كتابة هادئة تحتفل بالمعنى

«أحلام غير منتهية الصلاحية» لعبد العزيز كوكاس

كتابة هادئة تحتفل بالمعنى
TT

كتابة هادئة تحتفل بالمعنى

كتابة هادئة تحتفل بالمعنى

صدر للكاتب والإعلامي المغربي عبد العزيز كوكاس كتاب تحت عنوان «أحلام غير منتهية الصلاحية... في وصف حالنا»، متضمناً سلسلة مقالات في التحليل السياسي - الصحافي للتعبير عن الرأي، معظمها كان عبارة عن افتتاحيات في عدد من الأسبوعيات التي تحمل فيها الكاتب رئاسة التحرير أو إدارة الجريدة.
وكتب كوكاس في تقديم الجزء الأول من كتابه الجديد الصادر ضمن «منشورات النورس» والذي أهداه إلى قرائه الذين قال إنه تقاسم معهم «الحلم وأشباهه»: «لقد قدر لي الانتساب إلى صحف النقمة بدل النعمة، لذلك حملت هذه الكتابات بصمة هذا الاتجاه الذي لم يكن أبداً اختياراً بل التزاماً صحافياً وأخلاقياً يعانق أحلام جيل متوثب، متحفز، تراوده أحلام الحرية والعدالة والديمقراطية والتقدم عن نفسه».
وتحدث كوكاس عن «خيط ناظم للمواقف المعبر عنها وللقضايا التي ظلت تشغل بال الرأي العام»، مع تشديده على أن «نشر هذه المقالات اليوم، ليس وراءه أي ملمح بطولي أو سعي لتمجيد الذات الكاتبة أو استقطاب المديح».
وكتب السياسي والباحث محمد الساسي في شهادته حول الكِتاب والكاتب، إلى جانب شهادات أخرى للكاتب والإعلامي الراحل عبد الجبار السحيمي والكاتب عبد القادر الشاوي والناقدة زهرة العسلي، أن كوكاس «مبدع قبل أن يكون صحافياً»، مشيراً إلى أنه «ظل يمارس الكتابة الصحافية بنفس إبداعي»، وأنه «قلم جيد، وصحافي ذكي، ومرح، وسديد، ولمّاح، ومنصت ومتتبع جيد لما يحدث، وملم بكل تفاصيل الحياة السياسية، حاضر باستمرار بكتاباته، وتحليلاته الصحافية العميقة ظلت سنداً للسياسيين في فهم مجريات الحياة السياسية»، وبالتالي فعندما تقرأ كتاباته «تحس أنها تجمع ما بين الإشراق الإبداعي والمتابعة الدقيقة للأخبار وتحليل الوقائع».
فيما كتب الشاوي أن كوكاس «لا يسابق الأحداث بل يتعقبها بالتحليل، وإذا استشهد بالأقوال الدالة فهو لا يفعل ذلك إلا ليؤكد رأياً استنتجه من خلال البحث... ثم يتجلى في كتابة هادئة تحتفل بالمعنى أكثر من احتفالها بالعرض، وبالسياق في محتواه أقوى من اهتمامها بالمواقف في ظرفيتها».
من جهتها، كتبت زهرة العسلي أن كوكاس «مشاكس دوماً»، وأن «كتاباته الصحافية تقيم على حافة فخاخ الخطر، إذ ظل ينتصر لقيم الحرية والديمقراطية»، فيما «زاوج في كتاباته الصحافية بين المتعة والفائدة في آن».
وفضلاً عن شهادات السحيمي والساسي والشاوي والعسلي، وتقديم الكاتب لكتابه الجديد، نكون في «أحلام غير منتهية الصلاحية» مع 50 مقالاً، تحت عناوين كثيرة.
وصدّر كوكاس لمقالاته بأمثال شعبية وأقوال لسياسيين وأدباء ومفكرين، ومن ذلك تصديره لمقال «لهذا احتفى المغاربة باليوسفي: خصب الواحة بدل قحط الصحراء» بقول لوليم شكسبير، جاء فيه: «يموت الجبناء قبل موتهم الأخير، أما الرجال الشجعان فيبقون أحياء حتى بعد موتهم». فيما صدر لـ«صباح الخير أيها الفساد»، بقول لمحمود درويش، نقرأ فيه: «سنصير شعباً إن أردنا، حين يعلم أننا لسنا ملائكة، وأن الشر ليس من اختصاص الآخرين، سنصير شعباً حين نحترم الصواب، وحين نحترم الغلط!».
ويقول كوكاس إن النصوص التي تضمنها كتابه الجديد، التي يمتد تاريخ كتابتها بين 1996 و2020. والتي ستصدر في أجزاء متتالية، لم يراع في انتقائها تسلسلها الزمني ولا موضوعاتها، وإنما انتقى منها ما لا يزال مليئاً بنبض الحياة وما لا يزال ساري المفعول، حتى لتبدو «كأنها كتبت اللحظة». ومن ذلك، يربط في «قطط من ورق»، بين التحليل والحلم غير منتهي الصلاحية: «نفتقد في هذه اللحظة المصيرية برجالات دولة نبهاء... نفتقد الحس الاستراتيجي لعبد الرحيم بوعبيد، والحس الصوفي لعلال الفاسي، والاندفاع النبيل للمهدي بنبركة، والحس الوطني لبوستة واليوسفي... مع هؤلاء كنا نشعر بأن السياسة هي هوية جماعية لذات الأمة، إذ كان هؤلاء، وأمثالهم كثيرون في الزمن الغابر، يستحضرون مستقبل المغرب ومصالحه بشكل أقوى مما يفكرون بأنانية في جماعاتهم السياسية، كانوا زعماء أحزاب ويتصرفون كرجالات دولة، مستقلين في أفكارهم، مالكين لرؤيا استشرافية عميقة، عارفين بخميرة البلد وخروب أهله».



الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك
TT

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

قليلاً ما يتحول حفل تكريم مبدع كبير إلى احتفاءٍ بكل الحلقة الخلاّقة التي تحيط به. هذا يتطلب رقياً من المكرّم والمنظمين، يعكس حالةً من التسامي باتت نادرة، إن لم تكن مفقودة.

فمن جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري وحضوره، الأحد الماضي، هذا التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة والفنانين والإعلاميين، حول شاعرهم الذي رفد الأغنية اللبنانية بأجمل القصائد، وأغنى الشعر بصوره المدهشة وتعابيره المتفجرة.

طلال حيدر قبل التكريم مع الفنان عبد الحليم كركلا ووزير الإعلام زياد المكاري

طربيه ودور البطل

قدم الحفل الممثل القدير رفعت طربيه الذي هو نفسه قيمة فنية، معتبراً أن حيدر «كان دائماً البطل الأول على (مسرح كركلا). فهو ابن الأرض، وابن بعلبك، لكنه في الوقت عينه واكب الشعر العالمي ودخل الحداثة فكراً وصورةً وإيقاعاً، راكباً صهيل الخيل». فليس شائعاً أن يترجم شاعر بالعامية إلى لغات أجنبية كما هي دواوين المكرّم وقصائده.

عبد الحليم كركلا مع الشاعر نزار فرنسيس (خاص - الشرق الأوسط)

ومن أرشيف المايسترو عبد الحليم كركلا، شاهد الحضور فيلماً قصيراً بديعاً، عن طلال حيدر، رفيق طفولته ودربه طوال 75 عاماً. قال كركلا: «لقاؤنا في طفولتنا كان خُرافياً كَأَسَاطِيرِ الزَمَان، غامضاً ساحراً خارجاً عن المألوف، حَصَدنَا مَواسم التراث معاً، لنَتَكَامل مع بعضنا البعض في كل عمل نبدعه».

فيلم للتاريخ

«طلال حيدر عطية من عطايا الله» عنوان موفق لشريط، يظهر كم أن جيل الستينات الذي صنع زهو لبنان ومجده، كان متآلفاً متعاوناً.

نرى طلال حيدر إلى جانبه كركلا، يقرآن قصيدة للأول، ويرسمان ترجمتها حركةً على المسرح. مارسيل خليفة يدندن نغمة لقصيدة كتبها طلال وهو إلى جانبه، وهما يحضّران لإحدى المسرحيات.

لقطات أثيرة لهذه الورشات الإبداعية، التي تسبق مسرحيات كركلا. نمرّ على مجموعة العمل وقد انضم إليها سعيد عقل، ينشد إحدى قصائده التي ستتحول إلى أغنية، والعبقري زكي ناصيف يجلس معه أيضاً.

عن سعيد عقل يقول حيدر: «كنا في أول الطريق، إن كان كركلا أو أنا، وكان سعيد عقل يرينا القوى الكامنة فينا... كان يحلم ويوسّع حلمه، وهو علّمنا كيف نوسّع الحلم».

في أحد المشاهد طلال حيدر وصباح في قلعة بعلبك، يخبرها بظروف كتابته لأغنيتها الشهيرة «روحي يا صيفية»، بعد أن دندن فيلمون وهبي لحناً أمامه، ودعاه لأن يضع له كلمات، فكانت «روحي يا صيفية، وتعي يا صيفية، يا حبيبي خدني مشوار بشي سفرة بحرية. أنا بعرف مش رح بتروح بس ضحاك عليي».

في نهاية الحوار تقول له صباح: «الله ما هذه الكلمات العظيمة!»، فيجيبها بكل حب: «الله، ما هذا الصوت!» حقاً ما هذا اللطف والتشجيع المتبادل، بين المبدعين!

كبار يساندون بعضهم

في لقطة أخرى، وديع الصافي يغني قصيدة حيدر التي سمعناها من مارسيل خليفة: «لبسوا الكفافي ومشوا ما عرفت مينن هن»، ويصرخ طرباً: «آه يا طلال!» وجوه صنعت واجهة الثقافة اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، تتآلف وتتعاضد، تشتغل وتنحت، الكلمة بالموسيقى مع الرقصة والصورة. شريط للتاريخ، صيغ من كنوز أرشيف عبد الحليم كركلا.

المقطع الأخير جوهرة الفيلم، طلال حيدر يرتجل رقصة، ويترجم بجسده، ما كتبه في قصيدته ومعه راقصو فرقة كركلا، ونرى عبد الحليم كركلا، أشهر مصمم رقص عربي، يرقص أمامنا، هذه المرة، وهو ما لم نره من قبل.

عبد الحليم كركلا يلقي كلمته (خاص - الشرق الأوسط)

روح الألفة الفنية هي التي تصنع الإبداع. يقول حيدر عن تعاونه مع كركلا: «أقرأه جيداً، قرأنا معاً أول ضوء نحن وصغار. قبل أن أصل إلى الهدف، يعرف إلى أين سأصل، فيسبقني. هو يرسم الحركة التصويرية للغة الأجساد وأكون أنا أنسج اللغة التي ترسم طريق هذه الأجساد وما ستذهب إليه. كأن واحدنا يشتغل مع حاله».

طلال حيدر نجم التكريم، هو بالفعل بطل على مسرح كركلا، سواء في صوغ الأغنيات أو بعض الحوارات، تنشد قصائده هدى حداد، وجوزف عازار، وليس أشهر من قصيدته «وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان» التي غنتها فيروز بصوتها الملائكي.

أعلن رئيساً لجمهورية الخيال

طالب الشاعر شوقي بزيع، في كلمته، بأن ينصّب حيدر «رئيساً لجمهورية الخيال الشعري في دولة لبنان الكبير» بصرف النظر عمن سيتربع على عرش السياسة. ورغم أن لبنان كبير في «الإبداعوغرافيا»، كما قال الشاعر هنري زغيب، فإن طلال حيدر «يبقى الكلام عنه ضئيلاً أمام شعره. فهو لم يكن يقول الشعر لأنه هو الشعر».

وقال عنه كركلا: «إنه عمر الخيام في زمانه»، و«أسطورة بعلبك التي سكبت في عينيه نوراً منها، وجعلت من هيبة معابدها حصناً دفيناً لشعره». وعدَّه بطلاً من أبطال الحضارة الناطقين بالجمال والإبداع. سيعيش دوماً في ذاكرة الأجيال، شعلةً مُضيئةً في تاريخ لبنان.

الفنان مارسيل خليفة الذي تلا كلمته رفعت طربيه لتعذّر حضوره بداعي السفر، قال إن «شعره مأخوذ من المتسكعين والباعة المتجولين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة». ووصفه بأنه «بطل وصعلوك في آن، حرّ حتى الانتحار والجنون، جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ، هجّاء، مدّاح، جاء إلى الحياة فتدبّر أمره».

وزير الإعلام المكاري في كلمته توجه إلى الشاعر: «أقول: طلال حيدر (بيكفّي). اسمُك أهمّ من كلّ لقب وتسمية ونعت. اسمُك هو اللقب والتسمية والنعت. تقول: كبروا اللي بدهن يكبروا، ما عندي وقت إكبر. وأنا أقول أنتَ وُلِدْتَ كبيراً»، وقال عنه إنه أحد أعمدة قلعة بعلبك.

أما المحامي محمد مطر، فركزّ على أن «طلال حيدر اختار الحرية دوماً، وحقق في حياته وشعره هذه الحرية حتى ضاقت به، لذا أراه كشاعر فيلسوف ناشداً للحرية وللتحرر في اشتباكه الدائم مع تجليات الزمان والمكان».

الحضور في أثناء التكريم (خاص - الشرق الأوسط)

وفي الختام كانت كلمة للمحتفى به ألقاها نجله علي حيدر، جاءت تكريماً لمكرميه واحداً واحداً، ثم خاطب الحضور: «من يظن أن الشعر ترف فكري أو مساحة جمالية عابرة، إنما لا يدرك إلا القشور... الشعر شريك في تغيير العالم وإعادة تكوين المستقبل».