«10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»

ترجمة عربية لرواية أليف شافاك الجديدة

أليف شافاك
أليف شافاك
TT

«10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»

أليف شافاك
أليف شافاك

تصدر بعد أيام قليلة عن دار الآداب اللبنانية ترجمة لرواية جديدة للروائية التركية أليف شافاك. تحمل عنوان «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»، وهو الوقت الذي سيبقى فيه عقل ليلى المتوفاة يعمل، لا بل ويعمل بحيوية فائقة، بعد أن فارقت الحياة، أو هكذا يفترض.
لن تتذكر ليلى في هذه اللحظات الثمينة التي أهديت لها، أموراً كبيرة بالمعنى الدنيوي، إنما دقائق الأمور وصغائرها، وأكثرها حسية، مثل رائحة القهوة، وطعم لحم الماعز ونكهة التوابل.
الكتاب من ترجمة محمد درويش وهنا مطلع الرواية التي خصت بها دار الآداب «الشرق الأوسط»:
كان اسمُها ليلى، ليلى التكيلا هو الاسم الذي اشتُهرتْ به بين أصدقائها وزبائنها. كانوا ينادونها بليلى التكيلا في العمل وفي البيت؛ البيت الذي كان لونُه بلون الخشب الورديّ، ويقعُ في طريقٍ مسدودٍ مرصوفٍ بالحجارة عند رصيف المرفأ، ما بين كنيسة وهيكلٍ يهوديّ، وسط دكاكين تبيع المصابيحَ والكباب، في الشارع الذي يضمّ بين جوانبه أقدمَ المواخير المجازة في إسطنبول.
لكنْ، إنْ قُدِّر لها أن تسمعَكَ وأنت تتفوَّه باسمها على ذلك النحو، فقد تشعرُ بالإهانة، ثمّ تقذفكَ مازحة بفردة حذاءٍ من أحذيتها ذات الكعب العالي المستدقّ.
- الآن، يا عزيزي، لا في الماضي. اسمي الآن ليلى التكيلا.
لم تكن لتوافق، ولو مرَّة واحدة في ألف سنة، على أن يكون الكلامُ عليها بصيغة الماضي. إنّ مجرّد التَّفكير في ذلك يُشْعرها بالضَّعَة والانهزام، وهذا آخر ما تريد أن تشعر به في هذا العالم. لا، بل ستُصرّ على استعمال صيغة الحاضر، وإنْ باتت تدرك إدراكاً يبعثُ الكآبة في نفسها أنَّ قلبها قد توقَّف عن الخفقان قبل قليل، وأنَّ أنفاسها انقطعَتْ على حين غرَّة، وأنْ لا فائدة من إنكار وفاتها، بصرف النَّظر عن زاوية النَّظر إلى حالتها.
لم يدرِ أحدٌ من أصدقائها بالأمر بعدُ. فَهُمْ، في هذا الوقت المبكِّر من الصباح، غارقون في النوم، وكلٌّ منهم يحاول أن يجد وسيلة يَخرج بها من متاهة أحلامه. تمنَّت ليلى لو كانت في البيت أيضاً، مدثَّرة بالأغطية الدافئة، وقطُّها يجثم عند قدمَيْها والنعاسُ يُغالبه. كان القطّ مصاباً بالصَّمم التامّ، وكان ذا لون أسود باستثناء بقعة بيضاء على إحدى كفَّيْه. أسمَتهُ «السيِّد تشاپلن» تيمُّناً بتشارلي تشاپلن، لأنَّه كان يعيش في عالم صامتٍ خاصٍّ به، على غرار أبطال السينما في بداياتها.
كانت ليلى لتَهَبَ أي شيء لقاء وجودها في شقَّتها الآن. إلَّا أنَّها راقدة هنا، في منطقة من ضواحي إسطنبول، على الجهة الأخرى من ساحة كرة قدم مظلمة ورطبة، وداخل حاوية نفايات معدنيَّة ذات مقابض مكسوَّة بالصدأ وبِقشيْرات الطِّلاء. كانت حاوية ذات عجلات، ويبلغ ارتفاعُها أربعَ أقدام على الأقلّ، وعرضُها قدماً واحدة. أمَّا ليلى، فطولها خمسُ أقدام وسبعُ بوصات، ويُضاف إليها ثماني بوصات أخرى، هي مقدارُ ارتفاع حذائها المستدَقّ الأرجواني الذي ما يزال في قدميْها.
ثمَّة أشياء كثيرة كانت ترغب في معرفتها. لذا لبثتْ تفكِّر في اللَّحظات الأخيرة من حياتها، وتطرح على نفسها سؤالاً عن الخطأ الذي حدث، وكان هذا التَّفكيرُ تمريناً عبثيّاً ما دام يَصْعب فكُّ ألغاز الزمن، وكأنَّه كرة من الغَزْل.
كان لونُ بشرتها قد أخذ يتحوَّل إلى الأبيض الرَّماديّ، رغم أنَّ خلاياها لا تزال مُفعمة بالنشاط. ولم تستطع منعَ نفسها من أن تلاحظ اختلاجَ أشياء كثيرة داخل أعضائها وأطرافها. لطالما افترضَ الناسُ أنَّ جسدَ الميِّت لم يَعُد أكثرَ حياة من شجرة مقتلعة أو قرمة جوفاءَ مُجرّدة من الوعي. لكنْ لو تسنّى لليلى نصفُ فرصة، لأقسمَتْ على النقيض من ذلك: بأنَّ الجثّة مُفعمة بالحياة.
لم تكن قادرة على تصديق أنَّ وجودها الفاني قد انتهى إلى غير رجعة. فقبل يومٍ واحدٍ لا غير، كانت قد مرَّت بحي پيرا، وكان ظلُّها ينسابُ على امتداد الشوارع التي أُطلق عليها أسماءُ القادة العسكريين والأبطال القوميين. وفي ذلك الأسبوع بعينه، تردَّد صدى ضحكاتها في خانات غالاتا وكورتولوش ذاتِ السقوف الواطئة، وأوكارِ توفاني الصَّغيرة الخانقة، التي لا يظهر أي منها في دليل المسافرين أو على الخرائط السياحيَّة. إنَّ إسطنبول التي عرفتْها ليلى ليست إسطنبولَ التي تريد وزارة السياحة أن يراها الأجانب.
كانت في اللَّيلة الماضية قد تركَتْ بصماتِ أصابعها على كأس ويسكي، فضلاً عن أثرٍ من عطرها، المعروف بعلامة بالوما پيكاسو، وكان قد قدَّمه إليها بعضُ أصدقائها بمناسبة عيد ميلادها ـ على وشاحٍ من حرير، قذفتْ به جانبا فوق سرير أحد الغرباء في جناحٍ في الطابق العلوي من أحد الفنادق الفخمة. وفي السَّماء العالية، كان هلالُ الأمس واضحاً منيراً يتعذَّر الوصولُ إليه، مثل أثرٍ باقٍ من ذاكرة سعيدة. كانت لا تزال جزءاً من هذا العالم، وكانت الحياة لا تزال في أعماقها، فكيف يمكن أن تكون قد رحلتْ؟ كيف يمكن أن ينتهي وجودُها وكأنَّها حلمٌ تلاشى مع انبلاج أوَّلِ تباشيرِ الفجر؟ قبل بضع ساعات، كانت تغنِّي وتدخِّن وتسبّ وتفكِّر... حسناً، إنَّها لا تزال تفكِّر في هذه اللَّحظة. والمدهش في الأمر أنَّ عقلها كان يعمل بكلِّ قوَّته، وإنْ لم يكن أحدٌ يدري إلى متى سيظلّ كذلك! تمنَّت لو كان في وسعها أن تعودَ وتخبرَ الجميعَ بأنَّ الموتى لا يموتون من فورهم، وأنَّ في مستطاعهم مواصلة التَّفكير في الأشياء، بما فيها موتُهم. ثمّ قلّبتْ في الأمر مليّاً، وأدركتْ أنَّ الناس سيصابون بالرُّعب والهلع إنْ هُم عرفوا ذلك. من المؤكَّد أنّ هذا ما سيصيبها أيضاً لو كانت حيّة وعلمتْ بالأمر... لكنّها شعرَتْ أنَّ من المهمّ أن يعرفوا.
بدا لليلى أنّ البشر يكشفون عن نفادٍ بالغ في الصبر حينما يتعلّق الأمر بالمراحل الفاصلة في حياتهم. فهم، أوَّلاً، يفترضون أنَّ الإنسان يصبح على نحو تلقائي زوجاً أو زوجة في اللَّحظة التي يتفوَّه فيها بكلمة «أوافق». بَيْدَ أنَّ الحقيقة هي أنَّ الزواج يتطلَّب سنواتٍ طويلة كي يدرك كلٌّ منهما كيف يكون زوجاً. وعلى نحوٍ مشابهٍ، يتوقَّع المجتمع أن تَدْخل غرائزُ الأمومة، أو الأبوّة، حيَّز العمل حالما يُرزق المرءُ بطفل. والحقّ أنَّ المرءَ قد يصرف وقتاً طويلاً حتَّى يتبيّنَ كيف يصبح أباً، أو جدّاً. كذلك الأمر بخصوص التقاعد والشيخوخة، إذ كيف يمكنك أن تُكيِّفَ نفسَكَ حالما تغادر الدَّائرة التي أَفنيْتَ فيها نصفَ عمرك وبدَّدتَ معظمَ أحلامك؟ ليس هذا سهلاً. كانت ليلى تعرف معلِّمين مُتقاعدين يستيقظون في السَّابعة صباحاً، ويستحمُّون ويرتدون ثياباً أنيقة، ثمَّ يتهالكون من وراء طاولة الفطور، ليتذكَّروا بعدئذٍ أنّهُ لم يعد لديهم عمل؛ هؤلاء كانوا لا يزالون قيد التكيّف.
لعلَّ الأمر لا يختلف كثيراً حين يخصّ الموتَ. فالناس يعتقدون أنَّ المرء يتحوَّل إلى جثَّة ميِّتة ما إنْ يلفظ آخر أنفاسه. بَيْد أنَّ الأمور ليست كذلك تماماً. فكما أنَّ هنالك درجاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصى بين الأسود الفاحم والأبيض الناصع، فإنَّ هناك أيضاً مراحلَ متعدِّدة لِما يُسمَّى «الرَّاحة الأبديَّة». فلو كان هناك حدّ يَفْصل بين عالم الحياة وعالم الآخرة، فلا بدَّ من أن يكون هذا الحدُّ قابلاً للنفاد، شأنه في ذلك شأن حجرٍ رمليّ. هذا ما توصَّلتْ إليه ليلى.
كانت في انتظار شروق الشمس؛ فمن المؤكَّد أنَّ شخصاً ما سيَعْثر عليها ويخرجها من هذه الحاوية القذرة. لم تتوقَّع أن تَصْرف السُّلطاتُ وقتاً طويلاً للتَّعرُّف إلى هويَّتها. كلُّ ما يتعيَّن على هذه السُّلطات عملُه هو تحديدُ ملفِّها. فعلى مدى سنين طويلة، خضعَتْ للتَّفتيش والتَّصوير وطبعِ بصمات الأصابع، فضلاً عن الاعتقال مرَّاتٍ كثيرة، لدرجة أنّه لم يَعْنِها عددُها. لمخافر الشرطة في الشوارع الخلفيَّة رائحة مميّزة: منفضاتُ سجائر مملوءة بأعقاب من الأمس، وبقايا قهوة في فناجين مثلومة، وأنفاسٌ نتنة، وخِرَقٌ مبلَّلة، ورائحة فاسدة منبعثة من مباول لا تستطيع أي مادة أن تُزيلها. يتشاركُ الضبَّاطُ والجُناة غُرفاً ضيّقة ومُكتظّة. ولطالما أدهشَ ليلى أن تتساقط خلايا الجلد الميّتة لرجال الشرطة والمجرمين على الأرضيَّة نفسها، ثمّ يزدردها عثُّ الغبار نفسُه، من دون تمييزٍ أو تَحيُّز. وعلى مستوى لا تراه أعيُنُ البشر، تجد الأضدادَ وقد امتزجتْ بطرقٍ تفوق أي توقُّعات.
وفكَّرتْ ليلى أنَّ السُّلطات سوف تُبلغ أُسرتَها بعد أن تتعرَّف إلى هويَّتها. كان أبواها يقطنان في مدينة ڤان التاريخيَّة، التي تَبعد عنها ألفَ ميل. لكنّها لم تتوقَّع منهما الحضورَ ونقلَ جثَّتها، لأنَّها أخذتْ في الحسبان أنَّهما قد نبذاها منذ زمن طويل: «لقد ألحقتِ بنا الخِزي والعار، وصرنا حديثَ الجميع من وراء ظهورنا».
ولهذا، فإنَّ على الشرطة أن تذهب إلى أصدقائها عوضاً من ذلك؛ أصدقاؤها الخمسة: سِنان المُخرِّب، ونالان الحنون، وجميلة، وزينب 122، وحُميْرة هوليوود.
لم يراود ليلى التكيلا أي شكٍّ في أنَّ أصدقاءها سوف يَحْضرون إليها بأسرع ما يستطيعون. كانت تتخيَّلهم وهم يُقْبلون نحوها، بخطواتٍ متعجِّلة ولكنَّها متردِّدة، وعيونٍ ملأى بالصدمة، وأسى لا يزال في أطواره الأولى، وحزنٍ جديدٍ لم يستقرّ عميقاً بعد. انتابها شعور سيِّئ لأنّها ستضطرُّ إلى وضعهم في هذا العذاب المؤلم على ما يبدو. لكنّ عزاءها أنّهم لا بدّ من أن ينظّموا لها جنازة رائعة. كافور وبخور وموسيقى وزهور، وبخاصَّة زهور الورد الحُمْر المتوهِّجة، والصُّفر البرَّاقة، والحمر القانية. زهور كلاسيكيّة، وسرمديّة، لا تُضاهى. زهور التوليب الرَّفيعة الشأن أكثر مما ينبغي، والنرجس الرقيق على نحوٍ مبالَغٍ فيه، والزنابقُ، تتسبب لها الزنابقُ بالعطاس. لكنّ الورودَ مثاليَّة، مزيج من فتنة شبقيّة وأشواكٍ حادَّة.
رويداً رويداً، لاحت تباشيرُ الفجر. خطوطٌ من الألوان - القرنفلي الضّارب إلى الصُّفرة، والبرتقالي بلون شراب المارتيني، والفراولة بلون شراب المارغريتا، والأسود البارد - تنسكبُ فوق الأفق، من الشرق إلى الغرب. وفي غضونِ ثوانٍ قليلة، أخذتْ أصداءُ الأذان تتردَّدُ من المساجد القريبة، من غير أي تزامنٍ بينها. وفي مكان بعيد، أعلنَ البوسفور عن استيقاظِه من نومه الفيروزيّ، مُطلِقاً تثاؤباً عظيماً. وعاد أدراجه إلى المرفأ قاربُ صيدٍ، وهو ينفث دخانَ محرِّكه. وتدحرجتْ موجة عالية على مهلٍ باتِّجاه الجزء المطلّ على الشاطئ. كانت المنطقة، ذات يوم، تنعم ببساتين الزيتون والتين، إلى أن جرفتها الجرّاراتُ لفسح الطريق أمام أبنية جديدة ومرائِبِ سيَّارات. وفي مكانٍ ما، تحت أجنحة الظلام الذي لا يزال يُرخي سدوله، تعالى نباحُ كلبٍ بدافع إحساسه بالواجب أكثر من شعوره بالانفعال والإثارة. وعلى مقربة من المكان، سقسق عصفورٌ سقسقة جريئة وعالية، فردَّ عليه آخر، لكنّه لم يكن ردّاً بهيجاً بهجة العصفور الأوَّل. إنَّها جوقة الفجر. وبات في ميسور ليلى أن تسمع دمدمة شاحنة خدمة التَّوصيل على الطريق المليئة بالحُفر، وهي تصطدم بحفرة تلو حفرة. وعمَّا قريب سيصمّ الأذنَ ضجيجُ وسائل المواصلات المبكِّرة في ذلك الصباح. حياة في أوجِ طاقتها.
عندما كانت ليلى التكيلا حيّة، كان غالباً ما يتملَّكها العجب، والقلقُ أحياناً، من الأشخاص الذين يتفكّرون بهوسٍ في نهاية العالم. كيف بمقدور العقول التي تبدو سليمة أن تستنزفَ نفسَها إلى هذا الحدّ بكلِّ هذه السيناريوهات الحمقاء عن الكويْكبات والكُرات الناريَّة والمذنَّبات التي ستوقِعُ الخرابَ على كوكب الأرض؟ وبالنسبة إلى ليلى، ليست نهاية العالم أسوأ ما يُمكن أن يحدث. وأمَّا احتمالُ فناء الحضارة، الفوري والمطلق، فإنَّه لا يبعث فيها نصفَ الذُّعر الذي تتسبب به فكرة بسيطة: ليس لموتنا الفردي أي تأثير في نظام الأشياء، وستواصل الحياة مسيرتَها كالسَّابق، بوجودنا أو من دوننا. هذا ما كان يفزعُ ليلى شديدَ الفزع.
غيَّر النسيمُ من وجهته ضارباً في طريقه ساحة كرة القدم. ثمَّ شاهدتهم: أربعة صبيان في سنّ المراهقة يفتِّشون في وقت مبكِّر في النفايات، يدفع اثنان منهم عربة مملوءة بالزجاجات البلاستيكيَّة والعلَب التالفة، بينما يسيرُ الثالث، ذو الكتفَيْن المترهِّلَتَيْن والركبَتَيْن الملتويَتَيْن، إلى الوراء حاملاً كيساً قذراً وملوَّثاً وثقيلاً إلى أبعد الحدود. وأمَّا الرَّابع، فكان واضحاً أنَّه زعيمهم، إذ سار في المقدِّمة، مختالاً، ومنتفخاً مثل ديكٍ صغير السنّ في حالة عراك. كان الأربعة يتَّجهون نحوها، ويمزحون هازلين.
استمرُّوا في السَّير.
توقَّفوا عند حاوية نفايات في الجهة الأخرى من الطريق، وراحوا يفتِّشون فيها: زجاجات شامبو، وعلب عصير ولبن، وصناديق بيض... كانوا يلتقطون كلّاً من هذه الكنوز، ويضعونه على ظهر العربة، بحركاتٍ سريعة تنمّ عن خبرة ومهارة. عثر أحدهم على قبَّعة جلديَّة قديمة، فضحك وهو يعتمرها، وسار بخطواتٍ مبالَغٍ فيها، واضعاً يديْه في جيبي بنطاله الخلفيين، مقلِّداً بذلك أحدَ أفراد العصابات الذي لا بدّ من أن يكون قد رآه في فيلم ما. وعلى الفور، خطف الزعيمُ القبَّعة، ووضعها على رأسه. لم يعترض أحد. وبعد أن حملوا من حاوية النفايات ما حملوه من حاجيَّات، استعدُّوا للذهاب. ولخيبة أمل ليلى، ظهر أنَّ الصِّبْية قد استداروا للسَّيْر في الاتِّجاه المعاكس.
- هه! إنَّني هنا.
وكأنّ الزعيم سمع استغاثة ليلى، فرفع رأسه ببطءٍ باتِّجاه الشمس التي كسرتْ عينه، وراح من تحت انكشاف الضوء يتفحّص المكان حوله، وجال ببصره في الحاوية إلى أن لمحها، فرفع حاجبيْه، وارتعشت شفتاه قليلاً.
ـ أرجوكَ، لا تهرب.
لم يهرب، ولكنَّه نطق بصوتٍ خافتٍ شيئاً للآخرين، فراحوا يحدِّقون فيها، وعلى وجوههم أماراتُ الذهول نفسها. أدركتْ ليلى حداثة أعمارهم؛ كانوا لا يزالون فتياناً، هؤلاء الصبيان الذين يتظاهرون بأنَّهم رجال.
تقدَّم زعيمُهم خطوة صغيرة إلى الأمام، ثمَّ خطوة أخرى. سار في اتِّجاهها كما يقترب فأرٌ من تفَّاحة سقطتْ من مكانٍ ما، قَلِقاً وهيَّاباً، ولكنْ سريعَ الحركة ومصمما أيضاً. اكفهرَّ وجهُه حين ازداد قرباً ورأى ما هي عليه.
- لا تخف.
صار الآن بجانبها، قريباً بحيث تمكَّنتْ من ملاحظة بياض عينَيْه المتَّقدتَيْن احمراراً والضاربتَيْن إلى الصُّفرة. أدركتْ أنَّه كان يشمّ الصمغَ، هذا الصبي الذي لا يتجاوز الخامسة عشرة، وكان من شأن إسطنبول أن تتظاهرَ بالتَّرحيب به وإيوائه، قبل أن ترميَه جانباً وكأنّه لعبة قماشيّة بالية، في وقتٍ لم يتوقَّعه إلَّا قليلاً.
- اتَّصِلْ بالشرطة، يا بنيَّ. اتَّصلْ بالشرطة كي يتمكَّنوا من إبلاغ أصدقائي.
ألقى نظرة سريعة، يميناً وشمالاً، ليطمئنَّ إلى خلوِّ المكان من أي مراقِبٍ أو أي كاميرات مراقبة في الجِوار. تقدَّم ومدَّ يَده إلى قلادة عنق ليلى، علبة صغيرة ذهبيَّة، وفي وسطها زمرُّدة متناهية الصغر. وفي حيطة وحذرٍ شديدَيْن، كأنَّه يخشى أن تنفجر في كفِّه، لمسَ القلادة، وشعر ببرودة معدنها المريح. ثمَّ فتح العلبة، فوجد صورة داخلها، فما كان منه إلَّا أن أمسكَها، وراح يتفحَّصها برهة وجيزة. فاستدلَّ على المرأة، وإنْ كانت أصغرَ سنّاً منها؛ أمَّا الرجل، فكان ذا عينَيْن خضراوَيْن، افترَّ ثغرُه عن ابتسامة مهذَّبة، وشعرٍ طويل مصفَّف على نحوٍ يعود إلى زمنٍ آخر. بدت أماراتُ السَّعادة على وجهَيْهما؛ فهما عاشقان، مغرمٌ أحدهما بالآخر.
على ظهر الصُّورة، كتابة تقول: «د/ علي وأنا...... ربيع سنة 1976».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.