اختراق البريد الإلكتروني لـ«سوني» يكشف عن مشاجرات.. ونعت أنجلينا جولي بالمدللة

يعتقد أن مصدر الهجوم كوريا الشمالية.. ردا على إنتاج فيلم حول اغتيال رئيسها

مقر «سوني بيكتشرز» في كاليفورنيا (إ.ب.أ)
مقر «سوني بيكتشرز» في كاليفورنيا (إ.ب.أ)
TT

اختراق البريد الإلكتروني لـ«سوني» يكشف عن مشاجرات.. ونعت أنجلينا جولي بالمدللة

مقر «سوني بيكتشرز» في كاليفورنيا (إ.ب.أ)
مقر «سوني بيكتشرز» في كاليفورنيا (إ.ب.أ)

وصلت واقعة اختراق شركة «سوني بيكتشرز إنترتينمنت» إلى حد أزمة علنية مهينة بالنسبة للشركة في ظل استمرار انكشاف أسرار، من بينها معاملات تجارية وفروق في الأجور ومشاجرات شخصية قبيحة، وانتشارها على الإنترنت بطرق يرى خبراء أنها قد تقوض هوليوود لسنوات.
ولم يبدِ مخططو الهجوم اهتماما كبيرا بالأهداف التقليدية لهجمات الاختراق على الإنترنت مثل بطاقات الائتمان، بل اختاروا استخدام المعلومات كسلاح للانتقام من الشركة لأفعالها السيئة المفترضة. ووجدت المجموعة الهائلة من المعلومات المسروقة في انتظارها جمهورا شرها، حيث ظلت شركة «سوني» هدفا محببا لفترة طويلة بسبب محاولاتها العنيفة لمقاومة القرصنة. وكانت العواقب التي واجهتها شركة «سوني» سريعة ومدمرة، حيث أصبح الهجوم علنيا الشهر الماضي وعرض الشركة لملاحقات قضائية وانتقام محتمل من أطراف فاعلة مهمة في هوليوود. وكانت الدراما الداخلية التي تم الكشف عنها خلال الأسبوع الحالي، هي الكشف عن مشروع ضخم في «سوني» لإنتاج فيلم سينمائي ملحمي عن مؤسس شركة «آبل» الراحل ستيف جوبز، قبل أن يفوز به في النهاية استوديو منافس. وتم الكشف عن مجموعة من رسائل البريد الإلكتروني توضح تورط أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في الاستوديو في شجار مع منتج أفلام نافذ، وتضمن الشجار نعت المنتج للممثلة أنجلينا جولي بـ«المدللة محدودة الموهبة»، بحسب ما جاء في رسائل بالبريد الإلكتروني نشرها موقع «غوكر».
وفي إحدى المراسلات تجادلت آمي باسكال، إحدى رؤساء «سوني بيكتشرز»، وسكوت رودين، مع المنتج الذي طرح مشروع الفيلم عن جوبز في الاستوديو، بشأن جولي، التي أرادت أن يقوم ديفيد فينشر بإخراج فيلمها عن كليوباترا، بدلا من الفيلم عن جوبز. وقد كان رودين يعارض بشدة ووضوح ما ترمي إليه جولي. وكتب رودين: «إنها ليست سوى واحدة من المشاهير وآخر ما يريده أي أحد هو التسبب في انفجار ضخم معها يتوقعه أي أحمق بسهولة».
تهديدات عمل
إضافة إلى النميمة حول نجوم الأفلام والمشروعات الفاشلة، تواجه شركة «سوني» حاليا تهديدات مالية وتجارية حقيقية، حيث من الممكن أن تتسبب معلومات مسربة تتعلق بالصحة، وأرقام التضامن الاجتماعي، فضلا عن بيانات أخرى عن عاملين وممثلين، في ملاحقات قضائية بحسب قوانين ولاية كاليفورنيا الصارمة الخاصة بحماية المعلومات. ويمكن استخدام البيانات الخاصة بأجور عاملين وممثلين في نزاعات عمالية وقد تنتشر في المجال. وأرسل المخترقون، الذين يطلقون على أنفسهم لقب «حراس السلام»، الأسبوع الماضي رسائل تهديد إلى العاملين في شركة «سوني» بالبريد الإلكتروني. مع ذلك سيلحق الضرر الأكبر بسمعة الشركة. وقد وصل جزء صغير من الوثائق، يقدر البعض حجمه بـ100 تيرابايت، إلى الإنترنت، وقد يستمر الكشف التدريجي عن المعلومات لأشهر أو لسنوات. وقال جيرمي غولدمان، محامي الملكية الفكرية في «فرانكفورت وكورنيت كلين آند سليز»: «هناك حلقة من النيران تحيط بأسرار الصناعة في هوليوود وتكمن قيمة المسؤولين التنفيذيين في مدى قدرتهم على الحفاظ على الأسرار والإبقاء على مسافة آمنة».
وكشف الاختراق، الذي تعرضت له شركة «سوني»، عن هشاشة أنظمة الكومبيوتر في المؤسسات في عالم تزداد أجزاؤه اتصالا ببعضها البعض. في حقبة تتعرض حتى الهيئات الحكومية الأميركية المهمة فيها إلى عمليات سرقة ضخمة للأسرار، كثيرا ما تكون الشركات الخاصة هدفا سهلا لقراصنة الإنترنت.
وقد يشجع ما لحق بشركة «سوني»، التي لم ترد على طلب بالتعليق يوم الأربعاء، من ضرر شن هجمات مماثلة على شركات كبرى أخرى، كما يحذر خبراء في أمن الإنترنت. وقال هارون مير، مؤسس «ثينكست أبلايد ريسيرش» في جنوب أفريقيا، التي حذرت عملاءها من خطر مواجهة هجمات مشابهة في تقرير صدر حديثا: «أعتقد أن السيئ قادم، وأن الناس غير مستعدة لهذا بشكل كبير».
هدف مفضل
مع ذلك لطالما كانت شركة «سوني» هدفا يفضله المخترقون، حيث عانت من هجمات اختراق كثيرة، حدث أخطرها عام 2011 بعد ما قاضت الشركة أحد المخترقين البارزين لابتكار طريقة لاختراق الأمن على «سوني بلاي ستيشن» الخاص به. كذلك واجهت الشركة في الأيام القليلة الماضية موجة من الانتقادات، وصلت إلى حد التسفيه، بسبب التراخي في أمن الإنترنت. وقد صرح مسؤول رفيع المستوى عن أمن المعلومات في «سوني» لمجلة «سي آي أو» عام 2007 قائلا: «لقد كان تقبل بعض الخطر على أمن الإنترنت قرارا سليما، حيث قد تكون تكلفة منع هجوم ما أكبر من تكلفة تحمله». وقد أثار هذا التصريح موجة عارمة من السخرية. وقال باركر هيغنز، مدير حقوق الطبع في مجموعة الحريات المدنية «إلكترونيك فرونتير فاونديشين»: «ليست عبارة لوم الضحية بالعبارة الجيدة».
التحقيقات مستمرة
يقول محققون إنهم يعتقدون أن مصدر الهجوم الذي شن على شركة «سوني» هو كوريا الشمالية، وربما جاء ردا على مشاركة الشركة في إنتاج فيلم «ذا إنترفيو» «المقابلة» الكوميدي الذي تدور أحداثه حول مخطط للاستخبارات المركزية لاغتيال رئيس كوريا الشمالية كيم يونغ أون بحسب ما أفادت به بعض المصادر المقربة من التحقيق. ومن المقرر أن يعرض الفيلم، الذي أدانه مسؤولون في كوريا الشمالية، خلال أعياد رأس السنة. ونفى مسؤولون في الحكومة أي مسؤولية عن هذا الاختراق. وحدد محققون 7 مزودات خدمة بالوكالة حول العالم مشكوك في استخدام المخترقين لها في الهجوم. ويوجد أحد تلك المزودات في فندق في تايلاند، في حين توجد المزودات الأخرى في بولندا وإيطاليا وقبرص وبوليفيا وسنغافورة والولايات المتحدة الأميركية، على حد قول أحد الأشخاص المطلعين على التحقيق، والذي رفض ذكر اسمه لعدم انتهاء التحقيقات. ويتولى مكتب التحقيقات الفيدرالي التحقيق في الواقعة ولم يعلن عن الفاعل بعد. وقال جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي في اجتماع مع صحافيين يوم الثلاثاء: «قبل تحديد فعل أو فاعل محدد، نود تصنيف الأدلة بحرص حتى نصل إلى مستوى من الثقة نعتقد أنه يكفي للجزم بأن فلانا هو الذي فعلها، ونحن لم نصل بعد إلى هذا المستوى في قضية (سوني)».
اندفع بعض منتجي الأفلام والممثلين نحو الدفاع عن شركة «سوني»، حيث وصف منتج وكاتب «ليغو موفي»، فيليب لورد، على حسابه على «تويتر» الاختراق بـ«العمل الإرهابي». وقال إن نشر كمية هائلة من المعلومات التي حصل عليها المخترقون «يساعد الإرهابيين». أما المخرج جود أباتو فكتب على حسابه على «تويتر»: «في الحياة نقرر جميعا ما هو الصواب، وأعتقد أن نشر معلومات شخصية لتسريبها من قبل مجموعة من الأشرار خطأ».
إزاحة الستار
مع ذلك أربك الكشف الكبير عن التفاصيل الداخلية الخاصة بطريقة عمل «سوني» صناعة تقوم على السرية والعلاقات. لقد تقاضى سيث روغين مبلغا أكبر من الذي تقاضاه النجم جيمس فرانكو المشارك في «ذا إنترفيو» بنحو مليوني دولار بحسب وكالة أنباء «بلومبيرغ». ويمكن لممثلين آخرين استخدام مثل تلك المعلومات في المفاوضات في المستقبل. كذلك تضمنت وثائق «سوني» الخاصة بنفقات الأفلام تكاليف عادة ما تبقى سرية، لكنها تخصم من أجر ممثلين ومخرجين.
وقال جوناثان هاندل، محامٍ في مجال الترفيه وأستاذ في جامعة ساوث كارولينا: «هذا يكشف الستار أمام محامي هوليوود وصناع الأفلام والممثلين الذين بات في حوزتهم معلومات يمكنهم القول إنها من حقهم. إن هذا حقا إنجاز كبير لأن استوديوهات هوليوود دائما ما تدعي الفقر وتزعم عدم تحقيقها أرباحا من أفلامها، في حين يذهبون إلى وول ستريت ويقولون عكس ذلك».
وكشفت البيانات الخاصة بأجور العاملين عن الفجوة الكبيرة بين الجنسين من العاملين الأميركيين؛ فبحسب البيانات 17 من بين 6 آلاف عامل يتقاضون مليون دولار أو أكثر، ومن بينهم امرأة واحدة. وتلقي رسائل البريد الإلكتروني سربتها باسكال بسحابة سوداء على واحدة من أهم المسؤولات التنفيذيات في أميركا. وبدأت باسكال، التي اختارتها مجلة «فورتشيون» ذات مرة كأهم امرأة، حياتها المهنية في عالم الأفلام في نهاية حقبة الثمانينات بفيلمي «غراوندهوغ دي» و«أويكينينغز» لصالح شركة «كولومبيا بيكتشرز». وأصبحت أحد رؤساء «سوني بيكتشرز إنترتينمنت» عام 2003 وأشرفت على إنتاج عدة أفلام ناجحة مثل «سبايدر مان»، فضلا عن سلسلة أفلام جيمس بوند. وقال هاندل: «ستضر الآراء التي يتم التعبير عنها علنا بصراحة وقسوة بالعلاقات».
* خدمة «واشنطن بوست»
- خاص بـ{الشرق الأوسط}



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)