الخَيَال الأدبي... والسياسة

البشرية بحاجة إلى بورخيس جديد بعد العجز السياسي والثقافي

ماري شيللي.........   بورخيس...........  دوريس ليسينغ.............  جورج أورويل
ماري شيللي......... بورخيس........... دوريس ليسينغ............. جورج أورويل
TT

الخَيَال الأدبي... والسياسة

ماري شيللي.........   بورخيس...........  دوريس ليسينغ.............  جورج أورويل
ماري شيللي......... بورخيس........... دوريس ليسينغ............. جورج أورويل

يرى كثيرون في الروايات الأدبية فضاء مستعاراً للهروب من واقع الحياة البائس نحو عالم مُخترَعٍ آخر - قاسياً كان أو عذباً - نبعث إليه بأرواحنا ولو لبضع ساعات أو قليل أيام لتهدأ من وعثاء العيش وتعب الوجود، فيما يراها آخرون نوافذ نطل منها على ذلك الواقع، نؤطره، ونتراجع خطوات للنظر إليه كما لحظة مسروقة من الزمن رسمت في لوحة نحاول منها قراءة المعنى الأعمق وراء اليومي والقريب والمألوف. لكن الحقيقة أن الخيال الأدبي في صيغته الروائية وإن خدم تلك الأغراض الفردية، فقيمته جماعياً تفوق ذلك ليصير بوابات وجسوراً تستشرف المآلات والمنتهيات: أين نذهب من هنا بعدما خبرنا واقعنا المُنهك؟ وما الذي سيأتي بعد؟ ومذ نضجت الرواية، وأخذت هيئتها الحالية مع عصر صعود البرجوازية أصبحت واحدة من أهم الصيغ - إن لم تكن أهمها على الإطلاق - لقراءة تمثلات هذا القلق البشري المُحكم والدائم للبحث في التالي عبر تمرحلات التاريخ المتلاحقة.
رواية الإنجليزية ماري شيللي الأشهر «الدكتور فرانكشتاين - 1818» عن ذلك العالِم المجنون الذي يلفق من قطع البشر مخلوقاً في مختبره ما يلبث أن يكتسب وجوداً مستقلاً بذاته ليقضي الدكتور بقية القصة يطارد صنيعته أو يفر منها - بل وكما نَحَت الثقافة الشعبية يخسر كل شيء في ذلك الصراع الذي لا يمكن كسبه، حتى اسمه ذاته الذي صار علماً على الوحش في لفتة عبقرية للمُخيال الشعبي - بدت خلال هذا السياق كأنها رواية الرأسمالية برمتها: ذلك النظام الذي كان في شبابه أيام شيللي، أطلقه البشر كما وحش ملفق يطاردونه ويطاردهم، فيسقطون ويبقى هو، تماماً كما في نهاية الرواية اللانهاية المفتقدة للسعادة: الدكتور فرانكشتاين ميتاً مهزوماً، والوحش الذي صنعه يبحر حياً، مبحلقاً بعيونه المملوءة خواءً، على سطح قطعة من جليد.
الفيلسوف الأميركي جون هولوي يجادل بأن «الدكتور فرانكشتاين» رؤية وإن كانت ثاقبة بشأن دور البشر في خلق هذا النموذج المسخ الذي يفسد حياتهم فإنها تقصر عن رسم يوم تالٍ، إذ لا حل ممكناً سوى قتل الوحش وإنهاء التجربة، وذلك ليس بالأمر السهل أو القريب - كما تقول الرواية نفسها، بل إن مصير الأفراد محتم الفناء، فيما الوحش قابض على مكانه في الوجود كما الخالدين.
مع ذلك، فإن رواية هائلة مثل «الدكتور فرانكشتاين» تبقى باباً أطل منه ناس بدايات القرن التاسع عشر على الـ«ما بعد» من عالم الرأسمالية، وفق خبرتهم لحينها، وقبل أن يكتب كارل ماركس نقده الشهير لها في «رأس المال» الذي صدر كتاباً - بالألمانية - عام 1867، أي بعد رواية شيللي بخمسين عاماً كاملة - كان ماركس طفلاً يحبو في سنته الأولى وقت نُشرت «الدكتور فرانكشتاين» في بريطانيا لأول مرة.
هولوي يقترح حكاية رمزية أخرى يراها أقرب لتكون باباً للكشف عن يوم تالٍ للرأسمالية المتأخرة في صيغتها الليبرالية، وتلك كتبها الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986) قصة قصيرة عام 1964 عنونها «الآثار الدائرية»، وفيها يرى أحدُهم إنساناً بالمنام - لا في المختبر كما عند شيللي. هذه الشخصية وفق الحلم تمتلك مقومات الوجود بتفاصيله، لكنها تستمر حصراً ما دام الحلم طازجاً وحياً. وتبلغ القصة ذروتها عندما يحملق الحالم مجدداً في الشخصية التي يراها حين غفلته فكأنها هو، ليتوقف كل شيء، ليس باستيقاظه من نومه بل لحظة إدراكه أنه ذاته مجرد حلم يراه شخص آخر غارق بالنوم، وقد يستفيق بدوره أي لحظة. عند بورخيس نحن نبتدع عالمنا في سياق دائرة متكررة من إنتاج الوهم، فيضيف كل منا إليه تفاصيل ومنمنمات تمنحه واقعية متزايدة، لا في لحظة تخلٍ استثنائية لعقل عالِم مجنون كالذي رسمته شيللي.
نقطة هولوي باعتماده آثار بورخيس الدائرية - بدلاً من الخلق الملفق - كبوابة للبحث الجمعي في شكل بديل لعالمنا القاسي، أن هذا الخيال الشاهق يفتح الأفق لرصد الرأسمالية على حقيقتها: وهم نشترك جميعاً في إعادة إنتاجه من خلال تفاصيل ممارسات حياتنا اليومية، يتلاشى هباءات كما يتطاير الحلم عندما نقرر - أو يتسنى لنا - الاستيقاظ منه. بالطبع، النظام الرأسمالي ليس وهماً بحرفية الصورة الأدبية البورخيسية، لكننا كمجموعة بشرية قبلنا دون إعمال مبضع النقد مبدأ الديمومة: أي الاعتقاد بأن وجود شيء في واقعنا خلال لحظة ما يتضمن بالضرورة استمرار وجوده في اللحظة اللاحقة، والتي تليها، وهكذا.
ويبدو النقاش السياسي - الثقافي في الغرب، لا سيما بعد الأزمات المتعاقبة للنظام الكلي مالية وأخلاقية ووبائية، بحاجة ماسة اليوم إلى بورخيس جديد ليقود خيالنا بعدما عجزت السياسة والثقافة معاً عن طي صفحة الحاضر الذي يتأكد كل يوم أنه لم يعد ممكناً احتماله بصورته الحالية. وعن ذلك يكتب جيمس دوستيربيغ في مقالة له عن النظام الليبرالي الذي «لم يعد حتى عدواً نحتاج إلى نقده أو مواجهته، بل مجرد جثة بليت أو كادت، وكل الذي يمكن إكرامها به هو الدفن العاجل».
روائياً، فإن تاريخ هذا النوع من الخيال الأدبي حافل - منذ تشارلز ديكنز إلى دوريس ليسينغ، مروراً بفرانز كافكا، وألبير كامو وجورج أورويل ورالف إليسون - بالنصوص التي كأنها منتزعة من قلب تجارب الفشل السياسي - الثقافي ومشغولة بقطع الحطام: مثاليات تصطدم بالواقع، مشاريع كبرى كنا نراها عصية على الاندثار تفقد فجأة كل قدرة على الاستمرار، خيبات أمل، وتفكك وتهتك نسيج العلاقات بين البشر. لكن ولربما في انتظار بورخيس جديد معاصرنا ليكتب لنا الرواية - البوابة على الـ«ما - بعد» النيوليبرالية، فإن القبض على الظاهرة من خلال نصوص ذم المنظومة لا يعني بالضرورة منحنا القدرة على استشراف طرائق تغييرها، والكشف عن الممكن بعدها. لم يقدم لنا كامو غير الكآبة في «الغريب»، وقتلنا العجز في «الرجل الخفي» لإليسون، وقضى أورويل في «1984» على أي أمل لنا بنهاية - ولو آجلة - لهذا الكابوس المقيم.
على أن المهمة المُنتظرة اليوم من الخيال الأدبي - كدليل للعقل السياسي الثقافي - لا تحتمل مزيد تأخير، فعالمنا يتفسخ، والبحث عن الـ«ما - بعد» حاضرنا في رواية قادمة قد يبدو انتظاراً سوريالي النزعة أشبه بـ«انتظار غودو» الذي لا يأتي - مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة، لا سيما أن الرواية كنوع أدبي فقدت تدريجياً هيمنتها على فضاء صنع الخيال الجمعي المعولم للبشر بعد المنافسة الحادة من الأشكال الفنية الجديدة: السينما، والمسلسلات التلفزيونية في حقبة ما بعد التلفزيون التقليدي. بل ربما يكون عقم خيالنا الأدبي في هذه المرحلة على مستوى ما رواية عصرنا المنتظرة: لقد فشل مشروع نصف الغرب الحضاري الما بعد حداثاوي فشلاً ذريعاً، وقَتْلُ الوحش - الفرانكشتاين صار مستحيلاً. وعالمنا برمته صار رهن تهديد الفناء بكارثة بيئية أو نووية أو وبائية، ولم يتبقَّ أمامنا بالفعل سوى تقبل حكم العقل.



مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).