كان محاصراً من القوى السياسية والشعبية والنيابية التي كانت تضغط باتجاه دعم العراق في الحرب.
كنّا نعيش فعلاً أجواء خلية أزمة وطنية، والجهود تضافرت من كل المؤسسات، والراحل الحسين بقي ممسكاً بدفّة القيادة السياسية، ومؤسساته الدستورية كانت بمثابة الجهاز التنفيذي، الذي يربط بين رؤية القائد، وطموحات شعبه، ومن هناك بدأنا بالتَّعامل مع تداعيات الحرب، وما ينتظرنا خلال أيامها.
بدأ السوريون بهجوم إعلامي علينا، وقد كان ذلك متوقَّعاً، فبعض أعضاء مجلسي النواب والأعيان، كانوا ينتقدون سوريا في الإعلام، وتوقّعنا أن يكون الردّ علينا بالإعلام أيضاً، وسعى وزير الإعلام إبراهيم عز الدين، لاحتواء الأزمة مع السوريين، واستطاع نتيجة خبرته الدبلوماسية العالية، بالعودة إلينا بخبر وقْف الحملة الإعلامية السورية ضدّ الأردن، وأخذنا قراراً في مجلس الوزراء بوقف تصريحات السفراء، الذين قد لا تكون لديهم الخبرة الكافية في التصريحات السياسية خلال أحداث الحرب، وأن نؤجِّل أي تصريح، من قِبَل سفاراتنا، منعاً لمُضاعفة مشاعر العداء العربي ضدّنا.
لقد ساعدنا السوريون بتزويدنا بالنفط، وأوفى حافظ الأسد بوعده، وبدأت اللجان تعمل وتشرف على نقل صهاريج النفط من سوريا، وكان ذلك بعد أن أخذنا سلسلة إجراءات للتعامل مع انقطاع النفط.
وقرّرنا أن يكون الخطاب الإعلامي الرّسمي ملتزماً برفضنا للاعتداء بالقوّة على أي دولة عربية، وكُنّا نعترف بالنظام في الكويت، ونعترف بالمقاطعة للعراق، وكلّه بتوازن وعقلانية، وكان كلّ حرف محسوباً له ألف حساب.
أمّا السفير الأميركي روجر هاريسون، فواصل ضغطه علينا بشكل مستمرّ، حتى أبلغتُه صراحة أنَّنا لن نغيِّر موقفنا جراء أي ضغط أميركي، وأنّنا مع الحلّ السلمي ومع الحلّ العربي لأزمة العراق والكويت، وموقفنا الشَّعبي ينسجم مع موقفنا الرّسمي، وأبلغتُ مجلس الوزراء أنّ الأميركيين سيستخدمون ورقة المساعدات للضَّغط علينا في كلّ مرّة، وعندها بدأنا نهيئ أنفسنا لتقديرات تشير إلى أنَّ عُمْر الأزمة سيطول.
كان أي خطأ في التقدير يعني الكارثة على مستوانا، لأنّنا باختصار، لا نستطيع أن ننعزل عن العالم والجوار، فروحنا معلّقة بالمواد الأساسيّة التي نستوردها كلّها من الخارج.
في تلك الفترة كثَّف الملك الحسين اتِّصالاته مع دول العالم، ولم يهدأ خلال تلك الأيام، وكان دائم التَّواصل مع القيادات الرسمية المدنية والأمنية، وحافظ على لقاءاته بمجالس الطوارئ. في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) زارنا الراحل الحسين في مجلس الوزراء، واجتمع بنا، وكالعادة، قدَّم رؤيته التي ساعدتنا كثيراً في التعامل مع المرحلة.
من جملة ما أتذكّره في ذلك اللقاء، أنَّه نبَّهني إلى أنَّ الحرب تريد هدفاً واحداً وهو بقاء إسرائيل بمثابة القوّة الوحيدة في المنطقة، وقال لنا: الكويت كانت المصيدة والفخّ الذي استُدرج إليه صدام، كما أكّد توقُّعاته بأن ضرب العراق سيستمرّ لمدّة طويلة، لإضعاف قوّته لتصل إلى حدود الصفر.
بقينا تحت الضَّغط الأميركي الدّاعي لتغيير موقفنا والانضمام إلى التَّحالف الدولي؛ حتى إنَّ القائم بالأعمال الأميركي قال لنا: «أعلنوا موقفكم ضدّ العراق... وبعدها افعلوا ما تشاءون».
وقد كان الملك الحسين في حيرة شديدة، في تلك المرحلة، فهو محاصَر من جميع الأطراف، قوى سياسية وشعبية ونيابية تضغط باتِّجاه دعم العراق في الحرب، وقوى دولية صاحبة قرار تضغط باتِّجاه أن يكون الموقف الرَّسمي الأردني ضدّ العراق، لكن كيف تقوم بذلك، وأنتَ تحت ضغط شعبي؟ كُنّا قد خرجنا للتوّ من أزمة ثقة شعبية بالنظام السياسي (هبّة نيسان)، واغتنمنا الفرصة ليعود الانسجام وتعود الثقة بين طرفي المعادلة الوطنية الأساسية.

نحو الحرب البرِّية
زارنا رئيس الوزراء العراقي سعدون حمادي، منتصف فبراير (شباط) 1991، حاول أن يزورنا برّاً فلم يستطع، فالقصف على بغداد اشتدّ، فجاء جوّاً عن طريق طهران، وجاء بعد أن حمل رسالة جوابية للرئيس الإيراني، تفيد بالقبول العراقي لإعلان نية الانسحاب من الكويت، مقابل انسحاب القوّات الأجنبية من الجزيرة العربيّة، وكان ذلك عنوان المبادرة الإيرانية، والعراقيون قبلوا بها، لكن اشترطوا عدم الإعلان عنها حتى تتَّضح الأمور والمواقف أكثر.
بعد تلك الزيارة بأيام، ولأوّل مرّة، كان يصدر عن العراق تصريحات تفيد بقبول مبدأ الانسحاب من الكويت، السوفيات وإيران والصين إلى جانب العراق، وهذا صار سبباً لنكون أكثر اطمئناناً، وهم يؤيِّدون وبشدّة مبدأ الانسحاب مقابل وقف ضرْب بغداد.
العراق حتى تلك اللحظات، بقي يناور بموقفه، ويريد مقايضة انسحابه من الكويت، مقابل تنفيذ متطلّبات الشرعية الدولية في القضية الفلسطينية.
في اللقاء، أكّد سعدون حمادي، أنّ قصف قوى التحالف يركِّز على المراكز المدنية والبنى التحتية، والهدف إضعاف العراق. لكنه أكّد أنّ المعنويات عالية في مواجهة الحدث، والجبهة متماسكة، وخسائرها أقل بكثير ممّا يعلنه العدو، وأنّ التقديرات العراقيّة تشير إلى أنّ الوضع ما يزال مُحتملاً، خصوصاً أنّ معدّل القصف انخفض كثيراً عمّا بدأ به.
في 24 فبراير، وفي تمام الساعة الخامسة صباحاً، أعلن بوش بدء الحرب البرِّية. وهذا تطوُّر جديد، وعلى الأردن أن يتعامل معه بمنتهى الجديّة. العراقيون أبلغونا أنّهم إذا تعرّضوا لأي ضرب مدمِّر، فسيضربون إسرائيل بالكيماوي، لكنّهم لن يكونوا البادئين. المعلومات أفادت بأنَّ الأميركان يتقدَّمون باتِّجاه الجهراء الكويتية، والخطة تؤكد تطويق مدينة الكويت، وعزلها عن الإمداد.
ظَهَرَ أمامنا في تلك الفترة تحدٍّ أمني داخليّ، هو تنفيذ عمليّات فردية ضدّ إسرائيل عبْر التسلُّل إلى الضفة الغربية ضمن تلك الأجواء، والخشية كانت من أن تكون مثل تلك العمليات ذريعة لإسرائيل لجرّنا لمعركة، ولذلك حاولنا ألا نُجَرّ لحرب مع أي طرف، خصوصاً وأنَّ ظهيرنا العراق مشغول بحربِه، وصرنا نعيش في حالة من الشكّ الكبير، بأنّنا معرّضون للخطر الكبير فعلاً، فنحن الآن وحدَنا، لذا يجب تلافي الاحتكاك.
الأخبار السيِّئة نقلها لنا طارق عزيز في زيارة سرِّية لعمّان، وكانت تلك الأنباء نقطة التحوُّل الكبير في الموقف العسكري ضدّ العراق، وقال لنا إنَّهُ لم يبقَ شيء في العراق لم يُضرب، القصر الجمهوري مسحوه خمس مرّات، وكذلك قصر المؤتمرات، المصافي ضُربت مرات عدة، ولم يعُد هناك أي مجال لإصلاحها، تمَّ تدمير كلّ مصنع، والجسور في الجنوب، وبقيَت ثلاثة جسور خفيفة في بغداد.
ظلّت العمليّة السياسيّة تدور، وظلّت المحرّكات تعمل، وكل ما نريده أن يتوقّف إطلاق النار، فقد بدت المعلومات متضاربة حيال الوضع داخل العراق، وحجم الخسائر، فإنَّ ما تعرّض له العراق في 40 يوماً من قصف، كان يعادل ما تعرّضت له ألمانيا في الحرب العالميّة الثانية على مدار أربع سنوات.
في 26 فبراير 1991، انسحب العراق من الكويت. عرفنا بالخبر، وصُدمنا، ليس لخبر الانسحاب العراقيّ، فهذا ما كنّا نتمنّاه من غير حرب على العراق، لكن صُدمنا لأنَّ الجبهات ما تزال صاخبة، والحرب تدور، وقد تعرَّض العراق لأكبر الخسائر، خلال عمليّة انسحابه، لأنَّ قوّات التّحالف الدولي بقيت تقصف بينما الجيش العراقي يتراجع إلى الحدود العراقية.
الصَّدمة كانت بفعل البيانات العراقية، التي ظلّت مشجِّعة حتى مساء اليوم السابق ليوم 26 فبراير، لكن كنا محبَطين سلفاً عندما طلب طارق عزيز اقتصار الدَّوْر الأردني على التحرُّك السياسي، فقد كانت آخر زيارة له لعمّان تحمل بعض مؤشّرات الهزيمة.

مساعدات إنسانية للعراق
كان قدرنا أن نعيش كل الحروب ونتائجها كالنكبة والنكسة، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه بعد حرب 1991، وبلغ الإحباط مداه عند الكثيرين، سامح الله صدام حسين، ورحم الله الراحل الملك الحسين، فقد كانت دعواته ومبادراته كفيلة بألا نشهد تلك اللّحظة المؤلمة والمحزنة.
اجتمعنا في مجلس الوزراء، ورصدتُ في وجوه الزملاء، كلّ الإحباط والمأساة، فكلّنا صدمتنا النتيجة، وقلنا في تلك الجلسة، إنَّ الأردن قام بواجبه على أكمل وجه، وقدَّم ما هو أكبر من طاقته، وقد وضع النظام والقيادة نفسهما في كفّ القَدَر مختارين غير نادمين، وأكَّدنا أنّ التاريخ سيسجِّل للمملكة الأردنية الهاشمية موقفاً لم تستطع دولة كبرى، مثل الاتحاد السوفياتي أن تأخذه، وأكّدنا موقفنا، إنَّنا لم نكُن مع احتلال الكويت، وتمنَّينا لو لم يحدث ذلك.
لكن التطوُّر الأهمّ، كان تلك المخاوف، التي طرحها وزير الخارجية طاهر المصري، حول الفلسطينيين الموجودين في الكويت، والتي أشارت التقديرات إلى أنَّ عددهم نحو 200 ألف فلسطيني، لكنْ كان الراحل الحسين قد سبقنا جميعاً، واجتمع مع سفراء الدول الخمس دائمة العضويّة بمجلس الأمن، ونبَّه لمصير الفلسطينيين من حَمَلَة الوثائق، وضرورة عودتهم لمصر، والطَّلب من القاهرة الاعتراف بوثائقهم.
حاولنا رصد معاملة السعوديّين الجيدة لهؤلاء، كما أنَّ بعض الفلسطينيين في الكويت، كان موقفهم المُعلن حتى أثناء احتلال العراق للكويت، هو رفض احتلال بلد عربي لبلد عربي آخر.
شكَّلت هزيمة العراق لنا تحدياً أمنيّاً خطيراً، فالخطر كان بإبداء أي روح عدائية عند انفعال المواطنين، خصوصاً إذا ما حاول بعضهم الاحتجاج أمام السفارات ومحاولة اقتحامها. الإحباط هنا كان خطراً جداً، ولم نكُن نريد لرجال الأمن أن يصطدموا مع أي من المواطنين المحتجّين، وبالفعل فقد خرجت مظاهرة نسائية، وعند منعها من الوصول للسفارة الأميركية، تمّت المواجهة مع الأمن، الذي لا يريد منْع الاحتجاجات، لكنَّهُ لا يريد لأي مظهر من مظاهر الانفلات الأمني، أن يكون موجوداً.
وفِي جلسة علنية لمجلس النواب، قلت يومها إنَّ الحكومة لا ترى أنّ خروج العراق من الكويت هزيمة، فمبدأ الانسحاب كان وارداً منذ مطلع الأزمة، وأضفت أنَّ الحسين اتَّصل بالرئيس صدام، الذي أكد له أنه سينسحب خلال بضعة أيام، وعاد الحسين ليطلب من صدام تحديد موعد للانسحاب مقابل القمّة المصغَّرة، وأنّ مجلس قيادة الثورة اتخذ قراراً بالموافقة على بدء الانسحاب في تمام الساعة السابعة من صباح الأحد 6 أغسطس (آب) 1990، أي أنّ الانسحاب كان قراراً متَّخذاً منذ بداية العمل العسكري.
تحدَّث البعض ببلاغة ومُبالغة، أنَّنا قدَّمنا مساعدة عسكرية للعراقيين في تلك المرحلة، وأنا أؤكد أنَّ مثل هذا الأمر لم يحصل، على الرّغم من أنَّ العراقيين طلبوا مساعدتنا على تدريب ضباط عراقيين على توجيه وإطلاق صواريخ «هوك»، كانوا قد نقلوها إلى العراق من الكويت خلال احتلالها، ونظراً لطول المدّة اللازمة لتدريب ضباط على التَّعامل مع هذه الصواريخ، فقد طلب العراقيّون منّا إرسال ضباط أردنيين إليهم، ولم تتمّ تلبية الطَّلب، لكنَّ الجيش العراقي تعاقد مع ضبّاط أردنيين متقاعدين بشكل شخصي ومباشر.

إدارة الأزمة

كان موقفنا واضحاً في حينه، فنحن كنّا مع الحلّ العربي للأزمة، ولم نرِد أي تدخُّل أجنبي لحلّ القضية، وقد التزمنا بعدم الدُّخول بالتَّحالف الدولي ضد العراق لهذا السبب، وموقفنا حتى اللحظة، يجب أن يوضَّح، لأنَّ الكثير من الأشقاء والأصدقاء ظلمونا على هذا الصعيد، كل ما قمنا به هو تشكيل خليّة تفكير في الأزمة بأبعادها، وكان الراحل الحسين يطلعنا أولاً بأول على تحليلاته لآفاق الأزمة، ونتشارك في تقدير الموقف، وبناء عليه نقترح كيفيّة التصرُّف.
في تلك المرحلة، بعد الاحتلال بأيام قليلة، أنهينا صيغة الرِّسالة الموجَّهة لمجلس الأمن الدولي، وأبلغنا الأميركيين أنَّنا سنستمرّ بتصدير الأرزّ والقمح والسكَّر والزيوت واللحوم للعراق، وهي مواد غذائية أساسية، كما سنستمرّ باستيراد النفط من العراق، علماً بأنّ حصاراً قد فُرض ضدّ أي تصدير أو استيراد من العراق.
صحيح أنَّ تقديراتنا كانت متشائمة لتطوُّر الأزمة، لأنَّنا كُنّا موقنين برفض المجتمع الدولي للحل السياسي، وأنَّ المطلوب هو الحل العسكري، لكن ما كان يطمئننا قليلاً هو أنَّ إيران نأت بنفسها عن الأزمة، بل إنَّ علاقتها مع العراق بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية شهدت تحسُّناً، فلو اقتربت المصالح الإيرانية الأميركية، لكانت الكارثة أكبر من قدرة المنطقة على الاحتمال.
مع امتداد الأزمة تحمَّلنا أعباء اقتصادية وأمنية هائلة، فقد كانت هناك مخاوف كبيرة، وبدأ الهجوم على المواد الغذائية، لأنَّ هناك مخاوف عند المواطنين من التعرُّض للعدوان. من النّاحية التموينية، كنّا على اطِّلاع في مجلس الوزراء، أوّلاً بأوّل، على مخزوننا من المواد الغذائية، وكنا ندرك أن مخزوننا يكفينا لستة أشهر، باستثناء السُكَّر لشهرين ونصف الشهر فقط.
أمّا عن الوضع المالي، فقد كان مرعباً حقاً، ففي أوّل الأزمة، تمّ سحب ودائع دينار وعملة أجنبية، حيث تمّ في خلال ساعتين سحب 8 ملايين دينار، والدولار صار شبه مفقود كنقد، وبلغ سعر صرفه 74 قرشاً، وزاد من تعقيد الظَّرف أنَّ علاقاتنا المالية مع العراق توقَّفَت بفعل الحرب، وأموالنا في البنوك الخليجيّة مجمَّدة لأنَّ الأزمة على أشدّها.
وعلى الصَّعيد العربي، سعَيْنا لحراك دبلوماسي يطالب بعقد مؤتمر لوزراء خارجيّة الدول الداعية للحلّ العربي في عمّان؛ الأردن واليمن والسودان والجزائر وليبيا والمغرب وتونس، بناءً على رغبة العراق. والهدف كان كسر الحصار السياسي على العراق. في تلك الفترة، رفضنا تطمينات طارق عزيز، وتأكَّدنا أنّ المصدر الوحيد للمعلومات هو الإعلام الغربي.
كُنّا يومها نتعامل مع العراق، بعد تدميره كاملاً، وكانت التَّقديرات بعد الانسحاب تشير إلى إفشاء معلومات وتسريبها من العراق، وتحديداً معلومات عسكرية، وكانت الشُّكوك تتَّجه نحو الاتحاد السوفياتي. كما أنَّ البصرة والتدخُّل الإيراني ولجوء ستة آلاف عراقي لإيران، كان تحدِّياً أمنيّاً خطيراً يهدَّد وحدة الأراضي العراقية، بينما لا أعلم مدى دقّة المعلومات، التي تحدَّثَت عن بدء انسحاب العراق من الكويت قبل الهجوم البرّي، لكن القصف المستمرّ خلال مائة ساعة، أدى إلى تدمير كبير، وتسبَّب في اهتزاز معنويّات العسكر، وشعورهم بالهزيمة.
حتى اللحظة الأخيرة ما قبل الحرب البرِّية، ظلَّ العراقيون يعيشون تحت انطباع أنَّ المبادرة الروسيّة ستكون فاعلة، وسيقبلها الأميركيّون، بينما الانطباع السائد لدينا أنّ أميركا تريد انسحاب العراق من الكويت دون شروط، وأن يوافق على جميع القرارات، بينما القوات الأميركية كانت تستعدّ للهجوم خلال ساعات. الخسائر كانت هائلة، أذكر ما سمعتُه من وصف عن معركة الدبّابات، التي ارتُكبت فيها مجزرة، وسقط نحو ألف وخمسمائة جندي عراقي، بين شهيد ومُصاب، وما قيل عن معركة اهتزَّت الأرض فيها، نتيجة قوَّة الضَّرب بين الجانبين العراقي والأميركي.
ومنذُ أن بدأ الهجوم البرّي، بدا واضحاً ضعف الجبهة العراقيّة، التي فقدت اتِّصالاتها بالقوّات المتقدِّمة، وذلك كان نتيجة تأخُّر الاتِّصال بين القيادة السياسية والعسكرية، وبدأ العراقيون يفقدون الاتِّصال فيما بينهم.
في الأردن الرَّسمي، تمَّ توثيق موقفنا في الكتاب الأبيض الذي أعدَّه الديوان الملكي بجهود من سياسيين وإعلاميين ومؤرِّخين، وهذا الكتاب يثبت سعْي الأردن لتأمين الانسحاب العراقي من الكويت قبل فوات الأوان، وفيه رسالة تاريخية تباينت المواقف حولها، وأصر الراحل الحسين على إرسالها لصدام من أجل تأمين الحلّ العربي العربي الذي أفشله الكثيرون.
 



اللاجئون الفلسطينيون يعودون إلى مخيم «اليرموك» في سوريا

اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
TT

اللاجئون الفلسطينيون يعودون إلى مخيم «اليرموك» في سوريا

اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)

كان مخيم اليرموك للاجئين في سوريا، الذي يقع خارج دمشق، يُعدّ عاصمة الشتات الفلسطيني قبل أن تؤدي الحرب إلى تقليصه لمجموعة من المباني المدمرة.

سيطر على المخيم، وفقاً لوكالة «أسوشييتد برس»، مجموعة من الجماعات المسلحة ثم تعرض للقصف من الجو، وأصبح خالياً تقريباً منذ عام 2018، والمباني التي لم تدمرها القنابل هدمت أو نهبها اللصوص.

رويداً رويداً، بدأ سكان المخيم في العودة إليه، وبعد سقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول)، يأمل الكثيرون في أن يتمكنوا من العودة.

في الوقت نفسه، لا يزال اللاجئون الفلسطينيون في سوريا، الذين يبلغ عددهم نحو 450 ألف شخص، غير متأكدين من وضعهم في النظام الجديد.

أطفال يلعبون أمام منازل مدمرة بمخيم اليرموك للاجئين في سوريا (أ.ف.ب)

وتساءل السفير الفلسطيني لدى سوريا، سمير الرفاعي: «كيف ستتعامل القيادة السورية الجديدة مع القضية الفلسطينية؟»، وتابع: «ليس لدينا أي فكرة لأننا لم نتواصل مع بعضنا بعضاً حتى الآن».

بعد أيام من انهيار حكومة الأسد، مشت النساء في مجموعات عبر شوارع اليرموك، بينما كان الأطفال يلعبون بين الأنقاض. مرت الدراجات النارية والدراجات الهوائية والسيارات أحياناً بين المباني المدمرة. في إحدى المناطق الأقل تضرراً، كان سوق الفواكه والخضراوات يعمل بكثافة.

عاد بعض الأشخاص لأول مرة منذ سنوات للتحقق من منازلهم. آخرون كانوا قد عادوا سابقاً ولكنهم يفكرون الآن فقط في إعادة البناء والعودة بشكل دائم.

غادر أحمد الحسين المخيم في عام 2011، بعد فترة وجيزة من بداية الانتفاضة ضد الحكومة التي تحولت إلى حرب أهلية، وقبل بضعة أشهر، عاد للإقامة مع أقاربه في جزء غير مدمر من المخيم بسبب ارتفاع الإيجارات في أماكن أخرى، والآن يأمل في إعادة بناء منزله.

هيكل إحدى ألعاب الملاهي في مخيم اليرموك بسوريا (أ.ف.ب)

قال الحسين: «تحت حكم الأسد، لم يكن من السهل الحصول على إذن من الأجهزة الأمنية لدخول المخيم. كان عليك الجلوس على طاولة والإجابة عن أسئلة مثل: مَن هي والدتك؟ مَن هو والدك؟ مَن في عائلتك تم اعتقاله؟ عشرون ألف سؤال للحصول على الموافقة».

وأشار إلى إن الناس الذين كانوا مترددين يرغبون في العودة الآن، ومن بينهم ابنه الذي هرب إلى ألمانيا.

جاءت تغريد حلاوي مع امرأتين أخريين، يوم الخميس، للتحقق من منازلهن. وتحدثن بحسرة عن الأيام التي كانت فيها شوارع المخيم تعج بالحياة حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحاً.

قالت تغريد: «أشعر بأن فلسطين هنا، حتى لو كنت بعيدة عنها»، مضيفة: «حتى مع كل هذا الدمار، أشعر وكأنها الجنة. آمل أن يعود الجميع، جميع الذين غادروا البلاد أو يعيشون في مناطق أخرى».

بني مخيم اليرموك في عام 1957 للاجئين الفلسطينيين، لكنه تطور ليصبح ضاحية نابضة بالحياة حيث استقر العديد من السوريين من الطبقة العاملة به. قبل الحرب، كان يعيش فيه نحو 1.2 مليون شخص، بما في ذلك 160 ألف فلسطيني، وفقاً لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (الأونروا). اليوم، يضم المخيم نحو 8 آلاف لاجئ فلسطيني ممن بقوا أو عادوا.

لا يحصل اللاجئون الفلسطينيون في سوريا على الجنسية، للحفاظ على حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي أُجبروا على مغادرتها في فلسطين عام 1948.

لكن، على عكس لبنان المجاورة، حيث يُمنع الفلسطينيون من التملك أو العمل في العديد من المهن، كان للفلسطينيين في سوريا تاريخياً جميع حقوق المواطنين باستثناء حق التصويت والترشح للمناصب.

في الوقت نفسه، كانت للفصائل الفلسطينية علاقة معقدة مع السلطات السورية. كان الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد وزعيم «منظمة التحرير الفلسطينية»، ياسر عرفات، خصمين. وسُجن العديد من الفلسطينيين بسبب انتمائهم لحركة «فتح» التابعة لعرفات.

قال محمود دخنوس، معلم متقاعد عاد إلى «اليرموك» للتحقق من منزله، إنه كان يُستدعى كثيراً للاستجواب من قبل أجهزة الاستخبارات السورية.

وأضاف متحدثاً عن عائلة الأسد: «على الرغم من ادعاءاتهم بأنهم مع (المقاومة) الفلسطينية، في الإعلام كانوا كذلك، لكن على الأرض كانت الحقيقة شيئاً آخر».

وبالنسبة لحكام البلاد الجدد، قال: «نحتاج إلى مزيد من الوقت للحكم على موقفهم تجاه الفلسطينيين في سوريا. لكن العلامات حتى الآن خلال هذا الأسبوع، المواقف والمقترحات التي يتم طرحها من قبل الحكومة الجديدة جيدة للشعب والمواطنين».

حاولت الفصائل الفلسطينية في اليرموك البقاء محايدة عندما اندلع الصراع في سوريا، ولكن بحلول أواخر 2012، انجر المخيم إلى الصراع ووقفت فصائل مختلفة على جوانب متعارضة.

عرفات في حديث مع حافظ الأسد خلال احتفالات ذكرى الثورة الليبية في طرابلس عام 1989 (أ.ف.ب)

منذ سقوط الأسد، كانت الفصائل تسعى لتوطيد علاقتها مع الحكومة الجديدة. قالت مجموعة من الفصائل الفلسطينية، في بيان يوم الأربعاء، إنها شكلت هيئة برئاسة السفير الفلسطيني لإدارة العلاقات مع السلطات الجديدة في سوريا.

ولم تعلق القيادة الجديدة، التي ترأسها «هيئة تحرير الشام»، رسمياً على وضع اللاجئين الفلسطينيين.

قدمت الحكومة السورية المؤقتة، الجمعة، شكوى إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تدين دخول القوات الإسرائيلية للأراضي السورية في مرتفعات الجولان وقصفها لعدة مناطق في سوريا.

لكن زعيم «هيئة تحرير الشام»، أحمد الشرع، المعروف سابقاً باسم «أبو محمد الجولاني»، قال إن الإدارة الجديدة لا تسعى إلى صراع مع إسرائيل.

وقال الرفاعي إن قوات الأمن الحكومية الجديدة دخلت مكاتب ثلاث فصائل فلسطينية وأزالت الأسلحة الموجودة هناك، لكن لم يتضح ما إذا كان هناك قرار رسمي لنزع سلاح الجماعات الفلسطينية.