سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»

نجاحها بات أمل البشرية في العودة للحياة الطبيعية

سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»
TT

سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»

سارة غيلبرت... عالمة بريطانية تتصدّر المعركة ضد «كوفيد ـ 19»

لم يكن أحد خارج أوساط البحوث الطبية يعرف اسمها قبل أشهر معدودة، وها هو اليوم يتصدر الصفحات الأولى ويرتبط في أذهان الآلاف بأمل القضاء على جائحة شلّ فيروسها العالم، وتسبب في وفاة أكثر من 700 ألف شخص.
إنها سارة غيلبرت، العالمة البريطانية التي تقود فريق أكسفورد لتطوير لقاح ضد «كوفيد - 19» في فترة قياسية.
التحديات أمام غيلبرت هائلة، لا يفوقها حجماً سوى الآمال الوطنية والعالمية المعلّقة على نتائج أبحاثها. إلا أنها بدت واثقة من النتائج الأولية التي حققتها التجارب السريرية على البشر، ورجّحت إمكانية طرح لقاح فعال بحلول نهاية العام، من دون أن تجزم أو تفرط في التفاؤل. وتأكيداً على ثقتها بلقاح فريقها التجريبي، لم تعترض غيلبرت على تطوُّع توائمها الثلاثة، في شهر أبريل (نيسان) الماضي، للحصول على جرعة منه كجزء من برنامج تطوّع شارك فيه المئات خلال الأشهر الماضية.
بينما يحتدم السباق بين الباحثين والمختبرات حول العالم سعياً لإنتاج لقاح آمن ضد فيروس «كوفيد - 19»، يتصدّر «مشروع لقاح أكسفورد» بقيادة البروفسورة سارة غيلبرت المعركة، إذ إنه ضمن توزيع مئات ملايين الجرعات حتى قبل اعتماده، إلى جانب لقاحات تجريبية تطوّرها شركات أميركية وألمانية.

التعاون مع أسترا زينيكا
واقع الأمر أن النتائج الأولية للقاح الذي يطوره فريق جامعة أكسفورد بالتعاون مع شركة «أسترا زينيكا» للأدوية الأمل في الأوساط الطبية، وذلك بعدما ولّد «استجابة مناعية قوية» في تجربة شملت أكثر من ألف مريض في بريطانيا. وفي تعليق لها على هذا الإنجاز قالت غيلبرت، كبيرة الباحثين القائمين على تطوير اللقاح، يوم 20 من يوليو (تموز) الماضي: «إذا كان لقاحنا فعالاً، فهذا خيار واعد، إذ إن هذا النوع من اللقاحات يمكن تصنيعه بسهولة وعلى نطاق واسع».
وبالفعل، أظهرت بيانات «أكسفورد» أن اللقاح التجريبي الذي حصلت شركة «أسترا زينيكا» لصناعة الأدوية على ترخيصه، طوّر استجابة مناعية في تجارب المراحل السريرية الأولى، ليبقي على آمال في إمكانية استخدامه بنهاية العام.
وفي هذا السياق كتب باحثون في دورية «ذي لانسيت» الطبية المرموقة إن الاختبارات التي تجري على 1077 من الأصحاء البالغين خلصت إلى أن اللقاح «ينتج أجساماً مضادة قوية، وردود فعل مناعية من الخلايا (تي)». وأضافوا أن ردود الفعل المناعية «ربما تكون أقوى بعد الحصول على جرعة ثانية» من اللقاح، وذلك حسب الاختبارات التي أُجرِيت على مجموعة فرعية من المشاركين في التجارب.
أما غيلبرت، فقد أوضحت لـ«راديو هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) قائلة: «فيما يتعلق بهدف طرح اللقاح بنهاية العام، هذا أمرٌ محتمل. لكن لا يوجد قطعاً ما يؤكد ذلك، لأننا بحاجة إلى حدوث ثلاثة أمور». وشرحت على الأثر أنه ينبغي أولاً التأكد من نجاحه في تجارب المراحل الأخيرة، وثانياً ينبغي توفير كميات كبيرة، وثالثاً يجب أن توافق الجهات الناظمة سريعاً على ترخيصه للاستخدام الطارئ. واستطردت: «لا بد من حدوث تلك الأمور الثلاثة قبل أن يتسنى لنا البدء في تطعيم أعداد كبيرة من الناس».

سيرة شخصية
أدركت غيلبرت ميلها للطب في مدرسة كيترينغ الثانوية. وبعدها تخرجت بدرجة بكالوريوس العلوم في العلوم البيولوجية بجامعة إيست أنغليا (بمدينة نوريتش في شرق إنجلترا)، قبل أن تنتقل إلى جامعة هَل (شمال شرقي إنجلترا) وتحصل منها على درجة الدكتوراه في علم الوراثة والكيمياء الحيوية. بعد ذلك، عملت غيلبرت في مركز «ليستر بايوسنتر» لمدة سنتين، قبل أن تنتقل للعمل في شركة «دلتا» للتكنولوجيا الحيوية، حيث تعرّفت عن قرب على صناعة الأدوية.
عادت غيلبرت إلى السلك الأكاديمي في عام 1994. وعملت مبكراً بمجال إنتاج اللقاحات داخل جامعة «أكسفورد» العريقة، بالتعاون مع أدريان هيل، الذي يعمل حالياً مديراً لـ«معهد جينر»، ويشارك في جهود تطوير اللقاح ضد «كوفيد - 19»، مع التركيز على أبحاث أمصال الملاريا. وانتقلت بعد ذلك إلى «معهد جينر» في عام 2010. حيث أصبحت أستاذة جامعية. كذلك شاركت في تأسيس شركة «فاكسيتيك» التابعة لجامعة «أكسفورد»، التي تولت إجراء عدد من الدراسات السريرية حول اللقاحات الفيروسية (التي تتضمن أجزاء من أمراض سابقة).
صحيفة «تلغراف» البريطانية أشارت في عرض عن مسيرة سارة غيلبرت أنها نالت إعجاب متابعيها وزملائها على حد سواء. واستندت الصحيفة على تغريدة كتبتها زميلتها السابقة في العمل سوزان دوناكي، التي قالت «سارة غيلبرت رائعة في حديثها لوسائل الإعلام. إنها بحق خبيرة في مجالها، وتجيب عن الأسئلة بوضوح وصدق. إنني فخورة للغاية بأنني أنجزت رسالة الدكتوراه الخاصة بي داخل هذه الدفعة».
ومع ذلك، تؤكد غيلبرت أنها لم تسعَ قط لأن تكون اختصاصية بمجال اللقاحات. وفي تصريحات نقلتها الصحيفة، قالت الباحثة البريطانية اللامعة: «في الواقع، أتيت إلى (أكسفورد) للعمل بمشروع حول علم الوراثة البشرية. وسلّط هذا المشروع الضوء على نمط معين من استجابة جهاز المناعة للحماية ضد الملاريا. وبالتالي، كانت الخطوة التالية التي كان يتوجب علينا الانتقال إليها تطوير لقاح يعمل من خلال هذا النمط المعين من الاستجابة، ومن خلال ذلك نحصل على اللقاحات».

أبحاث طموحة ومنح مليونية
قبل بداية عام 2020، كانت سارة غيلبرت وزملاؤها يفكّرون، في سبل الاستجابة لمرض غامض (إكس)، وتسخير المواد وتركيزها بهدف حماية تطوير حلول أسرع من أي وقت مضى. ولم ينتظر هؤلاء الباحثون طويلاً حتى شاعت أنباء عن ظهور فيروس مستجد في مدينة ووهان الصينية، وأكدوا استعدادهم للمساهمة في الاستجابة لهذا المرض الجديد. وعن ذلك، قالت غيلبرت وفق دورية «ذي لانسيت» العلمية: «شرعنا منذ وقت قريب في التفكير في استجابة مناسبة للمرض (إكس)، وكيف يمكننا تحفيز مواردنا وتركيزها كي ننطلق على نحو أسرع عن أي وقت مضى. بعد ذلك، ظهر المرض (إكس)».
وحقاً، بمجرد أن أصبح معروفاً تسلسل الجينوم للفيروس التاجي (كورونا) الذي دُعي بداية بـ«فيروس كورونا المستجد المسبب لمتلازمة الجهاز التنفسي الحادة (سارس - كوف – 2)»، في منتصف يناير (كانون الثاني)، باشر فريق العمل المعاون لغيلبرت العمل من أجل تطوير لقاح. واعتمد الفريق يومذاك على تقنيات حمض نووي معاد التركيب من أجل تحفيز مولدات مضادة تثير استجابة مناعية، ودمجها في ناقلات الفيروس الغدّية (adenovirus). وأضافت غيلبرت وفق دورية «ذي لانسيت» الطبية: «عند تلك النقطة، بدا الأمر كله نظرياً تماماً. وتمثل هدفنا بعد ذلك في تصميم لقاح ونشر دراسة لنا تكشف ما هو ممكن من زاوية الاستجابة السريعة لتفشّي وباء مجهول، وذلك بالاعتماد على تكنولوجيا اللقاح الخاصة بنا، والمعتمدة على ناقلات الفيروس الغدّية».
وحصل فريق العمل المعاون لغيلبرت على منحة بقيمة 2.2 مليون جنيه إسترليني من المعهد الوطني لأبحاث الصحة في المملكة المتحدة ومؤسسة الأبحاث والابتكار البريطانية في مارس (آذار) 2020، بهدف دعم جهود الفريق للانتقال إلى مرحلة التجارب ما قبل السريرية والسريرية. وعن هذا التطور قالت غيلبرت: «من المهم النظر إلى الأسلوب الذي جرى من خلاله تقديم منح متنوعة إلى جوانب استراتيجية مختلفة من المشروع، بالنظر إلى أن ذلك يسمح بتنفيذ كثير من العمل على نحو متوازٍ. فعلى سبيل المثال، تلقّت زميلتي ساندي دوغلاس تمويلاً لتعزيز عمليات تصنيع اللقاح، في الوقت ذاته الذي كنا نتقدم في جهودنا من أجل القيام بتجارب».
أيضاً حصل فريق عمل «أكسفورد» على موافقة أخلاقية لإجراء تجارب سريرية، وكذلك على موافقة مشروطة من جانب الوكالة الناظمة المعنية بالأدوية ومنتجات العناية الصحية داخل المملكة المتحدة من أجل الاستعانة بمتطوعين للالتحاق بالتجارب.

خبرة «معهد جينر»
في الحقيقة، تعتبر القدرة على خلق لقاحات فيروسية معادة التركيب مهمة جوهرية للمجموعة البحثية التي تشارك فيها غيلبرت داخل «معهد جينر». وما يُذكر أن هذا المعهد انهمك على مدار السنوات القليلة الماضية في العمل على تطوير كثير من اللقاحات، بما في ذلك لقاحات للإنفلونزا وفيروس «زيكا»، والمرحلة الأولى من تجارب للقاح الفيروس التاجي لـ«متلازمة الشرق الأوسط التنفسية» (ميرس)، التي قُيّض لها أن تشكّل خطوة مفيدة في العمل من أجل إنتاج لقاح لفيروس «كوفيد - 19». وباعتبار غيلبرت رئيسة اللجنة التي تتولى الإشراف على جهود الإنتاج الأولي للقاحات داخل جامعة أكسفورد، فإنها - كما ذكرت «ذي لانسيت» - أصدرت قراراً بوقف جميع الأبحاث الأخرى المتزامنة المتعلقة بإنتاج أمصال، وإعطاء الأولوية لفيروس «كوفيد - 19».

تقنيات لقاح مبتكرة
وفعلاً، عندما بدأت البروفسورة غيلبرت عملها في أكسفورد، فإنها ركزت جهودها على مكافحة الملاريا، قبل أن تنتقل للعمل على لقاحات الإنفلونزا. وبعدما أصبحت بروفسورة في مجال اللقاحات عام 2010، شرعت في العمل على توجه جديد أثمر تقنية «chimpanzee adenovirus Oxford 1»، المعروفة اختصاراً بتقنية لقاح «ChAdOx1». وتعتمد هذه التقنية، وفق صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، على فيروسات غدية لقردة الشمبانزي معدلة وراثياً، تسبب أعراضاً خفيفة تشبه أعراض الإنفلونزا في القردة، لكنها عادة لا تعدي البشر، وذلك من أجل حمل عناصر من فيروس ضار إلى داخل خلايا بشرية، بهدف تحفيز جهاز مناعة المتلقي.
وفي الوقت الذي ظهر فيه فيروس «كوفيد - 19» لأول مرة في الصين، كانت البروفسورة غيلبرت تطبق هذه التقنية على بعض أسوأ أنواع الفيروسات المعروفة لدى المجتمع الطبي، بما في ذلك فيروسات «نيباه» و«لاسا» و«حمى الوادي المتصدع».
وقاومت غيلبرت دعوات لتحديد متى يصار إلى تطبيق تقنية «ChAdOx1» خارج التجارب السريرية، من أجل توفير لقاح لأعداد كبيرة من البشر ضد «كوفيد - 19»، وذلك نظراً لوجود عدة متغيرات وشروط محيطة باللقاح المحتمل ضد الفيروس المستجد (أي «كوفيد»). وقالت غيلبرت في هذا السياق إنه من غير الواضح المدة التي ستستغرقها التجارب حتى تصل لنتائج نهائية وحاسمة. وسيعتمد الأمر على حجم انتشار الفيروس داخل الأماكن التي تجري فيها التجارب، والتي تتضمن البرازيل وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة. وتضيف، وفق صحيفة «فاينانشال تايمز»، التي كتبت تقريراً في هذا الشأن: «بعد ذلك، سيتعيّن على مجموعة (أسترا زينيكا) وشركائها المصنعين تنظيم عملية الإنتاج على نطاق ضخم. وأخيراً، يجب أن تتخذ الجهات الناظمة قراراً بخصوص ما إذا كان اللقاح فاعل بدرجة كافية للموافقة عليه».
وفي حين لم تحدد غالبية الدول بعد شروطها لقبول اعتماد لقاح ضد «كوفيد - 19»، اشترطت «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» نسبة فعالية 50 في المائة كحد أدنى مقبول لإقرار لقاح مضاد لهذا الفيروس. وإذا ما سارت جميع الأمور على ما يرام، يقول فريق «أكسفورد» إن «ChAdOx1» ربما يصبح متاحاً بحلول نهاية العام لتطعيم الفئات المجتمعية التي تشكل الأولوية الأولى، وفي مقدمتها الطواقم الطبية والأشخاص الذين يعانون من ضعف مناعي، مع توسيع نطاق التطعيم سريعاً خلال عام 2021.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.