الهند والصين... صراع مستقبلي تحكمه رواسب التاريخ

تهدد بتفجيره النزاعات والملفات الحدودية

الهند والصين... صراع مستقبلي تحكمه رواسب التاريخ
TT

الهند والصين... صراع مستقبلي تحكمه رواسب التاريخ

الهند والصين... صراع مستقبلي تحكمه رواسب التاريخ

في خضم حالة الغليان التي تسود علاقات الهند مع «جارتها» الصين، جراء التوترات المستمرة على الحدود بين البلدين بطول «خط السيطرة الفعلية» شرق لاداخ الجبلي، تعكف سلطات نيودلهي على مراجعة سياستها تجاه الصين... التي تحمل عنوان «سياسة صين واحدة». وعلى ما يبدو، تسعى الهند الآن نحو مهاجمة نقاط الضعف الصينية في تايوان وإقليمي التيبت وسنكيانغ-ويغور الذاتيي الحكم في جنوب غربي الصين وغربها، بل، وحتى في مستعمرة هونغ كونغ السابقة.
والجدير بالذكر هنا، أن نيودلهي تدعم سياسة «صين واحدة»، التي تنص فعلياً على أن تايوان والتيبت وسنكيانغ تشكل جميعاً جزءاً من الأجزاء الرئيسية للصين، والتي كانت بكين من جهتها قد جعلت من سياسة «صين واحدة» شرطاً مسبقاً لإقامة علاقات دبلوماسية معها.
يرى خبراء هنود أن التوغل العسكري الصيني الأخير داخل إقليم لاداخ الجبلي الحدودي إلى الشمال من كشمير، يأتي نتاجاً لمشكلات داخلية تعاني منها حكومة بكين. وما يستحق الإشارة في هذا الصدد أن إقليم لاداخ يتميز بأهمية استراتيجية للصين لربطه بين إقليمي التيبت وسنكيانغ-ويغور، المتمتعين بالاستقلال الذاتي واللذين يضم كل منهما أقلية عرقية ودينية، علاوة على وفرة الموارد الاستراتيجية فيهما، حيث توجد ثروة ضخمة من النفط والغاز في أرض سنكيانغ وموارد مائية في التيبت. إلا أنه مقابل ذلك، يمور الإقليمان بنزعات انفصالية مناهضة لقومية الهان التي يشكل أفرادها السواد الأعظم من سكان الصين. وبالتالي، من شأن السيطرة على النقاط الاستراتيجية في شرقي لاداخ أن ييسر على حكومة بكين إحكام قبضتها على التيبت وسنكيانغ-ويغور، بجانب تعزيز «طريق تجارة الحرير» القديم.
البروفسور سريكانث كوندابالي، الأكاديمي الهندي، سلط الضوء على البعد التاريخي لسياسة «صين واحدة» داخل الهند، مشيراً إلى أن هذه السياسة كانت قد طُرحت للمرة الأولى خلال الفترة ما بين ديسمبر (كانون الأول) وأبريل (نيسان) 1950. بيد أنها كانت في تلك الفترة كانت مقتصرة فقط على تايوان (الصين الوطنية سابقاً)، الدولة-الجزيرة قبالة الساحل الصيني.
وأضاف كوندابالي «لقد كان لدى الهند قنصل عام في كل من التيبت وسنكيانغ-وبغور ومناطق أخرى. ولكن في غضون سنتين، ضم الحزب الشيوعي الحاكم في البر الصيني هذين الإقليمين الشاسعي المساحة إلى دولته التي هي جمهورية الصين الشعبية. واضطررنا نحن في الهند، على الأثر، إلى تحويل علاقاتنا الدبلوماسية مع جمهورية الصين (الصين الوطنية في جزيرة تايوان) إلى جمهورية الصين الشعبية. ومع صعود جمهورية الصين الشعبية، ألغى الحزب الشيوعي العلاقات القائمة والبعثات الدبلوماسية وجرى إقرار علاقات جديدة».

علاقات الهند مع تايوان
من جهة ثانية، في خطوة دبلوماسية كبرى، عينت الهند في الفترة الأخيرة دبلوماسيا رفيع المستوى مبعوثاً لها لدى تايوان. هذا المبعوث هو السفير غورانغلال داس، الذي كان يعمل سابقاً في الولايات المتحدة، وهو يتميز بإجادته التكلم بلغة الماندرين، لغة شمال الصين. وهنا، تتجلى أهمية تعيين الهند مبعوثاً لها لدى تايوان بالنظر إلى حقيقة أنه حتى ذلك الوقت لم تكن هناك أي علاقات رسمية بين الهند وتايوان، نظراً لالتزام نيودلهي بسياسة «صين واحدة» التي روجت لها وأكدت عليها بكين.
وفي هذا السياق، لا بد من التذكير، بأن تايوان تنظر إلى نفسها على أنها دولة سيدة مستقلة، في حين تصر السلطات في بكين على أنها جزء من أراضي الصين الواحدة التي تمثلها بكين حصراً. وفي هذا الصدد، أوضح راجان كومار، البروفسور بكلية الدراسات الدولية التابعة لجامعة جواهرلال نهرو في دلهي أن «تعيين مبعوث إلى تايوان يشكل تحولاً لافتاً عن السياسة التي لطالما اتبعتها الهند، التي تُعرف بنفورها من خوض المخاطرات، وتشتهر بدبلوماسيتها الناعمة. أما الآن، فقد بدأت الهند تتخلى عن تظاهرها بالسلوك المهذب، وهي وتحاول أن ترد على الصين بالصورة ذاتها. ولكن هذا الأمر أشبه بسلاح ذي حدين، ذلك أن بكين ربما تتورط، من ناحيتها هي الأخرى، في تحركات دبلوماسية قوية فيما يخص قضيتي كشمير وأروناتشال براديش (وهما ولايتان هنديتان حدوديتان مع الصين)».
هذا، ويأتي تعيين الدبلوماسي كمبعوث إلى تايوان بعد أسابيع من طلب تقدم به حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي اليميني الحاكم في نيودلهي إلى رئيس الوزراء ناريندرا مودي عبر اثنين من أعضائه هما ميناكشي ليخي وراهول كاسوان، من أجل حضور مراسم أداء رئيسة تايوان تساي إنغ ون، على نحو افتراضي يوم 20 مايو (أيار) أي بعد أسبوعين من بدء المواجهة مع الصين على «خط السيطرة الفعلية».
إضافة لذلك، دعمت الهند انضمام تايوان إلى «منظمة الصحة العالمية» بصفة مراقب، وأشارت إلى أن استبعاد تايوان من المنظمة الأممية إنما جاء أساساً نتيجة ضغوط صينية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في عام 2014. عندما وصل ناريندرا مودي، زعيم بهاراتيا جاناتا، إلى السلطة في نيودلهي، فإنه تبنى نهجاً خارج المألوف، وذلك من خلال توجيهه الدعوة إلى ممثل تايوان في الهند، جنباً إلى جنب مع لوبسانغ سانجاي رئيس إدارة التيبت المركزية لحضور حفل أدائه اليمين الدستورية عام 2014.
مع ذلك، أدت السياسة الهندية إزاء الصين وتركيزها على استقرار العلاقات مع بكين إلى تهميش تايوان. بل، عندما احتجت الصين على زيارة وفد برلماني تايواني جميع أفراده من النساء إلى الهند عام 2018، تباطأ زخم العلاقات بين الهند وتايوان على نحو أكبر.
وفي هذا الصدد، أعرب المسؤول السابق بأمانة مجلس الوزراء، جاياديفا رانادي، عن اعتقاده بضرورة أن تعمل الهند على توفير مكانة وفرص للشركات التابعة لتايوان مثلما تفعل مع الشركات الصينية في الوقت الحالي. وتساءل «لماذا يتوجب علينا منع الفرص ذاتها من وإلى تايوان مقارنة بالصين؟ إن باستطاعتنا الاستفادة من تايوان من خلال اجتذاب الشركات التايوانية العاملة في قطاع إنتاج الرقائق الإلكترونية والشحن إلى العمل في الهند. ومن شأن ذلك الإسهام في حل مشكلة البطالة داخل الهند ومعاونة الشركات الهندية على الازدهار».

الصين والهند... والتيبت
من وجهة نظر الصين، تتسم قضية التيبت، بالذات، بقدر بالغ من الحساسية. وواقع الأمر، أن سلطات نيودلهي بدأت اللعب ببطاقة التيبت في الفترة الأخيرة. وأخذ العديد من الأصوات، وإن كانت غير رسمية، تتعالى داعية الحكومة الهندية إلى تقديم الدعم لقضية استقلال إقليم التيبت عن الصين.
بين هؤلاء براهما شيلاني، الخبير الجيو-استراتيجي البارز والمتخصص في الشأن الصيني، الذي قال «يتوجب على الهند استغلال بطاقة التيبت. إن إقليم التيبت يشكل للهند في مواجهة الصين ما تشكله باكستان للصين في مواجهة الهند. بيد أنه على النقيض من الهواجس الهندية تجاه استغلال بطاقة التيبت، لم تبدِ بكين أدنى تردد حيال اللعب ببطاقة باكستان ضد الهند».
في هذا الإطار، ينبغي القول بأنه حتى عام 1959، لم تكن هناك ثمة حدود مشتركة بين الهند والصين نظراً لأن إقليم التيبت كان دولة مستقلة شكلت عملياً «منطقة عازلة» بين العملاقين الآسيويين. إلا أنه في ظل قيادة الزعيم الشيوعي الراحل ماو تسي تونغ، الأب المؤسس للصين الحديثة، استولت بكين على الإقليمين الكبيرين.
استولت بداية على إقليم سنكيانغ-ويغور، المعروف أيضاً بـ«تركستان الشرقية»، الذي ينتمي غالبية سكانه إلى المسلمين الترك، وأكبر مكوناته العرقية التركية شعب الويغور. وكانت قوات جمهورية الصين الشعبية قد دخلت الإقليم عام 1949. وبحلول ربيع 1950 كان الجزء الأكبر من الإقليم تحت السيطرة الصينية.
وعلى نحو شبه متزامن، غزت القوات الصينية إقليم التيبت عام 1950، وبحلول عام 1959 كانت قد ضمت التيبت كلياً إلى أراضيها في أعقاب فرار زعيمه الروحي الدالاي لاما إلى الهند في أعقاب محاولة تمرد فاشلة ضد الصينيين، وفي تلك الآونة يقدر أنه تعرض 43.000 من أبناء التيبت للقتل.
هذا، وبعدما وفرت السلطات الهندية الملاذ الآمن للدالاي لاما، وسمحت لحكومة تيبتية منفية بالعمل من مدينة دارامسالا الهندية الواقعة في جبال الهيمالايا داخل الأراضي الهندية، بدأت الصين تنظر إلى الهند بريبة، وتلقي باللوم على نيودلهي عن دعم نشاطات مناهضة لبكين.
وعام 1962، هاجم الصينيون الهند في أعقاب سلسلة من المزاعم تضمنت توجيه نيودلهي أصابع الاتهام إلى بكين بخصوص الاستقلال الذاتي لإقليم التيبت. وفي المقابل، وجهت القيادة الصينية اتهامات إلى نظيرتها الهندية بالعمل على إضعاف قبضتها داخل التيبت. إلا أنه رغم ذلك، نعاين اليوم تحولاً أكثر جدية من جانب نيودلهي، بعيداً عن موقفها السابق المتمثل في قبول كون التيبت جزءاً من الأراضي الصينية.
على صعيد متصل، نشير إلى أنه بعد 10 أيام من وقوع صدامات غالوان الأخيرة، أشار بيما كهاندو، رئيس وزراء ولاية آروناتشال براديش الهندية، إلى «خط السيطرة الفعلية» الذي يفصل بين الهند والصين، باعتباره يشكل الحدود بين الهند والتيبت. وفي هذا الصدد، فإن السطات الصينية ما زالت تدعي أحقيتها في السيطرة على كامل ولاية أروناتشال براديش، وتطلق عليها مسمى «التيبت الجنوبية».
وبطبيعة الحال، لاقى هذا الوصف استحساناً كبيراً في صفوف نشطاء التيبت الذين سعوا منذ أمد بعيد نحو الحصول على دعم هندي نشط. أما الناشط والكاتب المنتمي إلى التيبت، تنزين تسوندو، فدعا من جهته إلى وصف الحدود بين الجانبين بأنها «حدود مع التيبت، وليست حدودا مع الصين». وكما هو متوقع، سلطت وسائل إعلام صينية الضوء على مثل هذه الآراء الهندية ووجهت سهام النقد إليها.

موضوع الدالاي لاما
وبالمثل، في تحول جديد في السياسات المتبعة، قدم عدد كبير من السياسيين الهنود ممن يتولون مناصب رسمية تهانيهم للدالاي لاما في يوم ميلاده الـ85 في السادس من يوليو (تموز). ومن بين الذين أرسلوا بطاقات تهنئة كيرين ريجيجو، وزير شؤون الشباب والرياضة، ورئيس وزراء أروناتشال براديش وكذلك حاكم لاداخ. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في العام 2018، أصدرت الحكومة الهندية توجيهات إلى كبار مسؤوليها تطلب منهم خلالها الإحجام عن المشاركة في أي فعاليات تتولى تنظيمها حكومة التيبت في المنفى.
من ناحية أخرى، وفي خضم المخاوف بخصوص الحالة الصحية للدالاي لاما (الدالاي لاما الحالي هو من حيث الرئيس الروحي الرابع عشر للتيبت)، أصدرت بكين تحذيرات دورية، منها تحذير أعلنته العام الماضي، بخصوص جهود اختيار خليفة له، الأمر الذي قد يجري داخل مدينة دارامسالا، حيث يوجد مقر حكومة التيبت في المنفى. وشددت بكين على ضرورة أن تتولى هي هذا الأمر.
واستطراداً، في يوليو 2019. قال وانغ نينغ شينغ، المدير العام لمكتب الإعلام الحكومي عن إقليم التيبت الصيني الذاتي الحكم إن «مسألة خلافة الدالاي لاما لن يجري تقريرها تبعاً لرغبته الشخصية أو من جانب مجموعة من الأفراد يعيشون في دول أخرى»، وذلك في إشارة إلى الهند. كذلك، قال زها لو «مدير المركز الصيني لأبحاث التيبت» الذي يوجد مقره في العاصمة الصينية بكين، في تصريحات صحافية إنه في حال اعتراف الهند رسمياً بأي خليفة للدالاي لاما لا تقبله الصين، فإن هذا الأمر سيتحول إلى خلاف سياسي بين البلدين «سيترك تداعيات على العلاقات الثنائية بينهما».
في هذه الأثناء، يشعر خبراء هنود بالغضب حيال أسلوب التعامل الحساس من جانب نيودلهي مع الصين فيما يخص الدالاي لاما والتيبت، لا سيما في ضوء حالة التأزم على الحدود في لاداخ، وامتناع بكين عن إبداء قدر متكافئ من الحساسية في تعاملها مع القضايا التي تمس الهند. وعلى سبيل المثال، قال الصحافي المستقل رانجيت بهوشان «يرمز الدالاي لاما إلى النفوذ الهندي فيما يتعلق بقضية جوهرية تخص الصين-التيبت. وفي واقع الأمر فإنه يمثل أصلاً استراتيجياً للهند. ومن ثم، سعياً منه نحو استرضاء الصين، وضع رئيس الحكومة الهندية مودي نهاية لجميع الاتصالات الرسمية مع الدالاي لاما وحكومة التيبت في المنفى... لكن هذا كان خطأ يجب تصحيحه».
ويرى بهوشان أنه لا يجوز أن تقف الهند موقف المتفرج، مضيفاً «في الوقت الذي يصلي أبناء التيبت في مختلف أرجاء العالم من أجل أن يتمتع الدالاي لاما بطول العمر، تنتظر الصين بفارغ الصبر وفاته كي تتمكن من الدفع بخلفٍ زائف تنصبه محله. أما الهند، فعليها أن تقدم يد العون في جهود إيجاد وتعيين وحماية الدالاي لاما المقبل عبر اتباع تعليمات الدالاي لاما الحالي».
ومن جانبه، دعا كريشان فارما، الرئيس السابق للاستخبارات الهندية، إلى مراجعة السياسة الهندية تجاه إقليم التيبت. وأشار إلى أن اتباع سياسة هندية جديدة تجاه الإقليم «تحمل إمكانيات حقيقية لأن تثير اضطراباً كبيراً داخل منطقة حساسة من الصين. وينبغي للهند مراجعة سياستها التي عفى عليها الدهر تجاه التيبت، والإعلان رسمياً عن التبت باعتبارها أرضاً محتلة».
وفي سياق متصل، طرح عضو الكونغرس الأميركي سكوت بيري مشروع قانون بخصوص التيبت. وحال تمرير مشروع القانون، فإنه يخول للرئيس الأميركي الاعتراف بالتيبت كدولة مستقلة منفصلة عن الصين.

وضع هونغ كونغ في التجاذب الهندي ـ الصيني
> وسط التوترات المستعرة بين الهند والصين على امتداد «خط السيطرة الفعلية» عند لاداخ، أطلقت نيودلهي حملة دبلوماسية ضد الصين من خلال التعبير عن مخاوفها بخصوص تداعيات قانون الأمن الوطني الجديد الذي مررته بكين على هونغ كونغ.
وما يذكر أنه في العام الماضي، أثار السفير الهندي لدى الأمم المتحدة قضية قانون الأمن الوطني الجديد في الصين وتأثيره على هونغ كونغ، وكيف أنه يحد من حرية التعبير. ودعا السفير إلى إدارة الوضع على نحو مناسب. وجاء البيان الهندي الصادر أمام الأمم المتحدة لافتاً لكونه يمثل المرة الأولى التي تثير الهند قضية هونغ كونغ، خاصة في خضم المظاهرات الضخمة المستمرة ضد الصين على الصعيد الدولي. ومن ناحيته، أوصى النائب السابق لمستشار الأمن الوطني الهندي، إرفيند غوبتا، بضرورة توجيه الهند دعماً للحركة الديمقراطية داخل هونغ كونغ. وقال «حتى إذا لم ننضم للجهود المشتركة التي تبذلها دول غربية لفرض العزلة على الصين على الصعيد الجيو-سياسي، يتوجب علينا أن نعبر عن مواقفنا بصوت مرتفع». وعلاوة على ذلك، أوصى غوبتا بأن تدعم الهند الأصوات المناهضة لانتهاكات حقوق الإنسان داخل إقليم سنكيانغ-ويغور على الساحة العالمية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».