سجون طرابلس... مقار للمنسيين وبقايا نظام القذافي

ضمت آلاف المعتقلين... بينهم السنوسي ومنصور والساعدي

لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
TT

سجون طرابلس... مقار للمنسيين وبقايا نظام القذافي

لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)

قبل 24 عاماً، اقتحمت مجموعة من القوات الخاصة غالبية زنازين سجن «أبو سليم»، بضواحي العاصمة الليبية طرابلس، التي كانت تضم حينها 1269 معارضاً لنظام العقيد معمر القذافي، وفتحت النيران عليهم فأردتهم قتلى، في قضية شهيرة ظلت متداولة في المحاكم الليبية إلى أن أُغلقت منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
غير أن الجريمة التي روعت الليبيين، وشغلتهم منذ ارتكابها في التاسع والعشرين من يونيو (حزيران) عام 1996، تظل واحدة من جرائم القتل الجماعي الكاشفة لما يجري داخل ردهات وزنازين سجون ومعتقلات طرابلس، قديماً وحديثاً، قبل إسقاط نظام القذافي وبعده.
ورصدت الأمم المتحدة، في تقرير قدمته إلى مجلس الأمن الدولي، احتجاز آلاف المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، في مرافق تخضع اسمياً لسيطرة وزارتي الداخلية والدفاع التابعتين لحكومة «الوفاق»، بزعامة فائز السراج، أو في مرافق تديرها مباشرة جماعات مسلحة، و«لم تتح لهؤلاء المحتجزين فرصة للطعن في مشروعية احتجازهم، أو التماس الإنصاف عن الانتهاكات التي تعرضوا لها».
وبالتبعية، كما تبدل الحال، عقب رحيل النظام السابق قبل 9 أعوام، تغيرت الأوضاع داخل تلك السجون بمجيء نظام «ثورة 17 فبراير (شباط)»، فأصبحت تضم بعضاً من «المتهمين بجرائم تعذيب» في الماضي من أنصار القذافي، لكنها في ظل الفوضى الأمنية والعسكرية، ومع توسيع نفوذ الأفراد والمدن والقبائل، اتسعت رقعتها وتمددت، فأصبح القائمون عليها في كثير من الأوقات بمثابة «القاضي والسجان»، بل إن بعضهم اتخذ لنفسه سجوناً خاصة.
ويُنظر إلى هذه السجون والمعتقلات، وفقاً لروايات من دخلوها وعايشوها، على أنها «عالم سري مخيف، ليس لتنفيذ محكومية محددة بحكم قضائي مُعلن، بقدر ما هي غياهب يُلقى فيها من يُراد له الاختفاء، مؤقتاً أو بشكل دائم». ويرى رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية»، جمال الفلاح، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، أن «السجون السرية أو الخاضعة للمجموعات المسلحة هي معتقلات، ولا تخضع لسلطة الدولة، سواء الأجهزة الأمنية أو القضائية، ومن يديرها الميليشيات المسلحة، إذ تمتلك كل مجموعة سجنها الخاص، ومنها ما هو سري، ومكانه غير معلوم إلى الآن».
وذهب الفلاح الذي ينتمي إلى مدينة بنغازي (شرق البلاد) إلى أن «هذه المجموعات هي من تمارس صلاحية الضبط القضائي، وهي القاضي أيضاً، بحيث أصبح كل آمر مجموعة يمتلك سجناً يُلقي القبض على من يشاء من مواطنين أو يُطلق سراحهم، من دون أي سند قانوني».

«الرويمي» الأشد قسوة

والسجون في غرب ليبيا أنواع، لكل منها اسم رسمي وآخر غير رسمي، ويعد أشدها قسوة سجن عين زارة (الرويمي) بجناحيه، أو سجن عين زارة السياسي (البركة) للإصلاح والتأهيل، ويقع في ضواحي جنوب شرقي طرابلس. وترصد منظمات حقوقية أنه منذ إسقاط القذافي في عام 2011، يشهد هذا السجن انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وتديره وتسيره الميلشيات المسلحة كيفما تشاء، رغم تبعيته اسمياً لوزارة العدل بحكومة «الوفاق».
والرويمي بشقيه يضم قرابة ألفي سجين موقوفين على ذمة قضايا سياسية وعسكرية، لكنه في نظر منظمات حقوقية ودولية، من بينها «هيومان رايتس ووتش»، شهد على مدار السنوات التسع الماضية عمليات تعذيب واعتقالات تعسفية مطولة، أشهرها ما رصدته المنظمة، وتحدثت عنه أطراف محلية، في أغسطس (آب) 2013، عندما شهد تمرداً من المعتقلين والمساجين، تنديداً بتعرضهم للعنف المفرط بهدف إجبارهم على إنهاء الإضراب. وفي هذه الحادثة، وفقاً لشهادات حقوقيين وأُسر المعتقلين «أصيب عدد من السجناء بإطلاق الرصاص الحي بشكل مباشر من قبل الحراس».
وتعرض سجن عين زارة «الرويمي» لقصف صاروخي في الثالث والعشرين من مارس (آذار) 2020، مما دفع وزارة العدل بحكومة «الوفاق» إلى مناشدة المجتمع الدولي التدخل الفوري لإيقاف قصفه، بعدما قالت إنه أسفر عن إصابة 3 من العاملين على الأقل.
وحملت سلطات «الوفاق» المسؤولية القانونية والأخلاقية لـ«القوات المعتدية على العاصمة»، في إشارة إلى «الجيش الوطني الليبي»، بقيادة المشير خليفة حفتر، محذرة من «وقوع كارثة إنسانية إذا لم يتوقف الاستهداف المباشر للمؤسسة ومحيطها».
وعلى مدار السنوات الماضية، والأنباء الكاشفة لما يجرى في ردهات وزنازين «الرويمي» بشقيه مُروعة، فضلاً عن التقارير التي أعلنت عنها منظمة «ضحايا» الليبية لحقوق الإنسان، خلال العامين الماضيين، من «تعرض كثير من السجناء به إلى أمراض فتاكة سارية، إلى جانب إصابة ما يزيد على 10 في المائة من النزلاء بالدرن».
وتحدث الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن «تسجيل انتشار الأمراض بين السجناء، وخاصة الأمراض المعدية والسارية، مثل داء السل والجرب، وفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، والتهاب الكبد، بزيادة كبيرة»، و«عملت البعثة مع وزارة العدل لدعم تحسين الرعاية الطبية للسجناء».
ورصد غوتيريش، في التقرير الذي قدمه إلى مجلس الأمن منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أنه خلال الفترة المشمولة بالتقرير، كان نحو 8500 شخص محتجزين في 28 سجناً رسمياً تشرف عليها وزارة العدل، وكان نحو 60 في المائة من هؤلاء رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة، كما بلغ مجموع النساء المحتجزات 280 امرأة، منهن 180 من غير الليبيات، وكان 109 من الأطفال بين المحتجزين في السجون، أو لدى الشرطة القضائية.

تصفية معتقلين

والجريمة التي لا تقل بشاعة عما سبق، وفقاً لرئيس قسم التحقيقات بمكتب النائب العام الصديق الصور، تمثلت في «تصفية 12 معتقلاً عقب صدور حكم قضائي بالإفراج عنهم من سجن الرويمي، منتصف يونيو (حزيران) 2016». وحينها، وجهت جهات ومنظمات ليبية عدة اتهامات إلى الميليشيات بقتل الشباب الذين ينتمون إلى منطقة وادي الربيع. وكالعادة، لم تدافع تلك الميليشيات عن نفسها، بل زادت من حشر المواطنين في السجون.
وقال الصور، في تصريحات صحافية سابقة، إن السجناء كانوا متهمين في القضية التي اتهمت فيها مجموعة من أعضاء ما كان يسمى إبان النظام السابق «فريق العمل الثوري»، وقتل فيها متظاهرون يومي 19 و20 من فبراير 2011. وأضاف الصور أن عدداً من ذوي ضحايا المتظاهرين في أثناء الثورة، أقاموا دعوى قضائية تتهم مجموعة من «فريق العمل الثوري» بقتل وتعذيب أبنائهم. وبعد استيفاء التحقيق من مكتب المحامي العام في طرابلس، أحيل المتهمون إلى محكمة الجنايات بتهمة القتل والانتماء إلى تشكيل عصابي.
وذكر الصور أنه صدر حكم بالإفراج عن 19 سجيناً، قائلاً: «غادر السجناء السجن مع عائلاتهم، وفق سجل بلاغات السجن. وبعدها، فوجئنا بالعثور على 12 جثة من السجناء المفرج عنهم».
غير أن الخبير في «مركز الخبرة القضائية والبحوث»، التابع لوزارة العدل في الحكومة المؤقتة (شرق ليبيا)، وسام الورفلي، أرجع تزايد هذه الانتهاكات في السجون إلى «إخفاق الحكومات المتعاقبة بعد عام 2011 في التصدي لها». وتذكر الورفلي، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، جانباً من أحداث السنوات التسع الماضية، قائلاً إن «مجموعات مسلحة عدة تكونت في تلك الفترة لمواجهة حكم القذافي، فسيطرت على الأرض، وتوسعت بشكل ملحوظ، وبالتالي أصبح الاعتقال التعسفي لفترات طويلة سمة مميزة في ليبيا». وشرح أن «هذه المجموعات كانت تحتجز حتى من تشتبه بتعاطفه مع نظام القذافي في ثكنات عسكرية أو مزارع أو حتى منازل».
و«الرويمي» ليس وحده في اعتماد القسوة وتعذيب المعتقلين، فهناك معتقلات عدة خارجة على القانون كان يوارى فيها كثير من السياسيين والمعارضين فترات زمنية طويلة، لعل منها سجن «الهضبة» الذي كان يضم قيادات من النظام السابق، مثل البغدادي المحمودي آخر رئيس وزراء في عهد القذافي، وأبو زيد دوردة رئيس جهاز الأمن الخارجي، وعبد الله السنوسي الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، وعبد الله منصور المدير الأسبق للأمن الداخلي، والساعدي القذافي نجل الرئيس الراحل، قبل أن يتم اقتحامه في اشتباكات بين الميليشيات في 2017، ما اضطر حكومة «الوفاق» إلى إغلاقه، ونقل جميع نزلائه إلى «الرويمي».
وأطلقت سلطات طرابلس سراح دوردة والمحمودي، وقيادات عدة من النظام السابق، العام الماضي، عقب 8 سنوات من الاعتقال. وفي أول ظهور علني له، أطل دوردة من على إحدى شاشات الفضائيات في الخامس من يناير (كانون الثاني) الماضي، ليؤكد دعمه لـ«الجيش الوطني»، ويحذر من «مخططات تركيا وتنظيم الإخوان في ليبيا والمنطقة».

إخفاء الخصوم

وتشهد طرابلس عمليات خطف وإخفاء واسعة لسياسيين وقضاة وصحافيين وإعلاميين ومواطنين، لعل أشهرها ما تم مع رئيس الوزراء الليبي السابق علي زيدان في أثناء وجوده بأحد الفنادق بالعاصمة، في 13 أغسطس (آب) 2017، عندما دهمت ميليشيات مسلحة كانت تستقل سيارات دفع رباعي فندق «الشرق»، واقتادوا الرجل الذي كان يبلغ حينها 67 عاماً، إلى وجهة سرية لعشرة أيام، حتى توسط لديها السراج، ونجح في إطلاق سراحه.
وسبق لزيدان الذي تولى رئاسة وزراء ليبيا من 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 إلى 11 مارس (آذار) 2014، أن خُطف عندما كان بالمنصب في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، على أيدي ميليشيات «غرفة عمليات ثوار ليبيا»، لكن تم تحريره بعد ساعات.
ورغم أن حكومة «الوفاق» تقول إنها تفرض سيطرتها على جميع السجون، فإن حقوقيين يرون أن «معتقلات طرابلس باتت مقار لمن يريدون نسيانه، أو الإبقاء عليه مدى الحياة وراء القضبان، لكون وجوده في الحياة العامة يتعارض مع توجهات الميليشيات».
لكن مسؤولاً في إحدى هذه الميليشيات دافع عنها في مواجهة تحميلها مسؤولية إخفاء معارضيها قسراً في غرب البلاد. وأقر في حديث إلى «الشرق الأوسط»، شرط عدم ذكر اسمه، بـ«وجود مجموعات مسلحة تمتهن خطف وابتزاز المواطنين»، لكنه قال إن «هؤلاء يمارسون أعمالاً يعاقب عليها القانون، لكننا سلطة تنفيذ للقانون، بحكم أننا لدينا شرعية، ونتبع وزارة الداخلية».
واستغرب مستشار الشؤون الخارجية لرئيس المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية، خالد الغويل، الإبقاء على بعض قيادات النظام السابق في المعتقلات، بعد حصولهم على أحكام بالبراءة.
وقال الغويل إن «القضاء يبرئ عبد الله منصور والساعدي القذافي وعبد الله السنوسي، ولم يتم الإفراج عنهم إلى الآن». وأرجع الإبقاء عليهم إلى أن «القضاء ليست في يده السلطة، بقدر ما هي في قبضة عصابات مارقة خارجة على القانون... يوجد كثير من معتقلي الرأي في السجون منذ سنوات، ولم يعرضوا أمام القضاء».

تجاوزات خلف القضبان

وكان مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد رصد مخالفات قانونية وإنسانية عدة، في تقرير سابق جاء تحت عنوان «تجاوزات خلف القضبان»، وقال إنه «لا تتوافر أرقام دقيقة عن عدد المحتجزين، ومراكز الاحتجاز الموجودة في ليبيا. كما أنه لا توجد إحصاءات بشأن مراكز الاحتجاز التابعة شكلياً لوزارتي الداخلية والدفاع، ولا تلك التي تديرها المجموعات المسلحة مباشرة».
ولفت التقرير إلى أن «هناك عدداً من مراكز الاحتجاز العاملة الخاضعة لسيطرة الدولة بمستويات مختلفة»، وصنفها إلى مراكز الاحتجاز الخاضعة شكلياً لسيطرة المؤسسات الوطنية، غير أنها تخضع لسيطرة جزئية أو كاملة للمجموعات المسلحة، والتي كانت تديرها قبل دمجها شكلياً في الوزارات المعنية، وتشمل: سجون الشرطة القضائية التابعة لوزارة العدل، والمستخدمة في احتجاز فئات مختلفة من المعتقلين، بمن فيهم المتهمون أو المدانون بارتكاب جرائم عادية، فضلاً عن المحتجزين «لأسباب ذات صلة بالنزاع»، والمحتجزين لأسباب أمنية أو سياسية.
والمراكز التابعة لوزارة الداخلية، مثل مركز الاحتجاز التابع لـ«قوة الردع الخاصة» في معيتيقة، ومركز الاحتجاز التابع للأمن المركزي في أبو سليم، يقتضي القانون أن يتم احتجاز المعتقلين فيها لفترات قصيرة فقط. غير أن فترات الاعتقال تمتد في الواقع لفترات مطولة، بجانب السجون التابعة لوزارة الدفاع، مثل سجن «السكت» في مصراتة، المستخدم لاحتجاز العسكريين وكذلك المدنيين المسلوبة حريتهم لأسباب ذات صلة بالنزاع أو الأمن القومي.
وتحدث رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية» إلى «الشرق الأوسط» عن سلطة الميليشيات وحريتها فيما تقرره. وقال الفلاح إن «هناك مجموعة منها تعتقل المواطنين أو السياسيين وتخفيهم في سجون سرية، ولكل من هذه المجموعة أماكن تسيطر عليها وتتحكم فيها، سواء من ناحية القبض أو الانتشار داخلها»، وأضاف: «للأسف، حتى وزارة الداخلية بحكومة (الوفاق) ليست لها السيطرة على هذه المجموعات، وكذلك القضاء، وهناك عدد من الأوامر التي أصدرها النائب العام بالقبض على أفراد من هذه المجموعات المسلحة، ولم يستطع أحد القبض عليهم أو الاقتراب منهم، وطبعاً لن يسلموا أنفسهم بمحض إرادتهم».
ما ذهب إليه الفلاح، لفت إليه التقرير الأممي، متحدثاً عن وجود مراكز احتجاز تخضع للسيطرة المباشرة من المجموعات المسلحة، ولا ترتبط بأي صلة رسمية بمؤسسات الدولة «وإن كانت تبدو في بعض الحالات تعمل بمعرفتها، إن لم تكن بموافقتها ضمنياً... ويتم نقل المحتجزين فيها بشكل دوري إلى مراكز احتجاز رسمية، ومن بينها مراكز مؤقتة دشنتها في ثكنات ومنازل ومزارع ومبان مهجورة».
و«قوة الردع الخاصة» الخاضعة اسمياً لسلطة وزارة الداخلية بـ«الوفاق» تدير واحداً من أكبر مراكز الاحتجاز في مدينة طرابلس في قاعدة «معيتيقة الجوية»، بحسب التقرير الأممي الذي يفيد بأن العدد الدقيق من المحتجزين هناك غير معروف. ورغم الطلبات المتكررة، لم يسمح لقسم حقوق الإنسان بالبعثة الأممية بزيارة السجن سوى مرة واحدة في مايو (أيار) 2016. كما لم يسمح للفريق بمقابلة المحتجزين على انفراد. ووفقاً للإحصائيات التي قدمتها «قوة الردع الخاصة» إلى قسم حقوق الإنسان في أثناء الزيارة، يقبع في «معيتيقة» 1500 معتقل من الذكور، ومائتان من الإناث، بمن فيهم الأطفال.

تعذيب ممنهج

وتشير إفادات الشهود وتقارير الطب الشرعي والتقارير الطبية، فضلاً عن الصور التي جمعها قسم حقوق الإنسان بالبعثة، إلى الطابع الممنهج للتعذيب وسوء المعاملة في مراكز الاحتجاز في جميع أنحاء ليبيا. وقالت الغالبية الساحقة من المحتجزين السابقين الذين قابلهم موظفو قسم حقوق الإنسان إنهم «يتعرضون إما للتعذيب المباشر أو سوء المعاملة، أو شهدوا تعرض آخرين لذلك»، حسب زعمهم.
ويتعرض المعتقلون لأسباب أمنية أو «لأسباب ذات صلة بالنزاع» للتعذيب، ولا سيما في الفترة الأولى من احتجازهم، وفي أثناء الاستجواب. ويبدو أنهم عادة ما يتعرضون للتعذيب بهدف انتزاع «اعترافات» أو معلومات أخرى، ومعاقبتهم على ارتكاب جرائم مزعومة، ولإذلالهم أو إهانتهم. وفي بعض الحالات، أفاد المحتجزون السابقون بأنهم نقلوا من مكان احتجازهم الاعتيادي إلى مراكز أخرى لاستجوابهم وتعذيبهم، حسب زعمهم.
وقالوا إن من بين أساليب التعذيب الأكثر شيوعاً وتوثيقاً الضرب على الرأس والجسم بأدوات مختلفة، بما في ذلك القضبان المعدنية وأنابيب المياه وأعقاب البنادق والجلد على باطن القدمين (الأسلوب المعروف بالفلقة) والركل واللكم، والتعليق وإبقائهم في أوضاع مجهدة لفترات طويلة من الزمن والصعق الكهربائي والحرق بالسجائر أو القضبان الساخنة والسحب من اللحى.
وهنا، يلفت الفلاح إلى أن أكثر من محكمة ليبية أصدرت أحكاماً بالإفراج عن سجناء وبرأتهم، إلا أن المجموعات المسلحة لم تستجب لكونها تقبض بيد من حديد على إدارة السجون، وقال: «هذا دليل قاطع على أن هذه المجموعات لديها السيطرة التامة الكاملة على هذه السجون (المعلنة)، أما السرية منها، فإنها إلى هذه اللحظة غير معلومة، ولا يُعرف من يديرها، وهناك المئات من المختفين قسراً لم يُستدل على أماكنهم إلى الآن... لكن في بعض المرات كان يتم الإفراج عن بعض المختفين بوساطة من الأعيان والحكماء عن طريق العرف، أو بالمفاوضات مثل من كانوا في سجن الكلية العسكرية بمصراتة، أو من كانوا لدى (قوة الردع) في طرابلس، في أوقات سابقة».
وتطرق الورفلي، الخبير القضائي، إلى عمليات التفاوض التي جرت بواسطة الحكومات المتعاقبة لإدماج هذه المجموعات المسلحة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، وذهب إلى أن ذلك «تم من دون التدقيق لضمان استبعاد من لديهم سجلات بارتكاب جرائم سابقة... وتم تغيير أسماء هذه المجموعات المسلحة بأكملها بعد شرعنتها، ومنحها وضعاً رسمياً داخل المؤسسات». ونوه الورفلي بأن هذه الشرعنة «مكنت هذه المجموعات من ممارسة أعمالها بعيداً عن رقابة الدولة، إضافة إلى تخصيص رواتب لها، وتزويدها بالأسلحة والآليات، مما عزز من سلطاتها وجنبها العقاب».
وانتهى إلى أنه على مدار السنوات الأربع الماضية، رصد كثير من المنظمات والمؤسسات والأفراد المعنيين بمجال حقوق الإنسان على الصعيد المحلي والدولي «مدى استفحال هذه الجرائم والانتهاكات المتزايدة التي ترقى إلى جرائم ضد الإنسان، وما خفي كان أعظم».
وأمام جملة هذه المخالفات المتراكمة في عموم سجون الغرب الليبي، ضمن الأمين العام للأمم المتحدة، في تقريره، مجموعة من التوصيات، وقال: «يساورني بالغ القلق لأن الجماعات المسلحة في أنحاء البلاد، بما فيها التابعة للدولة، تضع الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في الاحتجاز التعسفي غير المشروع لفترات طويلة، وتخضعهم للتعذيب وغيره من الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الإنسان»، داعياً إلى «الإفراج الفوري غير المشروط عن المحتجزين تعسفياً، أو المحرومين من حريتهم بصورة غير مشروعة، وإلى نقلهم إلى مرافق الاحتجاز الرسمية، ومعاملتهم وفقاً للقانون والمعايير الدولية».
وتقول السلطات الأمنية في طرابلس إنها أفرجت عن قرابة ألفي سجين على خلفية جائحة {كورونا}.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.