صيف بيلاروسي ساخن يلهب «آخر ديكتاتوريات أوروبا»

احتجاجات واسعة بعد فوز لوكاشينكو... وعقوبات الغرب تعزز تحالفه مع موسكو

صيف بيلاروسي ساخن يلهب «آخر ديكتاتوريات أوروبا»
TT

صيف بيلاروسي ساخن يلهب «آخر ديكتاتوريات أوروبا»

صيف بيلاروسي ساخن يلهب «آخر ديكتاتوريات أوروبا»

بدا المشهد لافتاً في جمهورية بيلاروسيا السوفياتية السابقة خلال الأيام الأخيرة. إذ اهتزت البلاد بقوة على وقع أوسع احتجاجات تخللتها مظاهر عنف واستخدام للقوة المفرطة ضد المتظاهرين، وترافقت مع تزايد الضغوط الخارجية عبر التلويح بعقوبات غربية جديدة ضد السلطة الحاكمة في عاصمتها مينسك.
هذه التطورات أعقبت الإعلان عن فوز كبير للرئيس ألكسندر لوكاشينكو وظفره بولاية رئاسية جديدة تكرسه رئيسا مدى الحياة، وهو الذي تربع على عرش السلطة منذ العام 1994. ليغدو، بالتالي، الزعيم الأطول بقاءً في السلطة في الفضاء السوفياتي السابق.

لم تحمل نتائج الانتخابات في جمهورية بيلاروسيا (روسيا البيضاء) السوفياتية السابقة مفاجأة لأحد. إذ حصل «الأب» - كما جرت العادة على تسميته - من جانب مؤيديه على أصوات نحو 80 في المائة من الناخبين في انتخابات مثيرة للجدل أجريت يوم الأحد الماضي، وسط غياب مراقبين دوليين وتصاعد سخونة الوضع الداخلي، ولا سيما، مع الإعلان «الرسمي» عن إحباط «مؤامرات خارجية» تهدف إلى قلب الأوضاع في البلاد.
أيضاً، لم يحمل جديداً، التنكيل بالشخصيات المعارضة واعتقال أربعة من المرشحين المنافسين على مقعد الرئاسة بتهم المشاركة في المؤامرة الخارجية.
أما الجديد حقاً فكان في تصاعد مزاج التذمر الشعبي، وانطلاق احتجاجات غير معهودة في حجمها، بل وفي طبيعة الشعارات التي رفعتها، ما جعلها تطوراً استثنائياً في صغرى الجمهوريات السلافية السوفياتية السابقة الثلاث - بعد روسيا وأوكرانيا - التي لم تشهد منذ عقود أي اضطرابات أو تغييرات تُذكر.
المثير أن الاستخدام الواسع للعنف ضد المتظاهرين، والإعلان عن اعتقال آلاف الناشطين، والدفع نحو نشر قوات الجيش في المدن، واتخاذ تدابير غير مسبوقة على الحدود، وملاحقة وسائل الإعلام واحتجاز موظفيها، بما في ذلك إعلاميون مستقلون من بلدان أخرى، بينها روسيا. ولكن كل ذلك، لم يؤتِ النتائج المرجوة على صعيد ضبط الموقف وإنهاء حالة الاحتجاج. بل على العكس من ذلك، دفع إلى اتساع رقعة الاحتجاجات، وظهور وضع غير مسبوق في البلاد، من خلال إعلان استقالات لعسكريين ومدنيين على شبكات التواصل الاجتماعي في مشهد ذكر بالوضع في بعض مناطق الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا في بداية أزمتها الدامية.
هذا الوضع المضطرب تزامن مع الإعلان عن «رحيل طوعي» لزعيمة المعارضة البيلاروسية سفيتلانا تيخانوفسكايا، التي خسرت السباق الرئاسي أمام لوكاشينكو إلى جمهورية ليتوانيا المجاورة. بيد أنه اتضح لاحقاً أن نصف فريقها الانتخابي يقبع في السجن، وأنها أجبرت على توجيه رسالة مصورة تعلن فيها مغادرة بيلاروسيا بشكل «طوعي».
- دور لافت للمرأة
أكثر من هذا، برزت خلال الاحتجاجات مظاهر غير مسبوقة، مثل تنظيم مجموعة من النساء وقفات تضامن مع المعتقلين في وسط العاصمة مينسك. ولقد حملت المشاركات شعارات تندد بـ«العنف المفرط» من جانب أجهزة الدولة، وطالبن بإطلاق السجناء. وفي مسعى واضح للفت الأنظار ارتدت الناشطات ملابس بيضاء اللون بزي يكاد يكون موحداً، وحملن باقات من الزهور وبطاقات بريدية بيضاء على شكل قلوب. ثم توجهت المسيرة النسائية إلى مقر أكاديمية العلوم الوطنية في شارع الاستقلال بالمدينة، على وقع تحيات صوتية أطلقها سائقون عبر أبواق تنبيه سياراتهم ترحيبا بهن. وبالفعل، هذا المشهد كان غريبا على مينسك التي لم تشهد تحركات مماثلة منذ عقود.
وبالتزامن، سرع ناشطون يعيشون خارج بيلاروسيا وتيرة تحركاتهم لممارسة مزيد من الضغط على الرئيس لوكاشينكو، وبرز هذا من خلال انضمام شخصيات بارزة إلى الاحتجاجات، ومنها ظهور سفيتلانا ألكسييفيتش، الكاتبة الحائزة جائزة نوبل في الأدب لعام 2015. التي أكدت دعمها للمتظاهرين، ودعت لوكاشينكو إلى التنحي ورفض السماح بـ«اندلاع حرب أهلية في البلاد».
ووفق ألكسييفيتش، فإن غالبية البيلاروسيين «على يقين تام» من أن لوكاشينكو خسر الانتخابات، ولكن يجب على المجتمع بأسره الآن الانضمام إلى جهود لمواجهة عزم النظام على التصعيد. وتابعت الكاتبة قائلة «في رأيي، أعلنت السلطات الحرب على شعبها. إنني أرى كيف يتحول المجتمع إلى التطرف أمام أعيننا، بسبب الطريقة التي تتصرف بها شرطة مكافحة الشغب. لم نكن نتخيل، حتى رأينا كيف حدث ذلك في بلدان أخرى، ولكن هذا ما يحدث هنا عندما يطلقون النار على سيارة فيها طفل صغير وهو مغطى بالدماء، وعندما تتعرض امرأة حامل للضرب، ويخنق المعتقلون بركبهم (...) هذا مجرد عمل عسكري».
وتعليقاً على رحيل سفيتلانا تيخانوفسكايا إلى ليتوانيا، قالت ألكسييفيتش إنها «كانت ولا تزال رمزاً للتعطش للتغيير، والعطش لحياة جديدة، والعطش إلى الصدق، والتضحية بالنفس من أجل الشعب». وختمت «ارحلوا!... لا أحد يريد «ميداناً» - في إشارة إلى «ميدان كييف» حيث وقعت «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا عام 2004 - . لا أحد يريد الدم. فقط أنت تريد السلطة، ورغبتك في السلطة هي التي تتطلب إسالة الدماء».
- خطاب غير مسبوق
هذا الخطاب، غير مسبوق في بيلاروسيا، التي حكمها ألكسندر لوكاشينكو بقبضة من حديد، على مدى ثلاثة عقود، بعدما جاء إلى كرسي الرئاسي من إدارة أحد المجمعات الزراعية الكبرى. ويؤخذ على الرجل - اليوم كما بالأمس - أنه قمع المعارضة ورفض إحداث تغييرات أو إصلاحات سياسية أو اقتصادية، إلا أنه في المقابل، كما يدافع عنه أنصاره «نجح في تجنيب البلاد الفوضى وعزز الاستقرار فيها... في مقابل الصراعات الكثيرة التي شهدتها بلدان مجاورة». كذلك يرى مناصروه «أنه منع إدخال بيلاروسيا في دوامة الخصخصة العشوائية التي شهدتها روسيا خلال تسعينات القرن الماضي، ما ساعد في المحافظة على مستويات معيشية متدنية، لكنها مستقرة».
في مقابل كل هذه التطورات، التي ما زالت تنذر بمزيد من التدهور، تمسكت السلطات بروايتها حول «المؤامرة الخارجية». وأعلنت وزارة الخارجية البيلاروسية عن استعدادها لتقديم «أدلة قاطعة ومحددة» على تدخل خارجي في شؤون البلاد. ودعت العالم إلى «التحقق بشكل موضوعي بما يحدث في بيلاروسيا اليوم، وكيف، ولماذا. ونحن مستعدون لحوار بناء، والأهم موضوعي، حول هذا الموضوع مع جميع الشركاء الأجانب». كذلك دعت مينسك الدول الأخرى للامتناع عن الإدلاء بـ«تصريحات رنانة» حول الأحداث في البلاد، محذرة من أن ذلك قد يؤدي إلى إشعال فتيل الاضطرابات في المجتمع.
- انتقاد غربي ودعم روسي
هذا الرد جاء بشكل مباشر لينتقد أسلوب تعامل الغرب مع التطورات الجارية في بيلاروسيا منذ انتهاء الاستحقاق الانتخابي. إذ كانت بلدان غربية عدة، على رأسها الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي، قد انتقدت بشدة العملية الانتخابية وما رافقها، ورأت أنها «غير حرة وغير نزيهة».
بل، لقد لوحت واشنطن بفرض عقوبات جديدة على مينسك، في منحى قد يقوض التوجهات الأميركية التي برزت خلال الشهور الماضية، لتطبيع العلاقة مع الجمهورية التي وصفتها الخارجية الأميركية من قبل بأنها «آخر الديكتاتوريات» في أوروبا. وفي هذا الإطار، زار مينسك، قبل شهور قليلة، وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وذلك في إطار مساع لدفع لوكاشينكو إلى التخلي عن اعتماده على منتجات النفط والغاز الروسيين، وقدم له وعوداً بأن واشنطن قادرة على تعويض بيلاروسيا عن حاجتها للنفط والغاز من روسيا بأسعار منافسة.
غير أن الملف الاقتصادي، ومنه موضوع الطاقة، لم يكن الوحيد الذي أثير خلال تلك الزيارة، إذ بدت واشنطن مستعدة لبذل جهود إضافية لتأليب الحليف الأقرب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عليه، وتقديم وعود مغرية له في عدد من الملفات الأخرى، بما في ذلك مسألة رفع العقوبات المفروضة على مينسك، والعمل على مساعدتها في تطوير اقتصادها وتعزيز تعاونها مع الفضاء الأوروبي. وحصل هذا الأمر بالتزامن مع تزايد نشاط تحركات حلف شمال الأطلسي «ناتو» على مقربة من الحدود الروسية، ومع الكلام عن تحريك وحدات أميركية من ألمانيا وإعادة نشرها في بولندا، قرب روسيا وبيلاروسيا.
ولكن في المقابل، وضعت واشنطن شرطاً لرفع العقوبات والتحرك بشكل أنشط لتطبيع العلاقات مع لوكاشينكو، تمثل في ضرورة إجرائه إصلاحات داخلية، وتحسين أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلاده. ووفقا لخبراء روس، فإن التطورات الجارية حالياً، تدل على أن الغرب سيعود إلى سياسة تشديد آليات تعامله مع مينسك، عبر فرض مزيد من العقوبات وإعادة لوكاشينكو إلى نظام «العزلة الدولية» التي عانى منها طويلاً.
أما فيما يخص روسيا فهي ترتبط بمعاهدة اتحاد مع «الجار» السلافي الأصغر. لكن هذه المعاهدة ظلت لسنوات طويلة حبيسة الأدراج، ولم تخرج إلى التطبيق الكامل إلا في تجليات محدودة، مثل حرية العبور الحدودي لمواطني البلدين، وبعض التسهيلات الجمركية والضريبية. وفي المقابل، ظلت جهود موسكو الهادفة لتعزيز التكامل بين البلدين وصولاً إلى إطلاق عملة موحدة، وفتح أسواق البلدين بشكل كامل أمام حرية الاستثمار والعمل، تواجه بعناد لوكاشينكو الذي حذر مراراً من «أطماع الأوليغارشية» الروسية بـ«الاستيلاء» على بلاده.
- صديق موسكو «المشاكس»
على هذا الصعيد، يمكن القول إن الحليف الأقرب لفلاديمير بوتين ظل «صديقاً مشاكساً» لعب دائماً على التناقضات الروسية الغربية، وحاول توظيفها لتعزيز مواقعه التفاوضية مع موسكو، لأنه يدرك حاجة روسيا إليه. وكمثال، يكفي الإشارة إلى أن موسكو عززت وجود بطارياتها الصاروخية على طول الحدود البيلاروسية مع أوروبا في إطار خطواتها لمواجهة نشر القوات الأطلسية قرب الحدود مع روسيا.
وهذا، مع أنه كان لوقوف موسكو إلى جانب مينسك في مواجهة الضغوط الغربية على مدى سنوات أثرٌ مهم في صمود لوكاشينكو أمام العقوبات والعزلة.
أيضاً، ورغم أن العلاقة بين موسكو ومينسك شهدت مراحل صعود وهبوط، وتخللها عدد من «الاشتباكات» كان أحدثها قبل أسبوع الإعلان عن اعتقال 32 مرتزقاً روسياً من مجموعات «فاغنر». في حينه، ادعت مينسك أنهم أتوا إلى أراضي بيلاروسيا للمساهمة في زعزعة الأوضاع بعد الاستحقاق الانتخابي. وهو أمر نفت موسكو صحته، واتهمت الأجهزة الأوكرانية بـ«تدبير مؤامرة» لتخريب العلاقات الروسية مع الجار الأقرب.
لكن في مطلق الأحوال، تبدو التطورات الجارية راهناً في بيلاروسيا حافزاً للطرفين الروسي والبيلاروسي لاستعادة الروابط الوثيقة في مواجهة تطورات ستكون لها تأثيرات خطرة في روسيا إذا نجحت في تغيير الوضع في «الجار» الصغير. ولعل هذا ما يفسر مسارعة موسكو إلى إعلان تأييدها الكامل لكل الإجراءات التي اتخذها لوكاشينكو لمواجهة محاولات زعزعة الأوضاع في بيلاروسيا.
وأكدت وزارة الخارجية الروسية أن موسكو كانت تتابع تطورات الأوضاع في بيلاروسيا أثناء الانتخابات الرئاسية، مشيرة إلى أن «سلطات البلاد منعت وقوع تصعيد خطير». وزادت أنه «رغم محاولات بعض القوى لتنظيم احتجاجات واسعة بعد اختتام التصويت، تمكنت السلطات من منع وقوع تصعيد خطير».
وأضافت الخارجية الروسية في موقفها «نحن على قناعة بأن الخيار الذي قام به الشعب البيلاروسي سيسمح بمواصلة حل المهام الماثلة أمام الجمهورية، وسيساعد في تعزيز الصداقة بين بلدينا الشقيقين».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.