موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع

وسط ترحيب رئيس الجمهورية... وهموم أمنية وصحية

موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع
TT

موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع

موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع

اختار رئيس الوزراء العراقي أكثر الأوقات حرجاً للكتل والأحزاب والقوى السياسية العراقية لطرح موعده «القاتل» لإجراء الانتخابات المبكرة... إذ وضع الكاظمي للانتخابات توقيتاً ذكياً، هو السادس من شهر يونيو (حزيران) عام 2021. والمعروف أن رئيس الحكومة الحالي كان قد جاء إلى منصبه بعد سلسلة اعتراضات عليه وعلى مَن سبقه من المكلفين (محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي)، بينما كان رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي يواصل مهامه رئيساً لـ«حكومة تصريف أعمال يومية»، في فترة صعبة من تاريخ العراق، تقتضي قرارات دولة حقيقية.
خلال الفترة التي أعلن فيها عبد المهدي استقالته، ومن ثم بدأت إجراءات تكليف البدلاء، وما تخللها من مشاكل وإشكالات سياسية وشخصية، واجه العراقَ تحوّلان غير مسبوقين هما: جائحة «كوفيد - 19»، وانخفاض أسعار النفط إلى حدود بدت محرجة للخزينة العراقية الخاوية أصلاً منذ سنوات.
حين وصل مصطفى الكاظمي إلى السلطة في السادس من مايو (أيار) 2020، كان كل شيء متهاوياً ويقترب من الخراب.
الكتل والقوى والشخصيات التي حضرت مراسم تكليفه في القصر الرئاسي أمام رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح، وحضور رئيسي المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى، فضلاً عن كبار زعامات الخط الأول - مثل عمّار الحكيم وهادي العامري وحيدر العبادي وسواهم - وصفّقت له، حاولت أن تكون أكثر «شطارة» منه، حين طالبته بتحديد موعد للانتخابات المبكرة.
هذه الكتل، من خلال خبرتها التي ظنت أنها وصلت إلى حد «الاحتراف في فهم الوضع العراقي»، كانت تتصوّر أن هذا الأمر لا يمكن حصوله، وليس باستطاعة أي رئيس وزراء التعامل معه. لذا فإنها في «طلبها» الذي تحوّل إلى «شرط» أرادت عبره استيعاب الشارع الغاضب والمنتفض، ومحاولة إرضاء المرجعية الدينية، وبالذات مرجعية آية الله علي السيستاني، الذي أغلق أبوابه أمام الجميع منذ عام 2015، في حين واصل ممثلوه، عبر خطب الجمعة، توجيه الانتقادات الحادة لكل أفراد الطبقة السياسية من دون استثناء. بيد أن المرجعية الدينية، وفي أكثر من خطبة خلال الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، طالبت بإجراء انتخابات مبكرة.

لعبة مصطلحات
إذا كانت عبارة «الانتخابات المبكرة» مطلباً للجماهير والمرجعية وآخر ما تفكر به الكتل السياسية، فإن مفردة «الأبكر» نحتها رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي.
الحلبوسي، الرئيس السنّي الشاب لمجلس النواب (البرلمان) العراقي كان أعلن قبل نحو شهر، رداً على سؤال حول ما إذا كان جاهزاً لخوض الانتخابات: «أنا جاهز الآن أكثر من أي وقت مضى». يومذاك لم يكن محمد الحلبوسي يعلم أن الكاظمي يمكن أن يعلن بعد نحو شهر موعداً فاجأ به الجميع.
وبالتالي، إذا كان ما صدر عن الحلبوسي قبل شهر تعبيراً عن ثقة بالنفس، فإن آخرين من الكتل والقوى والأحزاب السياسية المتنافسة بقوة فيما بينها وفي مناطقها (لا سيما الأحزاب الشيعية التي يستهدفها الحراك الشعبي في المقام الأول) وجدت نفسها أمام مفاجأة من الوزن الثقيل بإعلان الكاظمي موعداً بدا مبكراً لإجراء الانتخابات.
عند هذه النقطة بدت «لعبة المصطلحات» بين «المُبكرة» التي هي إحدى المطالب المؤجلة لمظاهرات أكتوبر 2019 و«الأبكر» التي تقترحها رئيس مجلس النواب وأيده فيها كل من زعيم تحالف «الفتح» هادي العامري وزعيم ائتلاف «دولة القانون» نوري المالكي، اللذين اقترحا شهر أبريل (نيسان) من العام ذاته موعداً لها.
الكاظمي نجح في رمي الكرة في ملعب البرلمان كونه الجهة الوحيدة التي يتعيّن عليها توفير كل ما يلزم لإجرائها، وفي المقدمة ما ينبغي حسمه هو قانون الانتخابات الجديد، الذي أقره البرلمان عام 2019 تحت وقع الضغوط التي فرضتها الاحتجاجات الجماهيرية. ثم إنه بعد إكمال كل المستلزمات المتعلقة بذلك، ومنها القانون وحسم الدوائر المتعلقة به، فضلاً عن توفير الدعم اللوجيستي للمفوضية العليا المستقلة لإجراء الانتخابات، سيتوجب على البرلمان حلّ نفسه قبل شهرين من موعد إجراء هذه الانتخابات.

لا تواريخ «مقدّسة»
لا توجد في العراق تواريخ «مقدّسة» في الاستحقاقات السياسية... لا للانتخابات ولا لسواها. ولكن، ما إن أعلن مصطفى الكاظمي السادس من يونيو المقبل موعداً للانتخابات حتى ظهرت المشاكل والإشكاليات، التي تتعلق بكيفية إجراء العملية الانتخابية في أجواء غير آمنة، بدءاً من السلاح المنفلت، ووصولاً إلى جائحة «كوفيد - 19»، مروراً بالأزمة المالية والأزمات الأخرى كقضية النازحين والمهجرين... وقبلها كلها إشكاليات قانون الانتخابات. مع هذا، فإنه طبقاً لما يراه الخبير القانوني أحمد العبادي، فإن «موعد الكاظمي إذا كان مقدّساً فإن هناك شروطاً لذلك. لأنه لا يمكن أن يُحل البرلمان اليوم ونبقى على مدى 8 أشهر مع (حكومة تسيير أعمال). وبالتالي، لا بد من أن يكون هناك اتفاق بين الكتل السياسية على موعد محدد للانتخابات أو اعتبار السادس من يونيو المقبل موعداً نهائياً للانتخابات. وبناءً عليه، لا بد من حسم موضوع قانون الانتخابات، وكذلك يجب حسم مسألة قانون المحكمة الاتحادية».
لكي يصار إلى حسم مسألة التواريخ، وما إذا كانت نهائية وقاطعة أم لا، دعا رئيس البرلمان محمد الحلبوسي إلى عقد جلسة طارئة ومفتوحة وعلنية للمضي بإجراءات الانتخابات المبكرة. وجاء في بيان الحلبوسي أن «الحكومات المتعاقبة لم تنفذ برنامجها الحكومي ومنهاجها الوزاري، ولم يتعدّ السطور التي كتبت به، ما أدى إلى استمرار الاحتجاجات الشعبية بسبب قلة الخدمات وانعدام مقومات الحياة الكريمة».
وأكد البيان «أنه من أجل العراق ووفاء لتضحيات أبنائه، ندعو إلى انتخابات أبكر وعقد جلسة طارئة مفتوحة علنية بحضور الرئاسات والقوى السياسية للمضي بالإجراءات الدستورية وفقاً للمادة 64 من الدستور، فهي المسار الدستوري الوحيد لإجراء الانتخابات المبكرة، وعلى الجميع أن يعي صلاحياته ويتحمل مسؤولياته أمام الشعب».
يحيى غازي، عضو البرلمان العراقي عن «تحالف القوى العراقية» الذي يتزعمه الحلبوسي، أبلغ «الشرق الأوسط» أن «موقفنا في تحالف القوى العراقية مع الانتخابات الأبكر طبقاً لما دعا إليه زعيم التحالف ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي»، وأردف: «بين هذا وذاك فإن هناك مستلزمات لا بد أن تُستكمل قبل الذهاب إلى الانتخابات، وهي من الناحية القانونية استكمال القانون الانتخابي، وتهيئة الأجواء المناسبة لإجرائها، فضلاً عن المادة 64 من الدستور التي تنص على حل البرلمان كشرط أساسي لإجراء الانتخابات، على أن يكون ذلك قبل شهرين من موعد التصويت، وهو ما يتطلب اتفاقاً بين الكتل السياسية».
وبيّن غازي أنه «بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك مؤشرات تتعلق بالوضع الأمني والوضع الصحي في البلد، حيث لا بد أن تؤخذ مثل هذه الأمور بنظر الاعتبار، فضلاً عن الاستقرار في محافظات الوسط والجنوب، خصوصاً على صعيد المظاهرات والاعتصامات التي تخرج أحياناً عن السيطرة... وهو ما لا يوفر بيئة مناسبة لذلك».
كذلك، أوضح غازي أن «هذه الظروف يجب أن تُدرس بشكل دقيق، وهو ما دعا رئيس البرلمان إلى عقد جلسة طارئة للرئاسات والقوى السياسية من أجل الخروج بصيغة مناسبة من أجل إجراء انتخابات نزيهة».

صالح على الخط
من جهة ثانية، أكد رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح ترحيبه بإعلان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تحديد موعد للانتخابات المبكرة في يونيو المقبل، وقال في بيان إن «الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة حرة ونزيهة تُعدّ من متطلبات الإصلاح السياسي المنشود، وهو استحقاق وطني أفرزه الحراك الشعبي». وتابع صالح أن «ذلك تم التداول به في الاجتماع الأخير للرئاسات الثلاث الذي جمعنا مع رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب، والتأكيد على ضرورة الالتزام بإجراء انتخابات مبكرة حرة ونزيهة». كذلك شدّد رئيس الجمهورية على «أهمية العمل الجاد من أجل تحقيق هذا الالتزام الحكومي بأسرع وقت ممكن، لأن أزمة العراق السياسية لا تحتمل التسويف. وظروف المعاناة التي يمرّ بها شعبنا تتطلب قراراً وطنياً شجاعاً نابعاً من استحقاق الشعب وحقه في اختيار حكومة وطنية مستقلة ومتماسكة عبر انتخابات حرة ونزيهة».
وبيّن الرئيس صالح في بيانه أن «الحلول الناجعة تنبع من المواطن وقراره المستقل بعيداً عن التلاعب والتزوير والتأثير على خياره الانتخابي، كي يمكّن البلد من الانطلاق نحو الإصلاح البنيوي المنشود». ودعا «مجلس النواب إلى إكمال قانون الانتخابات بأسرع وقت ممكن، وإرساله إلى رئاسة الجمهورية للمصادقة عليه والشروع بتنفيذه، ومن ثم، الإسراع في إقرار تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا». واستطرد: «نؤكد على توفير الموازنة والتسهيلات المطلوبة لعمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بما يضمن استقلاليتها ويحفظ نزاهة العملية الانتخابية»، لافتاً إلى أن «الحكومة قد بادرت بالمشاورات المطلوبة مع المفوضية، وقد أعلنت أنه في حال الشروع في توفير المستلزمات المطلوبة تستطيع المفوضية حينها إجراء الانتخابات في المدة التي اقترحها رئيس مجلس الوزراء».
بعدها، أكد صالح أنه «في حال تقديم الحكومة مقترحاً لحلّ البرلمان، ننوي الموافقة على رفعه إلى مجلس النواب، لغرض عرضه للتصويت. ومع صدور قرار البرلمان، فإننا سنقرر رسمياً موعداً لا يتجاوز شهرين من حلّ البرلمان، وحسب ما نصّ عليه الدستور». وأوضح أن «إجراء انتخاباتٍ مبكرة حرة ونزيهة يستوجب تعاوناً أممياً مع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فضلاً عن إشراف المراقبين الدوليين لتمكينها من أداء دورها الوطني وحمايتها من التدخلات وتكريس ثقة المواطن بالعملية الانتخابية... إن الاستحقاق الوطني يتطلب تنظيم انتخابات نزيهة أبكر ما يمكن، وذلك لإخراج بلدنا من أزمته السياسية الخطيرة، وتمكين المواطن من تحديد مصير بلده بحرية واستقلال بعيداً عن الابتزاز والتزوير».

تفشي الفساد
رئيس الجمهورية العراقي رأى في بيانه أيضاً أن «جوهر الأزمة التي يعانيها العراق نابعة من تفشي الفساد وتأثيره المباشر في عرقلة الإصلاح المنشود، التي طالت العملية الانتخابية أيضاً في مؤشرات التزوير والتلاعب بالنتائج»، وقال إن هذه العرقلة أدت إلى «غياب ثقة المواطن والعزوف عن الانتخابات».
ومن جانبه، رأى الرئيس الأسبق للدائرة الانتخابية في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات مقداد الشريفي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه «يوجد تنافس قوي بين رئاسة الوزراء والبرلمان بشأن الانتخابات»، إذ إن الكاظمي مُحرَج من القوى السياسية التي تطالبه بإجرائها، بينما الكتل التي تمثلها في البرلمان لا تمرر القانون داخله، «وهذا هو الإشكال الذي يعاني منه رئيس الوزراء».
وأضاف الشريفي أن «إجراء الانتخابات خلال يونيو 2021 أمر صعب جداً، على مستوى الناخبين الذين يرومون التصويت، وذلك بسبب حرارة الجو وعدم وجود إمكانية لتحسن الكهرباء خلال تلك الفترة، وبالتالي يبدو لي أن تحديد هذا الموعد جاء من أجل الضغط لتمرير القانون، وليس لغرض إجرائها في مثل هذا الوقت كتاريخ فعلي لإجرائها».
وبشأن مفوضية الانتخابات التي يقع عليها عبء تنظيم عملية التصويت، قال الشريفي إن «وضع المفوضية ما زال صعباً، لأنه لم تُستكمل بعد المستلزمات المطلوبة لإجراء انتخابات. وبالتالي سيكون صعباً عليها تنظيمها في مثل هذا التاريخ».
هذا، ومع أن العديد من القوى السياسية أعلنت تأييدها لإجراء الانتخابات، فإن تحالف «عراقيون» بزعامة عمار الحكيم، وائتلاف «النصر» بزعامة حيدر العبادي هما الأكثر تأييداً لدعوة الكاظمي. وحول ما إذا كانت الخارطة السياسية ستتغير بعد الانتخابات المقبلة، صرّح الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي في العراق»، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، بأن «الحركة الاحتجاجية أسقطت معادلة الأحزاب الإسلامية كحكومة تنفيذية في أكتوبر الماضي، وما تبعتها من مؤشرات استياء كبيرة حيال أداء ونفوذ هذه الأحزاب الإسلامية، مع أن هذه الأحزاب لاتزال قابضة على مفاصل الدولة». وبيّن الشمري أنه «سواء كانت الانتخابات مبكرة أو أبكر... أو حتى لو كانت ضمن مددها الدستورية، فإن ذلك يُبقِي عملية توظيف الدولة من قبل هذه الأحزاب أمراً وارداً، وقد يتحكم بشكل كبير بالمشهد السياسي العراقي». وتابع أن «هذه الأحزاب ستعمل على إيجاد قانون انتخابي يؤمن نسبة حضورها في المشهد السياسي المقبل، كما أنها ستعتمد على مسار (أحزاب الظل)... أي أنها تظهر بكيانات رديفة تمثل لها مساحة أو الالتفاف للحصول على أصوات الناخبين». وأوضح الشمري أنه «مع ذلك، تزايد الوعي الجماهيري سيكون له مساحة كبيرة، لا سيما في حال تبلور مشروع بديل سواء عبر الحركة الاحتجاجية أو ما يمكن أن يفرزه هذا الوعي، ولكن دون أن نتفاءل كثيراً بإمكانية إحداث تغيير جذري كامل». ثم أكد أن «الفرز سيكون واضحاً من حيث المشاريع، لكنها لن تكون متقاربة، وإن كانت ستشكل حضوراً لافتاً في الانتخابات المقبلة».
أخيراً، مع كل ما يمكن قوله بشأن المواعيد المقترحة للانتخابات، سواء تلك التي حددها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أو بعض الكتل السياسية التي حددت موعداً أبكر، فإن الانتخابات المقبلة مفصلية في الحياة السياسية في العراق. وتالياً، ستمثل إحراجاً للجميع ممن يسعون إلى المحافظة على أوزانهم أو أولئك الذين لم يستعدوا بما فيه الكفاية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.