لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية

رئيس الدومينيكان تعود أصوله إلى بلدة بسكنتا اللبنانية

لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية
TT

لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية

لويس أبي ناضر... فرصة جديدة لتعزيز العلاقات العربية ـ اللاتينية

في السادس عشر من أغسطس (آب) المقبل تنتقل مقاليد الحكم في جمهورية الدومينيكان إلى الرئيس الجديد لويس أبي ناضر الذي انتخب في الخامس من هذا الشهر فاتحاً بذلك صفحة جديدة في سجلّ الرؤساء المتحدّرين من أصول عربية في أميركا اللاتينية، إذ تجدر الإشارة إلى أن والده يوسف أبي ناضر مولود في بلدة بسكنتا (قضاء المتن بلبنان)، مسقط رأس المفكّر والكاتب اللبناني المعروف ميخائيل نعيمة.

جمهورية الدومينيكان تتقاسم مع جارتها هاييتي جزيرة هسبانيولا، إحدى الجزر الـ13 في البحر الكاريبي والثانية من حيث المساحة بعد كوبا. ولقد كانت هسبانيولا أوّل موئل ثابت في القارة الأميركية للفاتحين الإسبان الذين نزلوا فيها بقيادة الإيطالي كريستوف كولومبوس عام 1492 بعد أشهر من سقوط مملكة غرناطة آخر الممالك العربية في الأندلس. ورغم أن اقتصاد الدومينيكان يسجّل أعلى مستويات النمو في أميركا اللاتينية منذ خمس سنوات معتمداً بشكل أساسي على قطاع السياحة، ما زالت نسبة الفقر فيها تتجاوز 45 في المائة من مجموع السكّان، ما يجعل منها واحدة من أكثر الدول تفاوتاً في مستوى الدخل بين مواطنيها.
من ناحية ثانية، لويس أبي ناضر ليس الرئيس الأول المتحدّر من أصول لبنانية في جمهورية الدومينيكان التي كان للمتحدّرين من هذا البلد حضور بارز في تاريخها السياسي منذ أن نالت استقلالها عن التاج الإسباني في أواخر القرن الميلادي الـ19. ثم تحررت من الاحتلال الأميركي مطالع العقد الثالث من القرن الماضي.
بطاقة هوية

ولد لويس يوسف أبي ناضر عام 1967 في عائلة ميسورة تتعاطى التجارة منذ أن هاجرت من لبنان في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان والده يوسف ناشطاً في المعترك السياسي، فتولّى منصب نائب رئيس الحزب الثوري الذي كان من مؤسّسيه ومنظّره الأول قبل أن ينصرف إلى تأسيس جامعة معهد سانتو دومينغو للتكنولوجيا التي كان أوّل رئيس لها. وقد أطلق على قاعة المحاضرات الرئيسية فيها اسم مواطنه ميخائيل نعيمة الذي نقل أعماله إلى الإسبانية.
وتخرّج لويس من كليّة الاقتصاد في الجامعة التي أسسها والده. ثم سافر إلى الولايات المتحدة حيث تابع تخصصه في جامعة هارفارد العريقة، قبل أن يعود ليتولّى إدارة المؤسسات العائلية في مجالات السياحة وإنتاج مواد البناء، ويغدو رئيساً لمجموعة «آبيكور» السياحية التي تعتبر من أكبر شركات هذا القطاع في عموم أميركا اللاتينية.
وسار أبي ناضر الابن على خطى والده في السياسة فانضمّ إلى الحزب الثوري حتى العام 2014، عندما بدأ الحزب ينحرف عن الخط الذي رسمه والده. وعندها انشقّ عنه وأسس حزباً جديداً سماه «الحزب الثوري الجديد» (يسار الوسط) وترشّح عنه لرئاسة الجمهورية في العام 2016 حين نال 36 في المائة من الأصوات، معزّزاً موقعه وحظوظه استعداداً للانتخابات التالية.
وبالفعل، في الانتخابات التي أجريت يوم 5 يوليو (تموز) الجاري نال أبي ناضر نسبة 52.2 في المائة من الأصوات ليصبح الرئيس الأول الذي يخرج من صفوف المعارضة منذ 16 سنة، والأول في زمن جائحة «كوفيد - 19» التي أصيب بفيروسها هو وزوجته إستير عربجي... المتحدّرة هي أيضا من أصول لبنانية.

فوزه الانتخابي

من العوامل الرئيسية التي ساعدت على فوز أبي ناضر في الانتخابات الرئاسية ضد مرشح حزب التحرير الحاكم، الفساد الذي تراكم طوال 16 سنة احتفظ خلالها هذا الحزب بالحكم. وفي أول تصريح لأبي ناضر بعد انتخابه قال: «كان من الأسهل لو اقتصرت الأمور على معالجة إرث الفساد الذي تراكم طوال سنوات في المؤسسات الضعيفة والقضاء، لكن جائحة (كوفيد - 19) تفرض علينا تحديات لها الأولوية المطلقة في برنامج عمل الحكومة الجديدة». وللعلم، كان الرئيس الجديد قد وعد بإيجاد 600 ألف فرصة عمل جديدة خلال ولايته.
عودة، لمسألة أصل أبي ناضر، نشير إلى أنه في العام 1982 وصل متحدر آخر من أصول لبنانية إلى رئاسة جمهورية الدومينيكان هو يعقوب مخلوطة عازار، الذي كان رئيساً لمجلس الشيوخ، ثم صار نائباً لرئيس الجمهورية عندما توفّي الرئيس أنطونيو غوزمان، وتولّى مكانه لفترة 42 يوماً. وعاد ليترشّح في العام 1986 لكن الحظ لم يحالفه بسبب «انقلاب» عليه داخل الحزب الثوري الذي كان قد انضمّ إليه بعيد اغتيال الديكتاتور رافاييل تروخيّو عام 1961 وأصبح أصغر وزير في تاريخ الجمهورية عندما كان لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره. ولقد أمضى مخلوطة آخر سنوات حياته في ولاية فلوريدا الأميركية حيث كان يعالج من مرض عضال. وظل رغم ابتعاده عن بلاده يتمتع بشعبية واسعة بين مواطنيه بدليل إطلاق اسمه بعد وفاته على أكبر شارع في العاصمة سانتو دومينغو.

جولة مع الماضي

جدير بالذكر أن حضور المتحدرين من أصول لبنانية في المشهد السياسي لجمهورية الدومينيكان يعود إلى أواسط القرن الماضي إبّان حكم الديكتاتور رافاييل تروخيّو الذي ارتبط اسمه بتاريخ الجزيرة ومنطقة حوض البحر الكاريبي بكاملها، إذ هيمن على الحياة السياسية طوال 32 سنة حتى اغتياله في العام 1961. حتى أن العاصمة سانتو دومينغو عرفت لفترة باسم سيوداد تروخيّو (أي مدينة تروخيّو). هذا، وكان تروخيّو جندياً في قوات مشاة البحرية الأميركية «المارينز» عندما اجتاحت الجزيرة عام 1916، ثم التحق بالكليّة الحربيّة التي أسستها الولايات المتحدة في الجزيرة ليتخرّج منها ويصبح قائداً للشرطة. ومن ثم، يتولّى قيادة الجيش ويحكم سيطرته على البلاد بعد رحيل الأميركيين. ولقد اتسمت فترة حكم تروخيّو الديكتاتور التي امتدت لخمس ولايات رئاسية ببطش موصوف، خلّده الكاتب والأديب البيروفي - الإسباني ماريو فارغاس يوسا في روايته الشهيرة «عيد التيس». وبالمناسبة، كان الديكتاتور تروخيّو هو الذي يختار الرؤساء في الفترات التي لم يكن يتولّى فيها الرئاسة شخصياً.
أما بالنسبة لظهور المتحدرين من أصول عربية، وبالذات اللبنانية، في المشهد السياسي للدومينيكان، فبدأ مع عام 1961 عندما اغتيل الديكتاتور الذي روّع الجمهورية ومنطقة الكاريبي على يد مهاجر لبناني اسمه سالفادور سعد الله. ولقد قال سعد الله بشجاعة أمام المحققين عندما ألقي القبض عليه «لم يعد بإمكاني أن أتحمّل رؤية هذه المظالم، فقرّرت القضاء على رأس التنّين». ومع أن أسرته حاولت إقناعه بالانتحار، خاصة أن والده كان من الموالين لتروخيّو وكان مقرّباً منه، فإنه رفض وأُعدم على يد ابن الديكتاتور الذي فرّ بعد ذلك إلى الخارج.

25 مليوناً يتحدرون من أصول عربية

يقدَّر عدد المهاجرين العرب أو المتحدرين من أصول عربية في دول أميركا اللاتينية بحوالي 25 مليون نسمة، جاء معظمهم من لبنان وسوريا وفلسطين، ولقد نزحت عائلاتهم في نهايات القرن الـ19 الميلادي ومطع القرن العشرين هرباً من الاضطهاد الذي كانوا يعانون منه تحت السيطرة العثمانية، وسعياً وراء سبل الرزق التي كانت تضيق في بلادهم. وما زال هؤلاء إلى اليوم يُعرفون بلقب «الأتراك» Turcos لكونهم وصلوا تلك البلاد حاملين وثائق سفر تركية إبان العهد العثماني.
ومنذ بداية تلك الهجرة، كانت البرازيل الوجهة الرئيسية التي قصدها أبناء بلاد الشام الذين يقدَّر عدد المتحدرين منهم هناك بما يزيد على 12 مليون نسمة، منهم حوالي تسعة ملايين من أصول لبنانية. وتأتي الأرجنتين في المرتبة الثانية حيث يشكّل المتحدرون من أصول عربية ما يقارب 10 في المائة من مجموع سكانها، ثم تشيلي التي كانت الوجهة المفضّلة للمهاجرين من فلسطين... وبالذات من رام الله وبيت لحم والقدس.
ورغم بروز العديد من أبناء الجاليات العربية في أميركا اللاتينية في عالم التجارة والاقتصاد، وتأثيرهم المباشر على نموّ المبادلات التجارية بين بلدان المنطقة والعالم العربي التي بلغت في بعض الحالات مثل البرازيل 12 في المائة من إجمالي حركة الاستيراد والتصدير، فإنهم برزوا أيضاً في المعترك السياسي، حيث يشكل الآن انتخاب أبي ناضر رئيساً للدومينيكان فرصة جديدة لتعزيز العلاقات بين أميركا اللاتينية والعالم العربي.
وحقاً، لعب كثرة من اللاتينيين العرب أدواراً مؤثرة وتولوا مناصب سياسية ودبلوماسية مرموقة، ووصل عدد كبير منهم إلى سدّة الرئاسة في أكثر من بلد على امتداد القارة من الدومينيكان إلى الأرجنتين جنوباً.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.