محمود درويش... قصائد لا تنتهي

12 عاماً على رحيله

محمود درويش
محمود درويش
TT

محمود درويش... قصائد لا تنتهي

محمود درويش
محمود درويش

يُروى أن مئات الشعراء كانوا يفدون على مجلس «أبي العلاء المعري» في بغداد، وكل شاعرٍ يتأبط ديوانه، ولكن للأسف فإن هذا الراوي الذي روى لنا لم يذكر أي اسم لأي شاعر من هؤلاء الشعراء. بقي أبو العلاء اسماً طازجاً في فضاء الشعر والمعرفة والفكر، ومثل هذا الأمر حدث للمتنبي الذي سبق أبا العلاء؛ حيث حلَّ بما يشبه اللعنة على جيله من الشعراء، والذين لسوء حظهم ولدوا مع المتنبي، وعاشوا في عصره، وكتبوا معه، وبعضهم قرأ الشعر معه، ولكن للأسف لم يستطع التاريخ أنْ يحتفظ إلا بالقليل من هذه الأسماء، وعادة من احتفظ بهم هم الذين دخلوا مع المتنبي بصراعات واختلافات، أسوق هذه المقدمة لمرور ذكرى وفاة الشاعر محمود درويش، والواقع أن محمود درويش لا يحتاج إلى ذكرى وتوقيت لوفاته لكي نستحضره، فهو الشاعر العربي الأكثر حضوراً في الخمسين سنة الأخيرة، ولا أظن أن شاعراً عربياً معاصراً حظي بما حظي به درويش، من نجومية وشهرة فاقت شهرة بعض الفنانين والمطربين الكبار، وهذا نادراً ما يحدث للشعراء، إلا أن قلة منهم استطاعوا أنْ يكونوا بهذا المستوى من النجومية كالجواهري ونزار قباني، ودرويش طبعاً، ولسنا هنا بصدد الأسباب الموضوعية لشهرة درويش، وهل هي متأتية من جودة شعره؟ أم من القضية التي تبناها، وكتب فيها وأصبح نشيدها الأجمل؟ أم أن هناك أسباباً أخرى كثيرة، ولكن في النتيجة، اجتمعت الأسباب كلها لتنتج درويش بهذه الطبخة من الشعرية الجارفة، والحنين الممض، والنرجسية المحببة
وكذلك نادراً ما يرتبط بلدٌ باسم شاعر، وهذا ما حصل لدرويش حيث ارتبطت فلسطين به، كما ارتبط هو بها، وأخلص لطينها وقراها وحنينها وكبريائها، ودرويش يعد التجربة الشعرية الأكثر انقلاباً على ذاتها، فهو أبو التحولات الفنية والموضوعية، ومثلما وقف الجواهري وبدون قصد بوجه شعراء التفعيلة، وأصبح المثال الحي لعدم موت النص العمودي، استطاع درويش أن يقف بوجه موجة الحداثة، وشعراء قصيدة النثر الكاسحة منذ السبعينات حتى الآن في أنْ يثبت أن النص الإيقاعي نصٌ لن يموت أيضاً، بل على العكس بقي نص درويش هو النص الأكثر جذباً للقراءة والسماع، ودرويش هو أكثر الشعراء مغناطيسية، ذلك أن قصيدته لها شباكٌ كثيرة توقع في شركها أجيالاً من الشعراء ينقادون بحب أو بدون وعي، وبطاقة سحرية مذهلة، فيقعون في حبائل نصوصه الشعرية، وهذا ما وقع ضحيته أجيال كثيرة من نهاية السبعينات والثمانينات والتسعينات في بلاد الشام عموماً، وبعض من العراق ومصر؛ حيث خرج عددٌ كبيرٌ من الشبان في ذلك الوقت، وهم يستنسخون صوت درويش في الكتابة من حيث طريقة استخدام الاستعارة، واللغة الشعرية، والبناء الخاص للتراكيب الشعرية، ولم يفلت من حبال درويش إلا شعراء العمود وشعراء قصيدة النثر، الذين احتالوا من خلال الشكل الشعري ليُفلتوا من تلك الحبال، لكن عدداً كبيراً من شعراء التفعيلة من بلاد الشام وبعض من شعراء العراق كما ذكرت لم يفلتوا من صوت درويش الذي بقي مهيمناً على معظم تجاربهم، وخصوصاً في البدايات، ولم يستطيعوا التخلص من درويش إلا بالحنو المخلص للتجربة الشعرية، وتجاوز منطقة التأثير المباشرة التي يبثها صوت درويش المتفرد، ذلك أنه الشاعر الأكثر تأثيراً في الأجيال الشعرية العربية التي جاءت بعده، وبذلك تحول درويش إلى لعنة تطارد الشعراء الشباب الذين فتحوا عيونهم على شعر التفعيلة، فقد كان البحر الأوسع من بين الشعراء هو بحر درويش الذي غرق فيه كثير منهم، وبعضهم مات غرقاً، ولم ينجُ منه إلا من كان سبَّاحاً ماهراً، علماً أنه بدأ وهو متأثرٌ بنزار قباني، ومقلدٌ لبعض نصوص نزار السياسية، ولكنه استطاع بفرادة عالية أنْ يصنع له مناخاً خاصاً، وجواً مختلفاً في الكتابة الشعرية، حتى شكَّل بصمة في الشعرية العربية، ذلك أن نصّ درويش يبين بمجرد سماعه، حتى إنْ لم تقرأه من قبل، وهذه البصمة هي الصوت الخاص بالشاعر الحقيقي الذي يخلص للشعر فيمنحه كل حياته، ولهذا فإن الشعر يمنحه بعضاً من أسرار الملكوت الشعري، وهو رسوخ بصمة الشاعر لدى الجميع.
ولكن مع عظمة درويش وأهميته هل يبقى خارج المساءلة النقدية؟ قطعاً لا يوجد شاعر خارج المسح النقدي ولا أكبر منه، بل بعد هذا الغياب لدرويش أليس من الأفضل له وللشعرية العربية أن نقف محللين ومنقبين لا محتفين فقط، فلو بقي درويش ملتفاً بنصوص المقاومة فقط هل سيكون درويش كما هو الآن؟
لو لم يتحول إلى الذاتيات الخاصة بدرويش المتسائل والحائر والعاشق والضائع والتائه على أبواب القيامة في جداريته العظيمة، ماذا سنفعل بشعره إذا؟ هل نبقى نردد الصراخ الأول؟ قطعاً لو لم يكن بهذا التحول لكان درويش الآن شاعراً تقليدياً لن نأخذ منه غير الصوت العالي والضجيج الشعري ربما، ولنا بمجايلين له مثالٌ واضحٌ في ركود الشعرية؛ حيث ارتبطوا بالقضية الفلسطينية، على عظمة الارتباط بالقضية، إلا أن الشعر يكمن في التحولات، ويركد في الثبات على موضوعات مؤدلجة تعشق الركود والتكرار، وبهذا استطاع درويش أن يفلت من شرك هذا النوع من الشعر الذي حوَّل كثيراً من الشعراء إلى خطباء منابر يغوصون في الملل، ولا يؤمنون بالتلميح والإشارة التي أصبحت من علامات درويش المائزة، بل إن الشعر التقليدي الذي قيل عن المقاومة أو أي شعر يقال عن الثورات والتحولات إن لم يكن شعراً مقصوداً لذاته وحقيقياً فسيكون عبئاً على أي حركة كانت سياسية أو ثورية، ودرويش بتحوله الشعري أزعم أنه خدم القضية الفلسطينية أكثر من قصائده الأولى التي كانت تتجه للمباشرة والتصريح.
وأزعم أيضاً أن التحول الأهم الذي حدث لدرويش هو في مجموعته المهمة «الجدارية» حيث انتقل صوته من الصوت الغاضب والصاخب إلى صوت آخر أكثر حنواً ودفئاً، وبدأت ملامح الحيرة والأسئلة تتدفق بنبضٍ شعري حفر نهراً جديداً في شعر درويش...
ويا موت انتظر يا موت
حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع
وصحتي
لتكون صياداً شريفاً
لا يصيد الظبي قرب النبع
ولتكن العلاقة بيننا ودية
لك ما تشاء
ولي التأمل في الكواكب
لم يمت أحدٌ تماماً
تلك أرواحٌ تبدل شكلها ومقامها
وبهذا تحول درويش لمناطق أكثر انفتاحاً، وتحولت معه نهايات نصوصه من الحافات الحادة إلى النهايات السائبة التي يجد الجميع متسعاً لهم فيها، واتسع من خلال هذا التحول جمهوره الواسع أصلاً، ودرويش هو الشاعر الأكثر تفرداً الذي استطاع أن يسحب جمهوره للأرض الشعرية التي يريد أن يحرث ويبذر فيها، فنحن نعرف كثيراً من الشعراء الموهوبين، ولكنهم كثيراً ما يقعون في مناطق تقليدية، خصوصاً حين يقرأون على المنصات وأمام الجمهور، أما درويش فإنه الشاعر الذي سحب جمهوره معه، ليصعد به لأماكن لم يرها من قبل، فالجمهور الذي تعود الشعر المقاوم والمباشر استطاع درويش أنْ يروضه على ذائقة جديدة أكثر جمالية، أو إنها مقاومة من نوع آخر لم يعتدها ذلك الجمهور، وهذا ما جعل درويش يكون صارماً وحاداً مع بعض معجبيه الذين يلحون في طلب نصوص تجاوزها درويش؛ حيث ألحّ عليه أحد الجمهور نهاية التسعينات في الأردن أن يقرأ قصيدة «سجل أنا عربي» فبدأ يلحّ عليه، ويقول له؛ اقرأ لنا «سجل أنا عربي، سجل أنا عربي»، فامتعض درويش، وقال له؛ سجل أنت. ما يعني أن درويش لم يخضع لذائقة الجمهور التي تنحو في كثير من المرات إلى الوضوح والمباشرة من خلال رفضه قراءة ذلك النص الذي يعد بوابة مهمة لشهرته في الستينات، والمتتبع لأسماء دواوين محمود درويش سيجد التحول في أبهى صوره من خلال العنوانات، فمن «أوراق الزيتون» و«العصافير تموت في الجليل» و«حالة حصار» إلى جدارية محمود درويش و«كزهر اللوز أو أبعد» ، إلى «لا أريد لهذي القصيدة أنْ تنتهي»، وهذا لا يعني أن درويش تخلَّى عن القضية الفلسطينية لكي يكون شاعراً عالمياً، إنَّما القضية تسللت إلى مسارب أخرى ونهايات مفتوحة الدلالات، فلم تعد الرؤية الأحادية هي التي تحرك بوصلة درويش الشعرية، إنما بدأت القضية الفلسطينية تتسلل لأكثر مناطق درويش حكمة وعقلانية وربما براغماتية، درويش رحل وفي فمه كثير من القصائد التي تقل بعد، فما زال كثير من القصائد بانتظاره، وهذا دائماً حال الكبار من طرفة بن العبد إلى أبي تمام إلى المتنبي إلى أبي القاسم الشابي إلى السياب إلى درويش الذي عاش أطول من هؤلاء عمراً، ولكنه مات وفي قلبه قصيدة لا يريد أن يكملها، لهذا ختم سيرته الشعرية بعنوان مفتوح ولا نهائي «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»...



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.