الشعر على طاولة الطفولة

البهاء حسين يستدعيها في ديوانه «يمشي كأنه يتذكر»

الشعر على طاولة الطفولة
TT

الشعر على طاولة الطفولة

الشعر على طاولة الطفولة

يضع الشاعر البهاء حسين الشعر على طاولة الطفولة في ديوانه «يمشي كأنه يتذكر» الصادر حديثا عن الهيئة المصرية للكتاب، مستعيدا صورة العائلة والجدة والبئر الأولى وذكريات الصبا ومفارقات عالم القربة، والملامسات البكر الغضة للعناصر والأشياء، ويسعى في إطار علاقة حميمة بين المشي والتذكر، إلى استدراج تلك الطفولة إلى حد التعرية والانتهاك لكل تفاصيلها ومسراتها وآلامها وأسرارها.
وعبر أحد عشر نصا يضمها الديوان تومض حالة من الجدل الشفيف بين «المشي»، كفعل واضح ومحدد، وبين التذكر، كفعل غائم، متأرجح في قبضة التشبيه بين الشك واليقين، يراوح طفولة قروية قاحلة، فقيرة في نسيجها الاجتماعي والإنساني، قابعة في سقف الذكريات والأحلام، لا تشد العين أبعد من حواف المشهد والصورة، تتراءى في بعض النصوص كلعنة تطاردها الذات بقسوة أحيانا، وتتباهى بأنها عاشتها بشغف وحب رغم العتمة وضجر العيش، وأحيانا أخرى تحولها إلى مرثية حارقة لماض امتزجت فيه براءة اللعب بالعنف واللامبالاة والإحساس بالفقد والحرمان.
تبلغ القسوة مداها في صورة الجدة، قرينة البئر، وخازنة أسرار العائلة، حيث تبدو كأنها مجرد سلة للبكاء وتسول الصدقات، مجرد علامة على جرح يجب انتهاكه، والتبرؤ منه:
«أقول: يا جدتي
لا تبكي فوق البئر
كي لا تَمسك
فيرن صوتي
في القاع
ويرتد لي، متشنجا أكثر
لم يكن لخبز الصدقات طعمُ
لكن رائحته كانت تسوقها من بيت إلى بيت
وأنا كان علي أن أخرجها
كل يوم
من حفرة».
تتصدر صورة الجدة الديوان، في نص طويل بعنوان «جدة»، تعمد الشاعر أن يأتي هكذا في شكل «نكرة» مبهمة وغائمة، مجردة من وقار التعريف والشعور بالولاء والعرفان، ما يعني أننا أمام «جدة/ أي جدة» معلقة في إطار بارد لا معنى له، سوى الاحتفاظ بالصورة كفراغ رخو، لتنشيط حاسة التذكر، واصطياد مفارقات هشة، يجسدها النص بهشاشة أكثر سذاجة، بل يقع في تناقض حاد بين التنكير في العنوان وما يدور داخل النص، حيث تبدو صورة الجدة إفرازا لحياة، احتمت بضعفها وصانتها، حتى وهي تتسول رائحة الخبز من غبار الصدقات، وهي تصون بعماها البئر، تؤنسها بدموعها، ليظل شيء يرن في الأعماق:
«من بعيد
مغمضا عيني
أخمن قامتها النحيلة
الصرة فوق رأسها
وأنكمش في نفسي
وسط أصحابي
وكلما اقتربتْ
توسلتُ للطريق أن ينشق
أو تهب ريح
،،
لم تكن تفعل شيئا غير الشحاذة والبكاء
لطالما نهرتها أمي
أنا وإخوتي
وأحيانا كنت أضربها بالعصا
فتتقلص في قامتها
مثل دودة
كأنها تستغيث بالجيران».
تمتد حبال الذاكرة في الديوان، وتشكل آلية الاستنهاض حافزا لاستعادة أشياء مضت، وأخرى قد تأتي، تستنهض الموت والحب والحلم والجمال الهارب، وتقلص المسافة بين الذات وموضوعها، إلى حد الالتصاق أحيانا. كما تفجر حوارا بينهما، كأنهما طرفان في معادلة وجود معطل ومهمش، تحت ظلال الماضي والحاضر معا؛ وهو ما يبرز على نحو لافت، في قصيدتي «رجل يكلم شرفته بحرقة» و«أسند ذاكرتي بعكازك». في الأولى يختلط هاجس الموت المباغت بفضاء حب مفقود، وتكشف العلاقة عن فجوة في الروح والجسد والزمن، تتحول إلى ذكرى حارقة، لا تملك الذات حيالها سوى استعادتها في شكل لقطات متقطعة، تحاول من خلالها أن تكمل فراغ الصورة والبحث عن إطار لها داخل النص، صورة الماضي الذي تحول إلى ذكرى، ولا يزال يناوش الحلم والقلب والشعر... وهو ما يطالعنا على هذا النحو في القصيدة:
«أسألُ عن سنواتكِ الخمسين،
لماذا تركتها عهدة في ذمتي
هي وألبومك الأبيض
لعلكِ تريدينَ منى أن أجوبَ ملامحكِ الحزينة
أن أعدل هيئتكِ في اللقطاتِ التي لا تعجبك
أن أحرسَك من الكرمشة التي بدأتْ تتسربُ إلى صورك
ربما تريدينَ مني تحديثَ ابتسامتكِ التي أجبرتك عليها الفلاشات
في حفل الزفاف
ربما أردتني أن أبعدَ أطفالكِ عن حافة البراويز
مخافة أن يسقطوا منها.
أو أن أصب اللبنَ لـقطتك الصغيرة «مريم»
في الوعاء الفارغ بالصورة
وربما تريدين أن تنامي على جنبك الآخر
من يعلمُ، يا أخت روحي
فيمَ يفكر الموتى؟».
في القصيدة الثانية، يختلط هاجس الشعر بالمرض، وتطل أسئلة المصير، بحثا عن حكمة ضالة، في فراغ الأيام والذكريات، تستند عليها الحبيبة لمواجهة محنتها الخاصة، كما تتحصن بها الذات الشاعرة لمواجهة مخاوف الأعداء والأصدقاء، الذين أصبحوا وجهين لعملة واحدة، تتسع وتتعقد في شره الأضداد المقيتة، ولا تملك الذات سوى صرخة فاترة، مشوبة بمسحة من السخرية واللامبالاة والبحث عن أسباب عبثية لتبرير التواطؤ والإذعان للأمر الواقع:
«لا بد من عاهة
أو عداوة
كي لا تُسرف في الكسل
الأعداء ضروريون كالملح
ضرورة أن تفتح النوافذ
بلا تذمر من التراب
بلا رغبة حتى في أن تكنس البيت».
بيد أن المشهد يصعد دراميا، في نهاية النص، بقوة اليأس والأمل معا، اليأس من خراب العالم، والأمل في ألا تفقد الحياة ألفتها وقدرتها على إشاعة المحبة ببساطة وتلقائية عبر أشياء صغيرة، وإشارات عادية وخاطفة، تمنح وعاء الرغبة شهوة السؤال وتوق الحرية، وتحول الحب إلى عكاز للحلم والذاكرة... هكذا يبلغ النص لطشته الختامية:
«تصبحين على خير
سأغلق الباب
عائدا إلى البيت
أحصي التنهدات
سأحكي لنفسي عن المستقبل
كأنه أرضُ ميعادٍ
عن جسدي
كأنه رغيف خبز
عن الأشخاص الذين يتعاركون بداخلي
كأنهم أصدقاءٌ مختلفون في الرأي
عنكِ
كأنك عكاز يسندني كلما أردتُ أن أتذكر».
تبرز شعرية الانتهاك في التراسل مع بعض ألاعيب ومشاهد الطفولة، مشكلة خطوطها ومداراتها، في لغة شعرية بسيطة مسكونة بالوضوح إلى حد المباشرة، تكره أن تتخفى الأشياء في عريها، أو يشوبها مسحة من الغموض، تحرض على النفاذ إلى ما هو أبعد من المرئي المبتذل المألوف، يطالعنا هذا في نص بعنوان «محنة كل يد»... فاليد هي شاهد قبر وعلامة على العجز، وهي صياد الملامسات الحسية العابرة، وهي قرينة الضعف والخوف، عجزت عن الدفاع عن صورة الأم، وصارت غريبة لا تسد عورة الجسد: «أنا لست بريئاً من يدي، رغم أنها لم تدافع عن أمي حين ضربها ابن عمي، ومرمط بها الأرض»، وهي اليد نفسها التي تصطنع العجز والمرض والعاهات، لتمتهن التسول والشحاذة، ويصبح العكاز رمزا للتحايل على حياة عطبت، لم يعد أمامها سوى أن تتلصص على الموت، وتتطفل عليه، كأنه لعبة في يد الزمن، بل تنتهك حرمته في صورة الأخت التي باغتها فجأة:
«يا أختي
يا أم طفولتي
لماذا تركتِ يدكِ
مقطوعة إلى جوارك
في الشارع:
هل كنتِ مضطرة
أم أن يدكِ أرادت أن تتطفل على الموت
أن تغير هيئتها».
لكن هذه اليد، رغم تنوع رمزيتها ليست صانعة الحضارة والفن، هي ابنة الحظ والعشوائية والارتجال، واعتباطية المعنى والدلالة: «لم يخبرني الفلكيون أن دمكِ سوف يتقاطر من بيتٍ إلى بيت، ولم أخبرهم أني دفنتُ يدكِ واقفة، كأنها شاهد قبر»، كأن الوقوف هنا ليس ابن إرادة التشبث بالحياة، بل ابن الموت؟!
لم ينعكس هذا الانتهاك في صناعة القسوة على الطفولة فحسب، بل انعكس على ماهية الكتابة نفسها، فبدت في بعض النصوص بمثابة اجتراء وصدى لنوازع انتقام خفية، ما جعل الصورة الشعرية تجنح كثيرا إلا التعليل والتفسير، وكأننا إزاء علاقة مسببة لا بد أن تفضي إلى نتيجة ما، من مثل: «أريدك أن تقفي على قدمين متساويتين، كي لا تكون ابتسامتك الحلوة مائلة»، كان من الممكن أن تصبح الصور أكثر جمالا لو تخلت عن مباشرة التعليل ناهيك عن أن التعليل يحد من طاقة الإيحاء ويصادر على المعني في أحادية جامدة، وأيضا من مثل: «كونك يتيما إلى هذه الدرجة، لا يعطيك الحق في أن تجعل من طفولتك مناحة»، وغيرها.
الشعر لا يبرر الأشياء ولا يعللها، إنما يضعها في بؤرة السؤال والدهشة، لتظل مفتوحة بحيوية على براح الحواس والخيال بلا اشتراطات مسبقة.
في الختام، ورغم هذه الهنات الطفيفة، هذا ديوان لافت، به رائحة خاصة، تعامل مع موضوعه بجرأة، بعيدا عن رتابة الأعراف والتقاليد.



اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
TT

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ نجمتين عالميتين تقديراً لمسيرتيهما، هما الأميركية فيولا ديفيس، والهندية بريانكا شوبرا.

واختتم المهرجان عروضه بفيلم «مودي... 3 أيام على حافة الجنون» الذي أخرجه النجم الأميركي جوني ديب، ويروي حكاية الرسام والنحات الإيطالي أميديو موديلياني، خلال خوضه 72 ساعة من الصراع في الحرب العالمية الأولى.

واختير فيلم «الذراري الحمر» للمخرج التونسي لطفي عاشور لجائزة «اليُسر الذهبية» كأفضل فيلم روائي، أما «اليُسر الفضية» لأفضل فيلم طويل، فنالها فيلم «إلى عالم مجهول» للفلسطيني مهدي فليفل، بالإضافة إلى جائزة خاصة من لجنة التحكيم نالها فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» لخالد منصور.