بيروت... مدينة لا تموت

كتاب وشعراء لبنانيون: ستنهض مجدداً من كبوتها وتتجاوز الكوارث

نادر سراج - ندى حطيط - محمود شريح
نادر سراج - ندى حطيط - محمود شريح
TT

بيروت... مدينة لا تموت

نادر سراج - ندى حطيط - محمود شريح
نادر سراج - ندى حطيط - محمود شريح

عن وجعهم وآلامهم وما يتعرض له وطنهم الحبيب من خراب ودمار، خصوصاً بعد الانفجار المروع الذي دمر مرفأ المدينة، عن شعبهم البطل الشجاع الذي لا يكف عن التظاهر والاحتجاح، مطالباً بتغيير النظام الذي نخر في عظامه الفساد والفوضى... عن بيروت الأمل والحرية والجمال وصورة الطفولة، يتحدث كتاب وشعراء لبنانيون... هنا نص شهاداتهم:

د. نادر سراج
كاتب وباحث أكاديمي

معنى أن تكون بيروتياً
العنوانُ مستلهمٌ من الكاتب النهضوي أنيس النصولي الذي أودع كتيّبَه عن دار الكشاف في بيروت بعنوان «موطني بيروت»؛ الصادر عام 1947 عن دار الكشاف ببيروت عام حقائقَ ومشاعرَ عن مسقط رأسه. رغبتُ في أن يكون مظلةً لخواطر راودتني بعد زلزال الثلاثاء الأسود العاتي، الذي نزل بها وبأهلها بتاريخ 4/8/2020، وحفزني لأجيبَ عن سؤالٍ «ما معنى أن تكون بيروتياً اليوم؟»، وها أنا أشركُ قراءَ «الشرق الأوسط» بها.
المجتمعاتُ المدينية في عالم العروبة والإسلام مجتمعاتٌ عريقة؛ لها تقاليدها وأعرافها وأساليب تنظيمها لحياتها الخاصّة والعامّة، وشخصياتها العامة ورموزها الثقافية هي عنوان خصوصيتها في فضائه الثقافي الاجتماعي؛ أي صورة المدينة عن نفسها وطرائق فهمها لعلاقتها بمجتمعها.
وهذا كله ينتج عن الحراك الاجتماعي للأفراد والجماعات، ويُقرأ في ضوء منظومة القيم والموروثات التي اختزنوها على مرِّ السنين، وتتمظهر في شتى أشكال تواصلهم مع الآخر.
بيروت مدينةٌ عريقة، ومجتمعها مجتمعٌ عريق. وللعراقة تقاليد وأعراف بارزة في بيروت. وقد اضطربت هذه الأعراف أو ضعُفَ انتظامها في سنوات الحرب والفتنة. الصراع الناشب على هوية المدن - ورمزية ساحاتها وميادينها العامة - في عالمنا العربي يستتبع الحديث عن منظومات قيمها. لذا نضيف: ليست المسألة في مدننا التاريخية من يملك المدينة أو من هو صاحبها؟ بل القضية قضية حق واستحقاق معاً. فللمدينة قيم وحياة وعمران وانتظام، وكلها أمورٌ تحتاج إلى بذل الجهد للتعلّم والتدرّب والدخول في المدينة وتقاليدها.
وقد كان من بين طموحاتنا في تكوين منظومة كتبنا عن بيروت التي تناولت كلاً من إثنوغرافيا المدينة ولسانها وزمانها وتحولاتها وتاريخها الاجتماعي ومدارسها، مطلع القرن الماضي («محكية بيروت العربية»، و«تراث بيروت في الحفظ والصون»، و«أفندي الغلغول»، و«الخطاب الاحتجاجي»، وقيد الطبع «المدرسة والمدينة») النفاذُ إلى أعماق المدينة، وليس البقاء على سطحها وظواهرها.
في كنف «باشورتها» أبصرتُ النور، وفي «مدرسة المعارف» اكتسبت علومي ونسجت شبكة علاقاتي المدرسية، واكتشفت الآخر المختلف، وبين حنايا مناطقها وأحيائها (البسطة والمزرعة والطريق الجديدة ورأس بيروت، والأشرفية حالياً)، ترسّخت ملامح هُويّتي، وبالأحرى بيروتيتي.
هذه الحيّزات الحضرية شكّلت مجتمعةً إرهاصاتِ وعيي لذاتي المختلفة، مثلما لمشاعري المؤتلفة مع أبناء بيئتي المدينيّة، ومحيطي اللبناني الشديد الخصب والتنوّع، وانتمائي العربي الرحب على حدّ سواء. الحديثُ عن هذه المكوّنات المتجاورة والمتحاورة هو حديث في العمق عن الإنسان وثقافته وتأثير عنصري الزمان والمكان عليه، وعلى طرائق تفكيره وأسلوب كلامه وانتظام أنماط عيشه.
روحُ المدينة انتقلت إليّ وإلى أبناء جيلي من خلال وسائل التواصل اللّغويّة المتاحة - لم يكن «الواتساب» متوفراً - بما فيها التحدّث بمحكيّة بيروت العربيّة التي اكتست بحلّة حديثة و«بيضاء»، والتي لطالما صدحت إيقاعاتها المحبّبة في الآذان، وتناغمت ألفاظها على ألسنة الأهل.
وأسهمت مفاتيح كلامها وتعابيرها وزادها اللّغوي في تسهيل اتصالهم بالآخر، مثلما في تشكيل وعيهم الثقافي والاجتماعي بأنفسهم وبالعالم من حولهم.
أنيسةُ المدن ليست محصّنةً من الأقدار التي تصيب جميع المدن الكبرى التي تشهد في مرحلةٍ ما من تاريخها أوقاتاً تزدهر فيها، وتعرف تغيّرات ديموغرافية واجتماعيّة ولغوية تأتي كنتيجة حتميّة للتحرّكات السكانيّة، وتعيش مآسي كارثية وكبوات. «مُرضِعَة العُلوم» ما غرّدت خارج السّرب، والمصائبُ لم تأتِها فرادى. فبعد انهيار عملتها الوطنية واكتساح جائحة كورونا للبلاد والعباد وللعالم (2020)، ها هو انفجارُ مرفئها المدمّر يزلزل كيانها ويحوّلها إلى «بيروشيما». وسبق لـ«ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019» أن أعادت إلى شارعها الوطني والشبابي دينامية الاحتجاج وألق الانتفاض في وجه الظلم والفساد.
حيويةُ أهلها وساكنيها وزخمُ شباب لبنان ردّا إليها الروح. ها هي تنهض مجدداً من كبوتها، وتتجاوز المعوقات والكوارث، لتستعيد ألقها ودورها في المشهدين العربي والدولي.
فصلُ المقال أن بيروتَ سافرةٌ ضاحكةٌ لمن يُقبلُ عليها بالنية الطيبة والقصد الشريف، يعاشر أهلها المطبوعين على التسامح والاعتدال، يرتاد وسطها الساحر الفاتن. وهي شديدةُ التحجّب والإعراض عمَّن تتوسّم فيه الجفوة والترهيب والابتزاز.

ندى حطيط
شاعرة وكاتبة وإعلامية

من أين أفتحُ أزرار رئتيكِ؟!
من أين أفتحُ أزرار رئتيكِ لأبكيكِ، لأغسل بحركِ من الدماء، لأغسل أقدام قمحكِ من الاختناق؟
يا بيروت، يا أنثى الحزن الباذخ، يا مدينةٌ تقطرت من وجه الله،
كيف صارت شوارعك من دون شوارع، ومقاهيك من دون مقاهٍ؟ والمارة فيك جثث، والأحياء فيك أموات.
كيف صرت تنامين كما يمامة مسلولة، وفيك ينغل ساسة من نمل، وتقودك عناكب تمشي في جواربها السوداء.
هل قتلوكِ؟
هل قتلوكِ؟
هل قتلوكِ؟
أم هي غوايتك في مغازلة الموت لاستدراجه إلى ياسمينكِ، ثأراً من خيانته لفتنتك؟
إذ، كيف تموت مدينة مثلك وهي في جبين الأبد؟
إذ كيف تموت «المدينة - الآلهة» فما ذكر أهلوك اسمك «بيروت» إلا موصوفة بالأبيّة، فأنت لست كأي من مدائن البشر. لقد شربت وأنت على خاصرة رفيق عمرك البحر الأبيض شيئاً من روحه وهو المتوسط الشاهد الباقي على قيام الإمبراطوريات واندثارها، وجبروت العواصم وفنائها، فصرت مثله كما جزيرة سرمديّة للحياة في قلب سلّة الدّول المتعاقبة.
«أم الشرائع» التي أنجبت أفضل الحقوقيين للإمبراطوريّة الرومانيّة عبر ثلاثة قرون، لم تغرب عندما غربت روما العظمى، وقامت كما شمس الشرق الساطعة من كل كارثة صنعتها الطبيعة العمياء التي لا ترى البهاء، أو أطلقها عليها الرّجال قساة القلوب. ما سرّك وقانون التاريخ ومنطقه لا يعفيان أيّ مدينة من الموت؟ هل تذكرين البتراء المشقوقة في الصخر الوردي، بابل الأمجد، طروادة الشعراء؟ كلّها صارت في ضمير العالم، أوراق صفراء بالية في مكتبات الأيّام فيما أنت ما زلت فتيّة غضّة كصبيّة لمّا تبلغ عشرينها بعد.
نسجتِ روحك قطبة قطبة كما تنسج جدّة صوفاً لحفيدها ابن الشهيد، وتآمرت الجغرافيا مع التاريخ على رعايتك في نقطة تقاطعهما ناحية أطراف المشرق، واتفقت اليابسة مع البحر عليكِ مقهى للتلاقي، واختارت الشمس أن تأتي من فوق كتفك لتسجد أمامك، فتكاملت طعماً ولوناً ورائحة وصوتاً وملمساً وعنفواناً وغاراً وسنديان.
الذين يأتونك من مدن بلا روح يقولون ثمّة ما يجعل من هذه البيروت كأنها الحياة، فيما وحدك في المشرق تمنحين البشر فضاء لأن يكونوا أنفسهم، بشراً لا أكثر. المؤدلجون عندك يضعون أدلجتهم جانباً، ويشربون القهوة المغليّة مع أعدائهم الآيديولوجيين.
الجواسيس العابرون منك يلعنون حظّهم من استحالة العودة إليك بعد انتهاء مهماتهم، ويخترعون الأحداث ويلفقون الوقائع كي يطول بقاؤهم فيك، وعند الثائرين أنت عصيّة على السّقوط والذل. الفقراء يرمقونك بحسد ثم يقضون ما تبقى من أعمارهم وهم يبنون على طيفك أحلام صعودهم المستحيل.

أمراء الطوائف
ينزلون إليك كي تكون لهم دولة، ومنك يستمدون سلطتهم على أقطان إقطاعاتهم التائهة على سفوح الجبال المنزوية. المهجرون رسموك خيمتهم الأخيرة قبل موسم عودتهم إلى حيفاهم، وغادرك الغزاة العبرانيون المتجبرون وهم يرجونك ألا تطلقي عليهم الرصاص.
كيف أنفض النار عن أطفالك، وكيف أستجوب الأئمة عن طحينك المسروق، وكيف أقطّب فتق سمائك التي انكسرت، ومن أين أفتح أزرار رئتيك لأبكيك؟
يا بيروت، يا مدينة لا تعرف أن تموت.

محمود شريح
كاتب ومترجم

وردة الفردوس
بيروت، وردة الفردوس، تفاحة الأزل، قرطاس الهوى، مهبط الحرف ونقش القاموس، نفير سورية، مسقط الريحاني وجبران وسعادة، دعوة القومية سورية وعربية، مُلتقى قبّاني الشام ودرويش فلسطين، مطبعة شعر ومواقف والآداب وحوار وشؤون فلسطينية، نافذة فلسطين على الدنيا، وسادة الغرام في صورته الأولى، بساط الريح فوق الهلال الخصيب ووادي النيل وبلاد المغرب، عصيّة على الخراب.
بيروت، مدرج القراءة، ملعب الصبا، بيروت الرحيل في البهجة والهناء، لقاء الرومانسية بالرمزية، نِعمة القاهرة وبَركة القدس، قنطرة النوى ولقاء الصبيّة في المقهى، غناء فيروز وشكوى وليدها، وصل بغداد بالرباط، صفحة الجريدة وقهوة الصباح على شرفة المنفى، انبلاج الفجر وانغلاق المساء، خفّة النقلة من زهر الليمون إلى عطر القصيدة، مصيف أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب، جسر حاوي، أنشودة السيّاب، جحيم أبي شبكة، ثلاثون توفيق صايغ، عصيّةٌ على النسيان.



رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم
TT

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم، الذي رحل، الأحد، بعد رحلة طويلة في هذه الحياة تجاوزت تسعة عقود، كان أبرزها توليه منصب أمين مدينة الرياض في بدايات سنوات الطفرة وحركة الإعمار التي شهدتها معظم المناطق السعودية، وسبقتها أعمال ومناصب أخرى لا تعتمد على الشهادات التي يحملها، بل تعتمد على قدرات ومهنية خاصة تؤهله لإدارة وإنجاز المهام الموكلة إليه.

ولد الراحل النعيم في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم وسط السعودية عام 1930، والتحق بالكتاتيب وحلقات التعلم في المساجد قبل إقرار المدارس النظامية، وأظهر نبوغاً مبكراً في صغره، حيث تتداول قصة عن تفوقه، عندما أجرى معلمه العالم عبد الرحمن السعدي في مدرسته بأحد مساجد عنيزة مسابقة لحفظ نص لغوي أو فقهي، وخصص المعلم جائزة بمبلغ 100 ريال لمن يستطيع ذلك، وتمكن النعيم من بين الطلاب من فعل ذلك وحصل على المبلغ، وهو رقم كبير في وقته يعادل أجر عامل لمدة أشهر.

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم

توجه الشاب النعيم إلى مكة بوصفها محطة أولى بعد خروجه من عنيزة طلباً للرزق وتحسين الحال، لكنه لم يجد عملاً، فآثر الذهاب إلى المنطقة الشرقية من بلاده حيث تتواجد شركة «أرامكو» ومشاريعها الكبرى، وتوفّر فرص العمل برواتب مجزية، لكنه لم يذهب للشركة العملاقة مباشرة، والتمس عملاً في إحدى محطات الوقود، إلى أن وجد عملاً في مشروع خط التابلاين التابع لشركة «أرامكو» بمرتب مجز، وظل يعمل لمدة ثلاث سنوات ليعود إلى مسقط رأسه عنيزة ويعمل معلماً في إحدى مدارسها، ثم مراقباً في المعهد العلمي بها، وينتقل إلى جدة ليعمل وكيلاً للثانوية النموذجية فيها، وبعدها صدر قرار بتعيينه مديراً لمعهد المعلمين بالرياض، ثم مديراً للتعليم بنجد، وحدث كل ذلك وهو لا يحمل أي شهادة حتى الابتدائية، لكن ذلك اعتمد على قدراته ومهاراته الإدارية وثقافته العامة وقراءاته وكتاباته الصحافية.

الراحل عبد الله العلي النعيم عمل مديراً لمعهد المعلمين في الرياض

بعد هذه المحطات درس النعيم في المعهد العلمي السعودي، ثم في جامعة الملك سعود، وتخرج فيها، وتم تعيينه أميناً عاماً مساعداً بها، حيث أراد مواصلة دراسته في الخارج، لكن انتظرته مهام في الداخل.

وتعد محطته العملية في شركة الغاز والتصنيع الأهلية، المسؤولة عن تأمين الغاز للسكان في بلاده، إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم، بعد أن صدر قرار من مجلس الوزراء بإسناد مهمة إدارة الشركة إليه عام 1947، إبان أزمة الغاز الشهيرة؛ نظراً لضعف أداء الشركة، وتمكن الراحل من إجراء حلول عاجلة لحل هذه الأزمة، بمخاطبة وزارة الدفاع لتخصيص سيارة الجيش لشحن أسطوانات الغاز من مصدرها في المنطقة الشرقية، إلى فروع الشركة في مختلف أنحاء السعودية، وإيصالها للمستهلكين، إلى أن تم إجراء تنظيمات على بنية الشركة وأعمالها.

شركة الغاز والتصنيع الأهلية تعد إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض، وأقر مشاريع في هذا الخصوص، منها إنشاء 10 بلديات في أحياء متفرقة من الرياض، لتسهيل حصول الناس على تراخيص البناء والمحلات التجارية والخدمات البلدية. ويحسب للراحل إقراره المكتب التنسيقي المتعلق بمشروعات الكهرباء والمياه والهاتف لخدمة المنازل والمنشآت وإيصالها إليها، كما طرح أفكاراً لإنشاء طرق سريعة في أطراف وداخل العاصمة، تولت تنفيذها وزارة المواصلات آنذاك (النقل حالياً)، كما شارك في طرح مراكز اجتماعية في العاصمة، كان أبرزها مركز الملك سلمان الاجتماعي.

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض