منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر

الأول أكثر قدرة على تمثل الواقع الحياتي... وتخصص الثاني بالوزن والقافية جعل إنتاجه عزيزاً

منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر
TT

منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر

منبر القصِّ ومنصّة الشِّعر

تخبرنا المصادر التاريخية عن جوانب أكيدة نستشف منها أنّ الجاهلية في حياة العرب لم تكن تعني جاهلية الفكر والأدب البتة؛ إنما هي جاهلية إيمان ومعتقد واصطراع بين عادات ومعتقدات، بعضها مجسد في سجع الكهان، وبعضها الآخر غير محدد في صيغ من الأساطير والخرافات حول الكون والإنسان على وفق مفاهيم معينة وبهواجس شتى.
وواحدة من مظاهر العقل عند العرب في الجاهلية التقلب بين الإلحاد والإيمان، والمتمثل بوجود الأحناف جنباً إلى جنب اليهود والنصارى، مع وجود أصداء أديان أخرى كالزرادشتية والمندائية مثلاً. وصحيح أن قيم البداوة ومظاهرها كانت طاغية فلم تسمح لمثل هؤلاء بالمضي في التصومع المفضي إلى التفلسف داخل هذا المجتمع، غير أن في الأدب العربي حصيلة كافية تعكس أنماط التفكير بالواقع العقلي والروحي الذي كان متوفراً وقتذاك، وإن كان على نحو نزر.
ومن تلك الحصيلة الفكرية لدى العرب في جاهليتها ما عكسه الأدب من تمييز في الكلام بين قصٍّ وشعرٍ من دون حدود بينهما، فكانا يسترسلان على لسان العربي استرسالاً. ولئن كان أدبنا العربي حراً لا تؤطره قيود ولا تحده مواضعات، غدا العام الغالب منه هو القص والحكايا التي تغلغلت في الشعر والحكم والكهانة والخطابة والأمثال وأضرابها التي هي أهم مظاهر العقل العربي في الجاهلية.
ولأن القص هو الأكثر قدرة على تمثل الواقع الحياتي، محاكياً الحياة في أدق تفاصيلها، صار عمومياً بأساسات جمالية أرست قواعدها بقوة ومتانة في الأدب العربي، ومنها أساسان: أولهما: الاستناد إلى الحكاية، وثانيهما: تغلغل التخييل فيها. وهو ما نجد أمثلته في القص الشفاهي والكتابي على اختلاف أنواعه كالحكاية الخرافية والسيرة الشعبية والمقامة والرسائل والرحلات والمنامات والأمثال وغيرها.
والدليل على اتساع القص وتغلغله في كلام العرب أنّ الذات العربية معتادة على القص، تجده متاحاً على مائدة يومياتها باستمرار، ولأنّ العرب كانت تستحضر القص كجزء لا يتجزأ من تفصيلات حياتها، فلم يكن لديها من هو متخصص في فعل القص أو من هو ناقد لهذا الفعل بحسب عناصره، لأن الكل قادر على أدائه كوسيلة لتحقيق الحاجات اليومية.
وبالقص نُقلت تجارب الآباء للأبناء أو الأجيال للأجيال، فغدا هو المصدر الأول الذي عليه انبنى فعل التأرخة. وكان معيار الإجادة في القص يتوقف على الحكّاء وأسلوبه وعلى المتلقين ومدى انجذابهم له ومتابعتهم سرده. وفعل القص في الجاهلية متاح مباح في أي زمان أو أي مكان، لا لأنه شفاهي حسب؛ بل لأنه عام لا تخصيص فيه ولا تحديد.
أمّا الشعر فشكّل جانباً مخصوصاً من الأدب، لأنه إلى جانب احتياجه إلى الخيال والحكي احتاج إلى القافية والوزن اللذين هما أساس التخصص في نظم الشعر.
وهذا التخصص هو الذي جعل إنتاجه عزيزاً لا يؤتيه إلا من وُهب الفطرة والطبع اللذين بهما غدا المميز من الشعر معلقاً من المعلقات المذهبة، وصار لكل شاعر مجيد لقب به يُعرف كالمهلهل والصنّاجة، كما شُيدت للتباري فيه أسواق معلومة كعكاظ والمربد، فيها يحوز كل شاعر على مرتبة ما بعد أن يدخل في تسابق شعري ذي طابع فردي، فيُلقي قصيدته ليتم تقييمها من قبل محكمين هم أنفسهم شعراء نوابغ أو لهم باعهم في الدراية بكيفيات صناعة القصيدة.
ولقد عُرف محكمو الشعر في عصر التدوين منتصف القرن الثاني للهجرة باسم «علماء الشعر». وما كان للشعر أن يكون علماً لولا التخصصية في إبداعه، التي بسببها وضعت في الشعر كتب مهمة كطبقات الشعراء لابن سلام، والشعر والشعراء لابن قتيبة، ومعجم الشعراء للمرزباني، بينما لم تؤلف في القص كتب تهتم بنقده نظراً لعموميته وارتباطه بدقائق الحياة المعيشة، فلم يكن الحكاؤون على مراتب ولم تكن لهم أسواق يعرضون فيها بضاعتهم.
وحاولت بعض الكتب النقدية القديمة الجمع بين القص والشعر مثل كتاب «الصناعتين» لأبي هلال العسكري وكتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه؛ بيد أنها لم تضع للقص أصولاً وقواعد، ولم تتناوله نصاً مؤسساً، بل اقتصرت على تصنيف فنونه وتبويبها ومن ثم بقي الحكاء سائراً خلف الشاعر على عكس واقع الحال الذي كان في الجاهلية ومرحلتها الشفاهية.
وإذ خلا القص من الخصومات، صارت للشعر ميادين أخرى للاختصام، باركتها الحاضنة الثقافية وساهمت في إذكاء التباري الشعري فيها، فارتقى الشعر وصار فحولياً، ولم يعد تابعاً كما كان في الجاهلية، ولم تتأت هذه الفحولية للشعر إلا من أهمية علاقته بلغة القرآن وتأويله.
وبعد أن كان القص خيراً من الشعر وأشرف، صار الشعر خيراً من القص بينما تراجع القص، والمدهش أن هذا التشريف والارتقاء للشعر وذاك التراجع والتابعية للقص إنما كان على مستوى الحياة الرسمية وحاضنتها الأدبية، بينما ظل القص على المستوى الشعبي بلا حاضنة حراً في عموميته، مزدهراً بفنونه، لا سيما السير الشعبية التي صارت تلبي الحاجة المجتمعية.
وعلى الرغم من هذا الأثر الإيجابي الذي تركته الحياة السياسية على ذيوع الشعر، فإن لها تأثيراً سلبياً أيضاً تمثل في دخول النحل والوضع على الشعر الجاهلي، مما جعل كثيراً منه مشكوكاً في صحته، حتى عد طه حسين أغلب هذا الشعر هو من «انتحال الرواة واختلاق الأعراب وتكلف القصاص واختراع المفسرين والمحدثين».
وما كان للحاضنة الثقافية أن تقلب مسألة العموم والخصوص في القص والشعر لصالح الأخير، لولا استنادها إلى الكتابة التي بها حددت للأدب قوانين جديدة منها أنّ الحكاء ما عاد حراً في حكاياته وخيالاته، وإلا اتهم بالكذب والدجل.
وصار الحكاؤون ملزمين بمشروطيات جديدة، فلا مكان للمخالفين منهم في المساجد. ولم يعد أمام من يريد أن يساير الحاضنة الثقافية سوى أن يكون متحرياً متطلباتها. فصار على الحكاء أن يمتهن القص مرة بوصفه مؤرخاً وإخبارياً، ومرة أخرى يمتهنه مفسراً للقرآن وراوياً للشعر، ومرة ثالثة عالماً بالأنساب والأيام والأمثال ناقلاً خبرات قوم إلى قوم أو تجارب جيل إلى جيل أو مواعظ النابغين وحكمهم إلى الآخرين كي يفيدوا منها ناهيك عن حقيقة أن الموالاة للحاضنة الثقافية كانت قد جعلت مؤرخي الأدب يعترفون بالحكائين حين يكونون خاضعين خانعين، بينما يحجمون عن الاعتراف بهم حين يكونون واقعين خارج نطاق هذه الحاضنة.
هكذا حورب القص كتابياً ليظل أكثره شفاهياً شعبياً، ومع ذلك ظل محافظاً على أصالته، تتناقله الذاكرة الجمعية بوعي ولا وعي من جيل إلى جيل، بينما ظل الشعر على خصوصيته الكتابية، ربيب السياسة، يشتد كلما اشتدت السلطة والولاية والعصبية، ويكثر كلما كثر التنازع والتناحر، حتى بدا أكثر الشعراء إما ندماء للساسة وعلية القوم مدافعين عنهم أو مناوئين لهم ومعارضين لسياستهم موالين لساسة أو أقطاب غيرهم.
هذا الأمر جعل الشعر نخبوياً، فاعتلى الهرم الثقافي العربي، بينما قبع القص بعموميته بلا حظوة ولا نخبوية باستثناء نتاجات سردية دونها التاريخ الأدبي، كان مؤلفوها إما شعراء أو أدباء أو فلاسفة ممن وجدوا في السرد بغيتهم التي لا يستطيعها الشعر، متأثرين بما وفد إليهم من حكايات مترجمة كألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، فكتب المعري وابن طفيل وابن سينا وابن رشد رسائل رمزية، وكتب الهمذاني والحريري المقامات بنزعة اجتماعية، وكتب ابن جبير وابن بطوطة رحلاتهما الجغرافية سرداً.
وعلى الرغم من أن الجاحظ الذي هو أعظم حكاء عربي انقاد للحاضنة الثقافية فأعلى لواء الشعر؛ فإن هذا الشعر ظل في حاجة إلى القص فلا ديوان شعري إلا وهو يبتغي حكاء يسرده شارحاً مفرداته، ناسباً ألفاظه، مدللاً على أصل ما فيه من قصص وأخبار وأمثال.
هكذا استمر الأدب العربي يجمع التخييل بالحياة، حيث لا مستحيل مع السرد الذي هو الحياة نفسها بوصفها احتمالاً لا مستحيلاً.
وفي العصر الحديث، ظلت تراكمات السرد العربي، الشفاهية منها والكتابية، تعمل عملها في مختلف أجناس السرد، حتى إذا طرأت عليها تبدلات كانت بمثابة محصلات تستنهض تراكمات تاريخ القص العربي لدينا ومتأثرة بالسرد الغربي معاً.
واليوم تسعى سرديات ما بعد الحداثة إلى تأكيد ما أكده السرد العربي قديماً، وهي فاعلية التخييل في جعل السرد يتغلغل في الحياة بلا حدود أو مواضعات ليكون مجالاً حراً وخصباً للإنتاج الأدبي، وفي أي جانب من جوانب الثقافة الرسمية منها والشعبية.
ولا مناص من القول إن عمومية القص وشفاهيته وعفوية تشكله هي التي جعلته نصاً مؤسساً بوصفه أصلاً وجوهراً. بيد أن الحاضنة الثقافية ساهمت في تعزيز التأسيس للشعر بوصفه هو الجوهر عبر توكيد خصوصيته الصوتية التي قيّدها الخليل بن أحمد الفراهيدي بتفعيلات معلومة وبحور معمولة، ثم ساهم الأصمعي والجاحظ وابن قتيبة وابن قدامة وابن طباطبا والآمدي وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم من النقاد القدماء في وضع الحدود الموضوعية التي بتلاقيها مع الحدود الشكلية تكون القصيدة العربية الكلاسيكية قد أرست قالبها ودلت على فحولتها. ليكون (الشعر) هو السيد الذي تلبس العموم فعبر عنه، أما العموم (القص) فانزوى مخصوصاً جوهراً، واستمر فناً نمطياً لا يقبل البتة أن يتنازل للشعر عن عمومية الحكي وغيريته واحتمالية التخييل فيه.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.