في أجواء «كوفيدية» قمت بزيارة دار سوذبيز في وسط لندن للمرة الأولى منذ أشهر، الاحتياطات الصحية على قدم وساق، الأقنعة والمطهرات أول ما يقابلك عند باب الدار وتسيطر على باقي أركان المبنى. لكن رغم كل ذلك كان هناك ما يستحق المجهود وعناء التنفس تحت القناع، فبمجرد أن عرض الخبير في الدار ريتشارد فاتوريني بعض القطع التي تعرض للبيع غداً (الثلاثاء) في مقر الدار وعلى الموقع الإلكتروني أيضاً، تلاشى الإحساس بالأجواء المحيطة. في غرفة ضخمة تضم مجموعة هائلة من الكتب القيمة والرسومات والقطع الفريدة المرتبطة بمزاد كتب الرحلات والأطالس والتاريخ الطبيعي، كانت هناك أكثر من مفاجأة.
السباق نحو مكة... رقعة ألعاب ألمانية بمعالم إسلامية
رقعة ألعاب مصورة... قد يوحي ذلك بلعبة كغيرها من الألعاب، ولكن الأمر هنا يختلف، فالرقعة التي أخرجها فاتوريني بحذر وحرص من مغلف بلاستيكي وعرضها أمامي تمثل رحلة إلى مكة المكرمة، ولكنها تحمل كتابات بالفرنسية والألمانية، فهي صنعت للسوق الأوروبية، حسبما يشير الخبير. الرقعة أمامنا يبدو أنها قد استخدمت بكثافة، ولكنها حافظت على تماسكها بفضل تبطين الورق بالقماش القطني.
بالعودة لتفاصيل اللعبة، نرى أمامنا مجموعة من المربعات التي تحمل أرقاماً وعلى كل مربع رسم يمثل مكاناً ما أو شخصاً أو حيواناً أو مبنى. اللعبة مصممة للاعبين أو أكثر، بحيث يجب أن يقوم كل لاعب برحلة حلزونية تنتهي بالوصول إلى المنتصف أو إلى مكة المكرمة وهي الجائزة التي يتسابق عليها اللاعبان. المربعات المختلفة تمثل معوقات أمام اللاعب تقف بينه وبين هدفه. يشرح فاتوريني أكثر: «تبدأ رحلة اللعب من أحد الأطراف من مربع رقم (1)، وهناك 73 مربعاً مقسمة في مجموعات. صممت اللعبة بحيث يدور اللاعب حول الصورة الرئيسية في أشواط، كأنما هو في رحلة حج لمكة. كل مربع مصور بشكل جميل، منها ما يحمل رسماً لمسجد ومنها ما يصور معوقات قد تقف في طريق اللاعب مثل فيضان أو بواخر غارقة أو حيوانات مفترسة، وبعضها يحمل معالم مثل أهرامات الجيزة».
هل يستخدم النرد فيها؟ أتساءل متخيلة طريقة اللعب، يجيب فاتوريني: «نعم يجب استخدام النرد للتقدم أو التراجع، وقطع لاستخدام اللاعبين، ولكن للأسف لا توجد لدينا القطع الموافقة لها، الحقيقة إنه أمر مدهش أن الرقعة نجت حتى الآن، وربما ما ساعد في ذلك أن الورق تم لصقه بقطعة من القماش القطني».
نجد متعة في تفحص المربعات المصورة ونتنافس على الوصول إلى رسم يصور الأهرامات، ويشير الخبير إلى مربعات أخرى تمثل مساحات يجب أن يأخذ فيها اللاعب قسطاً من الراحة أو أماكن لتناول الطعام. أتساءل إن كانت اللعبة صنعت لصالح جمهور مسلم، ولكن الخبير يجيب بالنفي، فاللعبة صنعت في ألمانيا لصالح السوق الأوروبية في القسم الأول من القرن 19، وهي فترة شهدت اهتماماً كبيراً بالشرق: «هي فقط لعبة ولكن تحمل رمزاً دينياً»، وهو أمر مدهش، فقد صممت كرحلة حج، مع رسومات لقوافل مسافرة ومساجد وشخصيات عربية ويجب أن نتذكر أن تلك الفترة تميزت بالاهتمام بالشرق.
مصحف الخطاط النيريزي
من مجموعة جامع كتب يوناني يتفرد مصحف زينت كل صفحاته بالزخارف المذهبة الملونة، ما يجعل تصفحه متعة بصرية خالصة. المصحف أيضاً يتميز بالخط البديع للخطاط أحمد النيريزي الشهير بغزارة إنتاجه وأيضاً بعمله في البلاط الملكي في الفترة ما بين 1694 و1722. المصحف يعود لعام 1711 ويتميز بالحواف المزخرفة التي أضيفت في القرن التاسع عشر لتكمل بهاء الخط بالزخارف الملونة البديعة على هيئة الزهور والأوراق المتعانقة. يعلق فاتوريني على المصحف بقوله: «يمكننا بالنظر للخط والنقوشات المستفيضة أن نستنتج أن المصحف كتب لصالح شخصيه رفيعة في البلاط الملكي او أحد النبلاء، وبسبب أهمية المخطوطة أضيفت الحواف المزينة بعد 150 عاماً. ونلاحظ أن كل الزخارف مختلفة عن بعضها». أسأله إن كان صاحب المصحف وهو يوناني الأصل يقرأ العربية، ويجيب: «لا أعتقد، ولكن المخطوطة لها قيمة جمالية فائقة فيمكن اعتبارها (جوهرة على هيئة كتاب)». يشير إلى أن مجموعة المقتن اليوناني والمعروضة للبيع في المزاد نفسه متنوعة وتشمل إلى جانب المصحف كتب رحلات لمصر والشرق.
وصف مصر... من الملك لوي فيليب لمكتبة نابليون
في صدر الغرفة، نرى خزانة كتب من الخشب مزينة بقطع معدنية مذهبة تصور نقوشات فرعونية، في الحقيقة الخزانة ذاتها تحمل الطابع الفرعوني من حيث وضع الأعمدة الخشبية الطويلة على الجانبين. يفتح فاتوريني الخزانة ويخرج من الرف الأول بها كتاباً ضخماً جداً، وهنا نفهم لماذا بنيت الخزانة على هذا الحجم، فهي صممت لتحتوي على كتاب واحد بأجزائه، وهو النسخة الموجودة به من كتاب «وصف مصر» الذي أعده علماء الحملة الفرنسية على مصر في القرن التاسع عشر.
يشير فاتوريني إلى أن أهمية هذه النسخة من الكتاب تعود إلى كونها «نسخة ملكية صنعت لأمر الملك الفرنسي لوي فيليب الذي أهداها لاحقاً لمكتبة قصر فرساي وبعدها دخلت مجموعة الإمبراطور نابليون الثالث، وبهذا أصبحت للكتاب صلات ملكية وإمبراطورية. وظلت النسخة في المكتبة الإمبراطورية حتى العشر سنوات الماضية، حيث عرضت للبيع في فرنسا، وأخيراً وصلت لتعرض للبيع هنا». يشير إلى أن المالك الأخير للكتاب حرص على تكليف خزانة للكتاب به تحمل الطابع الفرعوني من النقوش المذهبة.
لعبة خشبية لتعليم الجغرافيا
بما أن المزاد مخصص لكتب الرحلات فوجود مجسمات الكرة الأرضية أمر طبيعي، ولكن الكرة الأرضية الخشبية التي يعرضها الخبير أمامي ليست كغيرها، فهي أيضاً أحجية، مكونة من ثماني طبقات أفقية كل واحدة فيها مقسمة لمثلثات. كل طبقة مخصصة لقارة من القارات الخمس، على الوجه الأول خريطة القارة وعلى الوجه الآخر معلومات عن القارة وطبيعتها من نباتات وحيوانات وغيره وهي ملونة باليد.
اللعبة «الكرة» صنعت في ألمانيا لتعليم الأطفال الجغرافيا، وهذه النسخة تحديداً صنعت للسوق الفرنسية، وتحمل الشروحات بلغتها. ننشغل بمحاولة ترتيب القطع ومطالعة الرسومات والمعلومات على كل قطعة، وهو أمر ممتع بالفعل، وهنا يشير فاتوريني إلى أن اللعبة يمكن اعتبارها «لعبة تفاعلية» مجازاً، مضيفاً: «نتحدث عن الألعاب التفاعلية اليوم، ولكن هنا نرى ما يكاد يمكن أن يكون كرة أرضية صماء تتحول إلى مزيج مدهش من المعلومات والرسومات».
هناك الكثير والكثير حولي من المخطوطات والكتب المصورة عن الرحلات وعن الحضارات المختلفة، والعديد من الصور الفوتوغرافية التي تصور مناسك الحج ورحلات المحمل الذي كان يسافر من مصر للأراضي المقدسة حاملاً كسوة الكعبة.