«السلفية الجهادية الأردنية».. قياديون مؤثرون في فرع «القاعدة» السوري

العامل الجغرافي أحد أسباب سهولة الانضمام لـ«جبهة النصرة».. والجيل الجديد يفضل «داعش»

«السلفية الجهادية الأردنية».. قياديون مؤثرون في فرع «القاعدة» السوري
TT

«السلفية الجهادية الأردنية».. قياديون مؤثرون في فرع «القاعدة» السوري

«السلفية الجهادية الأردنية».. قياديون مؤثرون في فرع «القاعدة» السوري

تضاعف في السنوات الأخيرة الماضية عدد السلفيين الجهاديين في الأردن نتيجة تلاقي عدد من العوامل.. «ففشل التجربة الثورية، والحملات التي شنت على تحركات الإسلاميين في دول المنطقة كمصر، أضف إليها الحرب الطائفية في العراق وسوريا والعودة إلى السياسات الأمنية، ساهمت كلها في تأجيج النزعة السلفية الجهادية في المملكة الهاشمية»، وفق ما رأى في حديث لـ«الشرق الأوسط» الدكتور محمد أبو رمان الذي أصدر أخيرا تقريرا حول السلفيين الأردنيين تحت عنوان «أنا سلفي».
ومع اتجاه الحرب السورية يوما بعد يوم لتتخذ منحى طائفيا، توسعت الهوة السنية - الشيعية، وتأجج العداء بين اثنين من فروع الإسلام.. «فالجهاد في سبيل الدفاع عن أهل السنة بات أمرا إلزاميا عندما اتخذت الحرب هذا المنحى الطائفي، وخصوصا بعد تدخل إيران و(حزب الله) العدو اللدود للسنة»، وفق ما قال أبو سياف، أحد الشخصيات الجهادية المعروفة في الأردن، في مقابلة سابقة.
هذا العداء في ظل صعود نجم تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» من جهة، والميليشيات الشيعية مثل «حزب الله» و«عصائب أهل الحق» والجيش الشعبي (National Defense Forces) المدعومة من الحرس الثوري الإيراني من جهة أخرى، قد يدفع بالأردنيين الجهاديين إلى التورط أكثر في اللعبة الطائفية ولعب دور أكبر على مسارح مجاورة.
إلى ذلك، ساهمت القوة المالية لـ«داعش» التي صنفتها وزارة المالية الأميركية كأغنى جماعة متشددة في العالم في جذب عدد كبير من الأردنيين. «وعلى الرغم من أن الناحية المادية قد تكون عاملا لجذب الأردنيين من بين غيرهم، غير أنها لا تشكل الدافع الأساسي الذي يتمثل قبل كل شيء في اعتناق آيديولوجيا معينة»، على حد قول خبير الجماعات الإسلامية الأردني الدكتور حسن أبو هنية.
ينضوي السلفيون الجهاديون في الأردن ضمن السلفية بنطاقها الأوسع التي يقدر عدد أعضائها بشكل غير رسمي بـ20 ألف فرد، يضاف إليهم السلفيون التقليديون والإصلاحيون. وحتى عام 2011، كان السلفيون والجهاديون في الأردن يفضلون البقاء بعيدا عن الأنظار، غير أن الاحتجاجات التي شهدتها البلاد وقتها ومشاركتهم في المظاهرات سمحت لهم بالظهور على الساحة الأردنية.
ويشرح الدكتور أبو رمان قائلا: «إن معظم مراجع الحركة السلفية الجهادية في المملكة تؤيد جبهة النصرة، في حين يدعم جيل الشباب الصاعد على نحو متزايد تنظيم داعش». ومن بين الشيوخ الأردنيين الذين يدعمون جبهة النصرة نذكر الشيخ أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة، وكذلك إياد قليبي.
في بداية الحرب في سوريا، شجع الشيخ السلفي الجهادي الأردني أبو محمد الطحاوي الأردنيين على القتال ضد نظام الرئيس بشار أسد، معتبرا أنها «مسؤولية أي مسلم لوقف إراقة الدماء التي ارتكبها النظام النصيري (ضد السنة)»، في إشارة إلى النظام العلوي الحاكم في سوريا، وقد انضم مئات من الأردنيين إلى المعارك في سوريا. كما أورد الدكتور حسن أبو هنية، أن نحو 60 أردنيا شاركوا في عمليات انتحارية في سوريا.
وفي الوقت الذي يحتل الأردنيون مراكز مؤثرة في جبهة النصرة، يلعبون فقط أدوارا ثانوية في صفوف «داعش» الذي تهيمن عليه أكثرية عراقية، وفق الدكتور أبو رمان.
ومن بين الأعضاء النافذين في جبهة النصرة نذكر إياد طوباسي، ومصطفى عبد اللطيف، وسامي عريدي. فإياد طوباسي، المعروف بأبو جليبيب، هو أمير جبهة النصرة في دمشق والديرة، وهو صهر أبو مصعب الزرقاوي، الغني عن التعريف، ويعتقد أنه قاتل معه في العراق. أما عبد اللطيف، الملقب بأبو أنس الصحابة، فيتبوأ أيضا مركزا قياديا في الجبهة في حين يعتبر عريدي مفتي الجبهة. وفي المقلب الآخر، يعتقد أن كلا من عمر مهدي زيدان والدكتور سعد حنكي (المقرب سابقا من جبهة النصرة) يشغلان منصب المفتي في صفوف «داعش» في منطقة الرقة.
ويشرح أبو سياف أن من الأسباب التي قد تفسر انضمام الأردنيين إلى جبهة النصرة بشكل أكبر هي الفوارق الآيديولوجية، مشيرا بذلك إلى أفكار «داعش» المتطرفة بشأن حقوق الأقليات والعلاقة مع الفصائل الإسلامية الأخرى. أما السبب الآخر فقد يتمثل في الناحية الجغرافية، وبالتالي قرب الأردن من الديرة في سوريا التي تسيطر عليها جبهة النصرة. إلا أنه ومع إغلاق الحدود الأردنية في وجه الجهاديين، يعمد المزيد من المقاتلين إلى السفر عبر تركيا، ومنها إلى المناطق السورية التي يسيطر عليها تنظيم داعش، أي أنهم في نهاية المطاف سوف ينضمون إلى هذا التنظيم، وفق الدكتور أبو رمان.وتمثلت ردة فعل المملكة الهاشمية على تهديد الجماعات المتطرفة في بداية الأمر في حملة اعتقالات طالت جميع المناطق، وأسفر عنها توقيف نحو 150 إلى 170 شخصا. وفي الأسبوع الماضي، أصدرت محكمة أمن الدولة حكما بالسجن لمدة 3 سنوات على منصور حمدين، ووسيم أبو عياش، بتهم تتعلق بانضمامهما إلى تنظيم داعش، واستخدام الإنترنت للترويج لآيديولوجية راديكالية إرهابية.
وكان تنظيم داعش قد وجّه تهديدات للمملكة في مقاطع فيديو نشرت على موقع «يوتيوب» ظهر فيها أردنيون وتعهدوا باجتياح المملكة وقاموا بحرق جوازات سفرهم. وقد شهدت مدينة معان الجنوبية التي تبعد 180 كيلومترا جنوب عمان، تحركات عدة ضد السلطة المركزية، علما بأن هذه المدينة تعتبر مسقط رأس الكثير من الجهاديين السلفيين وكثير من أبنائها انضموا للقتال في سوريا، كما شبهت بـ«الفلوجة الأردنية» نظرا لتكاثر أعلام «داعش» فيها. فضلا عن ذلك وخلال الصيف، نظم الكثير من المسيرات السلفية الجهادية في معان والزرقاء وعدد من المدن الأخرى، حيث رفع المتظاهرون لافتات سوداء ورددوا شعارات مؤيدة لتنظيم داعش».
مع ذلك، اتبعت المملكة الهاشمية نهجا أكثر واقعية تجاه السلفيين الجهاديين وفتحت قناة تواصل مع المتشددين المعتدلين. فجاءت تبرئة أبو قتادة من تهم تتعلق بالإرهاب في الأردن لتصب في خانة استراتيجية مؤقتة وعملية تتبعها الحكومة لمحاربة التهديد الأهم الذي يمثله «داعش».
وقد سلط حكم التبرئة هذا الضوء على مؤشرات عدة تقود إلى أن الأردن يعتمد استراتيجية «فرق تسد»، محاولة بذلك كسب أشخاص مستعدين لإدانة «داعش» على غرار أبو قتادة. ففي نهاية محاكمته الثانية منذ شهرين، انتقد أبو قتادة الذي يعتبر من أبرز مؤيدي جبهة النصرة علنا عمليات قطع الرأس التي ينفذها «داعش» بحق الصحافيين، واصفا إياها بأنها غير إسلامية. وأشار أبو قتادة الذي يعتنق الآيديولوجية الجهادية في نص نشر على حسابه على موقع «تويتر» أن هذه المجموعة لا تملك «دولة في العراق» ولا سلطة لها على عامة المسلمين.
وكان قد سبق تبرئة أبو قتادة في شهر يونيو (حزيران) الماضي الإفراج عن زعيم السلفية عاصم البرقاوي، المعروف أيضا باسم أبو محمد المقدسي، بعد أن أمضى 5 سنوات في السجن بتهمة تجنيد جهاديين للحرب في أفغانستان. عمدت السلطات الأردنية إلى التواصل مع المعتدلين منذ ظهور السلفية الجهادية، كما عمدت إلى استغلال الانقسامات بين جبهة النصرة و«داعش»، بحسب أبو هنية. غير أن هذا الأمر تغير إلى حد ما منذ بدء ضربات التحالف الدولي. فعمان التي تعد الحليف الأقوى للولايات المتحدة، انضمت للتحالف الدولي في مكافحة «داعش» في سوريا وأمنت قاعدة لانطلاق الطائرات الغربية ووفرت الخدمات الاستخبارية. عقب ذلك شهدت البلاد موجة ثانية من عمليات الاعتقال طالت السلفيين الجهاديين الذين نددوا بهجمات التحالف مثل الشيخ المقدسي واستنكروا الضربات ضد «جبهة النصرة» في سياق التي استهدفت و«داعش»، وفق أبو هنية.
إن الخطر الذي يحدق بالمملكة الأردنية الهاشمية يكمن في عدة عوامل. فتنظيم داعش خلافا لتنظيم القاعدة ركز على العدو القريب (أي الحكام الإقليميين) بدلا من العدو البعيد (الغرب). هذا التحول في أولويات المنظمات الجهادية تبلور في الحرب السورية، ومن الممكن جدا أن يطال الأردن الذي يعد جزءا من بلاد الشام، أي يعد جزءا من منطقة «خلافة البغدادي الإسلامية» المفترضة والمزعومة. «لقد نجح تنظيم داعش في بناء (ديار التمكين)»، بحسب أبو هنية. وهي الخطوة الأولى في حربه المقدسة التي تهف إلى توسيع نطاق «داعش» إلى ما بعد الحدود الوطنية على أساس الشريعة. ونقطة الانطلاق في هذه الخطة تمثل في السيطرة على سوريا والعراق، ومن ثم الانتقال إلى الأردن لإعادة توحيد «بلاد الشام».
وعلى غرار الزرقاوي الذي دفعته خبرته في العراق إلى تفجير 3 فنادق في عمان عام 2005، ستترك الحرب في سوريا والعراق تأثيرا مهما على الجهاديين السلفيين في الأردن. فالنجاحات التي يحصدها «داعش» أو «جبهة النصرة» ستشجع الجيل الجديد على تبني مواقف أكثر عدوانية في وطنهم. يتمثل عامل الخطر الثاني في تدفق اللاجئين السوريين الذين وفقا لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين يصل عددهم إلى نحو 600 ألف شخص. «فبيئة اللاجئين تسهل لتجنيدهم إن كان في العمل الإجرامي أو الجهادي»، وفق أبو هنية. وكلما طالت الأزمة وانسد الأفق أمامهم، زادت إمكانية تعاونهم مع السلفيين الجهاديين.
وبما أن «أذرع تنظيم القاعدة» خبيرة باستغلال الاضطرابات التي تشهدها البلدان، لن تكون الأردن استثناء عن ذلك. غير أن بعض الخبراء مثل شين يون، ووائل الخطيب من مركز الأطلسي يعتبرون في تقرير صدر أخيرا أن «التوجه السلفي في الأردن ليس له قدرة كبيرة على إحداث الثورات.. فالجهاديون السلفيون الناشطون فعلا على الأرض والذين يرغبون بأسلمة المجتمع من خلال العنف لا يمثلون سوى أقلية محدودة، وهم تحت مراقبة دقيقة من القوى الأمنية». يذكر أن عدد المقاتلين الأردنيين الذين يشاركون حاليا في الحرب في سوريا، يصل إلى ألفي مقاتل انضوى نصفهم تقريبا في صفوف «داعش».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.