سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»

نجاحها بات أمل البشرية في العودة للحياة الطبيعية

سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»
TT

سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»

سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»

لم يكن أحد خارج أوساط البحوث الطبية يعرف اسمها قبل أشهر معدودة، وها هو اليوم يتصدر الصفحات الأولى ويرتبط في أذهان الآلاف بأمل القضاء على جائحة شلّ فيروسها العالم، وتسبب في وفاة أكثر من 700 ألف شخص.
إنها سارة غيلبرت، العالمة البريطانية التي تقود فريق أكسفورد لتطوير لقاح ضد «كوفيد - 19» في فترة قياسية.
التحديات أمام غيلبرت هائلة، لا يفوقها حجماً سوى الآمال الوطنية والعالمية المعلّقة على نتائج أبحاثها. إلا أنها بدت واثقة من النتائج الأولية التي حققتها التجارب السريرية على البشر، ورجّحت إمكانية طرح لقاح فعال بحلول نهاية العام، من دون أن تجزم أو تفرط في التفاؤل. وتأكيداً على ثقتها بلقاح فريقها التجريبي، لم تعترض غيلبرت على تطوُّع توائمها الثلاثة، في شهر أبريل (نيسان) الماضي، للحصول على جرعة منه كجزء من برنامج تطوّع شارك فيه المئات خلال الأشهر الماضية.
بينما يحتدم السباق بين الباحثين والمختبرات حول العالم سعياً لإنتاج لقاح آمن ضد فيروس «كوفيد - 19»، يتصدّر «مشروع لقاح أكسفورد» بقيادة البروفسورة سارة غيلبرت المعركة، إذ إنه ضمن توزيع مئات ملايين الجرعات حتى قبل اعتماده، إلى جانب لقاحات تجريبية تطوّرها شركات أميركية وألمانية.

التعاون مع أسترا زينيكا
واقع الأمر أن النتائج الأولية للقاح الذي يطوره فريق جامعة أكسفورد بالتعاون مع شركة «أسترا زينيكا» للأدوية الأمل في الأوساط الطبية، وذلك بعدما ولّد «استجابة مناعية قوية» في تجربة شملت أكثر من ألف مريض في بريطانيا. وفي تعليق لها على هذا الإنجاز قالت غيلبرت، كبيرة الباحثين القائمين على تطوير اللقاح، يوم 20 من يوليو (تموز) الماضي: «إذا كان لقاحنا فعالاً، فهذا خيار واعد، إذ إن هذا النوع من اللقاحات يمكن تصنيعه بسهولة وعلى نطاق واسع».
وبالفعل، أظهرت بيانات «أكسفورد» أن اللقاح التجريبي الذي حصلت شركة «أسترا زينيكا» لصناعة الأدوية على ترخيصه، طوّر استجابة مناعية في تجارب المراحل السريرية الأولى، ليبقي على آمال في إمكانية استخدامه بنهاية العام.
وفي هذا السياق كتب باحثون في دورية «ذي لانسيت» الطبية المرموقة إن الاختبارات التي تجري على 1077 من الأصحاء البالغين خلصت إلى أن اللقاح «ينتج أجساماً مضادة قوية، وردود فعل مناعية من الخلايا (تي)». وأضافوا أن ردود الفعل المناعية «ربما تكون أقوى بعد الحصول على جرعة ثانية» من اللقاح، وذلك حسب الاختبارات التي أُجرِيت على مجموعة فرعية من المشاركين في التجارب.
أما غيلبرت، فقد أوضحت لـ«راديو هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) قائلة: «فيما يتعلق بهدف طرح اللقاح بنهاية العام، هذا أمرٌ محتمل. لكن لا يوجد قطعاً ما يؤكد ذلك، لأننا بحاجة إلى حدوث ثلاثة أمور». وشرحت على الأثر أنه ينبغي أولاً التأكد من نجاحه في تجارب المراحل الأخيرة، وثانياً ينبغي توفير كميات كبيرة، وثالثاً يجب أن توافق الجهات الناظمة سريعاً على ترخيصه للاستخدام الطارئ. واستطردت: «لا بد من حدوث تلك الأمور الثلاثة قبل أن يتسنى لنا البدء في تطعيم أعداد كبيرة من الناس».

سيرة شخصية
أدركت غيلبرت ميلها للطب في مدرسة كيترينغ الثانوية. وبعدها تخرجت بدرجة بكالوريوس العلوم في العلوم البيولوجية بجامعة إيست أنغليا (بمدينة نوريتش في شرق إنجلترا)، قبل أن تنتقل إلى جامعة هَل (شمال شرقي إنجلترا) وتحصل منها على درجة الدكتوراه في علم الوراثة والكيمياء الحيوية. بعد ذلك، عملت غيلبرت في مركز «ليستر بايوسنتر» لمدة سنتين، قبل أن تنتقل للعمل في شركة «دلتا» للتكنولوجيا الحيوية، حيث تعرّفت عن قرب على صناعة الأدوية.
عادت غيلبرت إلى السلك الأكاديمي في عام 1994. وعملت مبكراً بمجال إنتاج اللقاحات داخل جامعة «أكسفورد» العريقة، بالتعاون مع أدريان هيل، الذي يعمل حالياً مديراً لـ«معهد جينر»، ويشارك في جهود تطوير اللقاح ضد «كوفيد - 19»، مع التركيز على أبحاث أمصال الملاريا. وانتقلت بعد ذلك إلى «معهد جينر» في عام 2010. حيث أصبحت أستاذة جامعية. كذلك شاركت في تأسيس شركة «فاكسيتيك» التابعة لجامعة «أكسفورد»، التي تولت إجراء عدد من الدراسات السريرية حول اللقاحات الفيروسية (التي تتضمن أجزاء من أمراض سابقة).
صحيفة «تلغراف» البريطانية أشارت في عرض عن مسيرة سارة غيلبرت أنها نالت إعجاب متابعيها وزملائها على حد سواء. واستندت الصحيفة على تغريدة كتبتها زميلتها السابقة في العمل سوزان دوناكي، التي قالت «سارة غيلبرت رائعة في حديثها لوسائل الإعلام. إنها بحق خبيرة في مجالها، وتجيب عن الأسئلة بوضوح وصدق. إنني فخورة للغاية بأنني أنجزت رسالة الدكتوراه الخاصة بي داخل هذه الدفعة».
ومع ذلك، تؤكد غيلبرت أنها لم تسعَ قط لأن تكون اختصاصية بمجال اللقاحات. وفي تصريحات نقلتها الصحيفة، قالت الباحثة البريطانية اللامعة: «في الواقع، أتيت إلى (أكسفورد) للعمل بمشروع حول علم الوراثة البشرية. وسلّط هذا المشروع الضوء على نمط معين من استجابة جهاز المناعة للحماية ضد الملاريا. وبالتالي، كانت الخطوة التالية التي كان يتوجب علينا الانتقال إليها تطوير لقاح يعمل من خلال هذا النمط المعين من الاستجابة، ومن خلال ذلك نحصل على اللقاحات».

أبحاث طموحة ومنح مليونية
قبل بداية عام 2020، كانت سارة غيلبرت وزملاؤها يفكّرون، في سبل الاستجابة لمرض غامض (إكس)، وتسخير المواد وتركيزها بهدف حماية تطوير حلول أسرع من أي وقت مضى. ولم ينتظر هؤلاء الباحثون طويلاً حتى شاعت أنباء عن ظهور فيروس مستجد في مدينة ووهان الصينية، وأكدوا استعدادهم للمساهمة في الاستجابة لهذا المرض الجديد. وعن ذلك، قالت غيلبرت وفق دورية «ذي لانسيت» العلمية: «شرعنا منذ وقت قريب في التفكير في استجابة مناسبة للمرض (إكس)، وكيف يمكننا تحفيز مواردنا وتركيزها كي ننطلق على نحو أسرع عن أي وقت مضى. بعد ذلك، ظهر المرض (إكس)».
وحقاً، بمجرد أن أصبح معروفاً تسلسل الجينوم للفيروس التاجي (كورونا) الذي دُعي بداية بـ«فيروس كورونا المستجد المسبب لمتلازمة الجهاز التنفسي الحادة (سارس - كوف – 2)»، في منتصف يناير (كانون الثاني)، باشر فريق العمل المعاون لغيلبرت العمل من أجل تطوير لقاح. واعتمد الفريق يومذاك على تقنيات حمض نووي معاد التركيب من أجل تحفيز مولدات مضادة تثير استجابة مناعية، ودمجها في ناقلات الفيروس الغدّية (adenovirus). وأضافت غيلبرت وفق دورية «ذي لانسيت» الطبية: «عند تلك النقطة، بدا الأمر كله نظرياً تماماً. وتمثل هدفنا بعد ذلك في تصميم لقاح ونشر دراسة لنا تكشف ما هو ممكن من زاوية الاستجابة السريعة لتفشّي وباء مجهول، وذلك بالاعتماد على تكنولوجيا اللقاح الخاصة بنا، والمعتمدة على ناقلات الفيروس الغدّية».
وحصل فريق العمل المعاون لغيلبرت على منحة بقيمة 2.2 مليون جنيه إسترليني من المعهد الوطني لأبحاث الصحة في المملكة المتحدة ومؤسسة الأبحاث والابتكار البريطانية في مارس (آذار) 2020، بهدف دعم جهود الفريق للانتقال إلى مرحلة التجارب ما قبل السريرية والسريرية. وعن هذا التطور قالت غيلبرت: «من المهم النظر إلى الأسلوب الذي جرى من خلاله تقديم منح متنوعة إلى جوانب استراتيجية مختلفة من المشروع، بالنظر إلى أن ذلك يسمح بتنفيذ كثير من العمل على نحو متوازٍ. فعلى سبيل المثال، تلقّت زميلتي ساندي دوغلاس تمويلاً لتعزيز عمليات تصنيع اللقاح، في الوقت ذاته الذي كنا نتقدم في جهودنا من أجل القيام بتجارب».
أيضاً حصل فريق عمل «أكسفورد» على موافقة أخلاقية لإجراء تجارب سريرية، وكذلك على موافقة مشروطة من جانب الوكالة الناظمة المعنية بالأدوية ومنتجات العناية الصحية داخل المملكة المتحدة من أجل الاستعانة بمتطوعين للالتحاق بالتجارب.

خبرة «معهد جينر»
في الحقيقة، تعتبر القدرة على خلق لقاحات فيروسية معادة التركيب مهمة جوهرية للمجموعة البحثية التي تشارك فيها غيلبرت داخل «معهد جينر». وما يُذكر أن هذا المعهد انهمك على مدار السنوات القليلة الماضية في العمل على تطوير كثير من اللقاحات، بما في ذلك لقاحات للإنفلونزا وفيروس «زيكا»، والمرحلة الأولى من تجارب للقاح الفيروس التاجي لـ«متلازمة الشرق الأوسط التنفسية» (ميرس)، التي قُيّض لها أن تشكّل خطوة مفيدة في العمل من أجل إنتاج لقاح لفيروس «كوفيد - 19». وباعتبار غيلبرت رئيسة اللجنة التي تتولى الإشراف على جهود الإنتاج الأولي للقاحات داخل جامعة أكسفورد، فإنها - كما ذكرت «ذي لانسيت» - أصدرت قراراً بوقف جميع الأبحاث الأخرى المتزامنة المتعلقة بإنتاج أمصال، وإعطاء الأولوية لفيروس «كوفيد - 19».

تقنيات لقاح مبتكرة
وفعلاً، عندما بدأت البروفسورة غيلبرت عملها في أكسفورد، فإنها ركزت جهودها على مكافحة الملاريا، قبل أن تنتقل للعمل على لقاحات الإنفلونزا. وبعدما أصبحت بروفسورة في مجال اللقاحات عام 2010، شرعت في العمل على توجه جديد أثمر تقنية «chimpanzee adenovirus Oxford 1»، المعروفة اختصاراً بتقنية لقاح «ChAdOx1». وتعتمد هذه التقنية، وفق صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، على فيروسات غدية لقردة الشمبانزي معدلة وراثياً، تسبب أعراضاً خفيفة تشبه أعراض الإنفلونزا في القردة، لكنها عادة لا تعدي البشر، وذلك من أجل حمل عناصر من فيروس ضار إلى داخل خلايا بشرية، بهدف تحفيز جهاز مناعة المتلقي.
وفي الوقت الذي ظهر فيه فيروس «كوفيد - 19» لأول مرة في الصين، كانت البروفسورة غيلبرت تطبق هذه التقنية على بعض أسوأ أنواع الفيروسات المعروفة لدى المجتمع الطبي، بما في ذلك فيروسات «نيباه» و«لاسا» و«حمى الوادي المتصدع».
وقاومت غيلبرت دعوات لتحديد متى يصار إلى تطبيق تقنية «ChAdOx1» خارج التجارب السريرية، من أجل توفير لقاح لأعداد كبيرة من البشر ضد «كوفيد - 19»، وذلك نظراً لوجود عدة متغيرات وشروط محيطة باللقاح المحتمل ضد الفيروس المستجد (أي «كوفيد»). وقالت غيلبرت في هذا السياق إنه من غير الواضح المدة التي ستستغرقها التجارب حتى تصل لنتائج نهائية وحاسمة. وسيعتمد الأمر على حجم انتشار الفيروس داخل الأماكن التي تجري فيها التجارب، والتي تتضمن البرازيل وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة. وتضيف، وفق صحيفة «فاينانشال تايمز»، التي كتبت تقريراً في هذا الشأن: «بعد ذلك، سيتعيّن على مجموعة (أسترا زينيكا) وشركائها المصنعين تنظيم عملية الإنتاج على نطاق ضخم. وأخيراً، يجب أن تتخذ الجهات الناظمة قراراً بخصوص ما إذا كان اللقاح فاعل بدرجة كافية للموافقة عليه».
وفي حين لم تحدد غالبية الدول بعد شروطها لقبول اعتماد لقاح ضد «كوفيد - 19»، اشترطت «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» نسبة فعالية 50 في المائة كحد أدنى مقبول لإقرار لقاح مضاد لهذا الفيروس. وإذا ما سارت جميع الأمور على ما يرام، يقول فريق «أكسفورد» إن «ChAdOx1» ربما يصبح متاحاً بحلول نهاية العام لتطعيم الفئات المجتمعية التي تشكل الأولوية الأولى، وفي مقدمتها الطواقم الطبية والأشخاص الذين يعانون من ضعف مناعي، مع توسيع نطاق التطعيم سريعاً خلال عام 2021.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.