ثلاث صور في مرآة الشعر

نزار قباني
نزار قباني
TT
20

ثلاث صور في مرآة الشعر

نزار قباني
نزار قباني

من أحمد شوقي إلى نزار قباني ومحمود درويش، وغيرهم من الشعراء، تنوعت صورة بيروت واتسعت ظلالها في سقف الذاكرة والحلم والزمن. مدينة تملك الكثير من الخصائص الجمالية والبصرية، وتتمتع بإطلالة ساحرة على شاطئ المتوسط، قادرة على خلق إحساس متجدد بالحياة والمكان.
ففي سقف الذاكرة ستبقى بيروت المدينة التي احتضنت ثورة الشعر العربي الحديث، منذ تفجرها في العراق على يد الشاعرين العراقيين الرائدين نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، في أربعينيات القرن الماضي، وضخت في شرايين تلك الثورة دماء جديدة لمغامرة الحداثة والتجريب والبحث عن شكل فني مغاير للقصيدة، كما احتضنت بواكيرها الشعرية الأولى، طباعةً ونشراً، وشكلت بمجلاتها ومنابرها الثقافية، جسراً خصباً للحوار حول الشعر في طوره الجديد، واستجلاء قضاياه وخصائصه الفنية والجمالية، خصوصاً مجلة «الآداب» و«دار العودة» للنشر.
ومن سقف الحلم التقط أمير الشعراء أحمد شوقي صورة بيروت كأنثى فاتنة، ترفل في سحر الطبيعة، فكتب في أثناء رحلة له عام 1928 لمدينة زحلة قصيدته الشهيرة «جارة الوادي» قائلاً فيها:
«يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراكِ
مثلتُ في الذكرى هواك وفي الكرى والذكريات صدى السنين الحاكي
ولقد مررت على الرياض بربوة غناء كنت حيالها ألقاكِ
ضحكتْ إليّ وجوهها وعيونها ووجدت في أنفاسها رياك
لم أدرِ ما طيب العناق على الهوى حتى ترفق ساعدي فطواكِ
وتأودتْ أعطافٌ بانك في يدي واحمر من خفريهما خداكِ
ودخلتُ في ليلين فرعك والدجى ولثمت كالصبح المنور فاكِ
وتعطلت لغة الكلام وخاطبتْ عيني في لغة الهوى عيناكِ»
حسية شوقي في تجسيد ملامح بيروت شعرياً كأنثى قادرة على أن تجدد الحياة وتمنحها المزيد من النور والجمال، لم تتوقف عند حدود المجاز والخيال، بل أزاحتهما في لحظة فارقة لصالح لغة أخرى غير مرئية تنبض في طوايا الروح، لغة تشبه السر، تعلو على لغة الكلام الأرضي، وكأن تلك اللحظة بمثابة تقطير للزمن والعطش والفتنة في بوتقة واحدة.
لم تغب هذه الحسية الطافرة عن نزار قباني، وهو يرسم صورة بيروت شعرياً، ويخاطبها بأسى ولهفة كأنها أيقونة كونية، امتزج فيها السؤال بالدهشة والخوف والحيرة، خصوصاً في خضم حرب أهلية طائفية، ضربت قلبها، وامتدت شظاياها لسنوات في السبعينيات، وحولتها إلى ساحة بغيضة للتواطؤ وتصفية الحسابات والمصالح المقيتة.
كان سؤال قباني الشائك الحائر مشروعاً وضرورياً، وابن لحظة مظلمة، كاد يتساوى فيها الوجود والعدم، فلا بأس أن يصرخ قائلاً:
«يا ست الدنيا يا بيروت…
من باعَ أساوركِ المشغولة بالياقوتْ؟
من صادر خاتمكِ السحريَّ
وقصَّ ضفائرك الذهبيّةْ؟
من ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوين؟
من شطّب وجهكِ بالسكّين،
وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين
من سمَّم ماء النار على شفتيكِ الرائعتين
من سمم ماء البحر، ورشَّ الحقد على الشطآن
الوردية»
صرخة نزار قباني الموجعة، لم تغب عن صرخة محمود درويش في قصيدته الشهيرة «بيروت»، المدينة التي عاش فيها فترة طويلة وقاسية من حياته، وطالته شظايا حروبها الأهلية والطائفية، وخرج منها بعد أن شهد غارات إسرائيل عليها، وحصارها عام 1982، وارتكابها مجازر صبرا وشاتيلا.
جاءت صرخة درويش من عمق الشتات الفلسطيني، لا مسافة في أفقها ولا فواصل بين الصدى والصوت، بين الصورة والظل، بل بين الرصاصة والبندقية، فالحلم ببيروت ليس حزمة أنفاس طائشة في غبار النوم، إنما هي الملاذ والحصن، ونقطة التوازن في عالم اختلت فيه المعايير وفسدت النفوس والرؤى... وهو ما أصبح حقيقة موجعة تكشف عنها القصيدة فوق مسرح واقع وحياة، أصبحا ظلاً مرتعشاً لوجود كان هنا، ولا يعرف كيف يكون هناك في قبضة مجهول اختلط فيها البياض بالعتمة أيضاً:
«بيروتُ خيمتُنا
بيروتُ نَجْمتُنا
سبايا نحن في هذا الزمان الرخو
أَسْلَمَنا الغزاة إلى أهالينا
فما كدنا نعضُّ الأرضَ حتى انقضَّ حامينا
على الأعراس والذكرى فوزَّعنا أغانينا على الحُرّاس...»
ثلاث صور لبيروت في مرايا ثلاثة شعراء كبار، وفي لحظات تاريخية فارقة، وجغرافياً ستظل وارفة، تحمل رائحة مدينة لا تشيخ، لا بديل لها، مهما تنوعت صور الخراب، ستبقى شاهداً حياً على عناق الجمال والحرية.



«لعنة الخواجة»... إبحار على ضفاف التاريخ بحثاً عن الدهشة

«لعنة الخواجة»... إبحار على ضفاف التاريخ بحثاً عن الدهشة
TT
20

«لعنة الخواجة»... إبحار على ضفاف التاريخ بحثاً عن الدهشة

«لعنة الخواجة»... إبحار على ضفاف التاريخ بحثاً عن الدهشة

يمكن وصف رواية «لعنة الخواجة» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب وائل السمري، بأنها نص ينتمي إلى الإبداع المعرفي، حيث تغوص في التاريخ المعاصر لمصر بحثاً عن مساحات من الدهشة والمعارف والفنون التي سقطت سهواً من الذاكرة الجماعية.

تدور الرواية حول شخصية رئيسية هي «دانينوس» المصري اليوناني الذي كان صاحب فكرة إنشاء السد العالي، في مفاجأة تاريخية من العيار الثقيل غابت عن كثيرين. كما يتطرق النص إلى علاقة المصريين عموماً بالأجانب المتيمين بالحضارة المصرية والراغبين في الكشف عن كنوزها.

ورغم أن العمل جاء ضخماً عبر 670 صفحة، فإن اللغة تميزت بسرعة الإيقاع والسلاسة في الصياغة، كما اتسم السرد عموماً بمسحة شاعرية ترددت أصداؤها في كثير من المواقع، نتيجة خبرة المؤلف الطويلة في التحقيقات الصحافية الاستقصائية، فضلاً عن كونه شاعراً، وهو ما انعكس على تجربته الروائية الأولى.

على غلاف الرواية الخلفي، يعلق الكاتب إبراهيم عبد المجيد قائلاً: «التهمتني هذه الرواية في ثلاثة أيام، كيف يصبح هذا الكم من المعرفة والمعلومات والوثائق والتاريخ لبنات بناء فني فائق الروعة؟ هي الرواية الأولى لوائل السمري إلا أنني شعرت بأنه كتب قبلها عشر روايات، موضوعها جيد اكتشفه المؤلف بوثائق حقيقية، وتتحرك الرواية بين عالمين في بناء فني لا تمل من ابتكاراته في النص أو المشهدية أو اللغة التي تجعلك لا تترك الرواية من يدك رغم كبر حجمها».

ووائل السمري شاعر وكاتب، فازت مسرحيته الشعرية «كما لا ترون» بجائزة أفضل كتاب من معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021، وصدر له ديوانان شعريان وسيرة إنسانية بعنوان «ابني يعلمني».

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كانت خيمة الباشا دانينوس قريبة من موقع الحفائر، لا تبتعد عنه إلا بنحو كيلومتر، وقد اختار بنفسه موقع التخييم، لكنّ الريس بولس، كبير العمال، عدل من هذا الموقع بعد أن أستأذنه وأقنعه بأن موقع الخيام لا بد أن يحدَّد ليس بالقرب أو البُعد من موقع الحفر وإنما وفقاً لحسابات دقيقة قائمة على اتجاه الريح وحركة الشمس. وما إن ترك الباشا خيمته حتى بدأ موقع الأصوات في الانجلاء وتأكد أنها تأتي من منطقة الحفائر التي يعمل بها نهاراً، فمشى الباشا وسط هذه الأجواء المشعة مصحوباً بالصوت الذي يتضح كلما ابتعد عن الخيمة واستطاع أن يميّز فيه أصواتاً لنساء تجمع ما بين الأنين والزفير.

وحينما اقترب من موقع الحفائر رأى على البُعد زمرة من الأشباح السوداء تطوف حول التماثيل الواقفة وأخرى تطوف على التماثيل الراقدة، فتملَّك الخوف من قلبه وأحسَّ بقشعريرة مباغتة تسري في جسده، وللحظة كاد يهرع إلى خيمته هرباً، لكنَّ فضوله سبق خوفه فقرر أن يمكث ويرى. ولما راحت دهشة الموقف أعاد النظر فعرف أن الذي ظنه أشباحاً هو في واقع الأمر نساء يرتدين الأسود كعادة نساء مصر، لكن الذي لم يعرف سببه هو تلك الحركات العجيبة التي تؤديها النساء مكشوفات الوجه حاسرات الرأس. ولوهلة ظن مرة أخرى أنه يحلم وأن الحلم أعاده إلى عصر الفراعنة، حيث تؤدي راقصات المعبد شعائرهن الدينية ولم ينقصهن إلا إيقاع الطبول ونقر الأوتار، ثم استيقظ من خياله ليجد أن الواقع أشبه كثيراً بالخيال».