روسيا تتمدد في الجوار الشرق أوسطيhttps://aawsat.com/home/article/2384056/%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D9%85%D8%AF%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7%D9%8A
الشرطة العسكرية الروسية قرب القامشلي بريف الحسكة شمال شرقي سوريا في مايو الماضي (أ.ف.ب)
كيفما أدرت نظرك سوف تجد ظلاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. هو موجود في قلب النزاع السوري، حليفاً لبشار الأسد، وممسكاً بمفتاح الحل، وبالعقود الموعودة لإعادة الإعمار. وبصماته واضحة في الصراع الليبي؛ حيث فرض نفسه على طاولة أي حوار ينهي الصراع، ويفتح باب الاستثمارات في النفط، وفي الشراكة في حماية أمن المتوسط.
وبوتين القادم من الاستخبارات ومن إقامة طويلة في برلين أيام الانقسام والجدار، يدرك أهمية الصراع بين القطبين اللذين كانا يتقاسمان النفوذ في ذلك الزمن، وأهمية استرجاع الدور الروسي على الساحة الدولية، ولو بأسلحة وأدوات مختلفة عن أدوات الماضي.
يتقن بوتين جيداً أساليب التدخل في العملية السياسية في دول الغرب. هو الذي خبرها جيداً وكانت من صلب مهماته. السفارات الروسية مسرح مباح لهذا التدخل، ولاستقطاب المعارضين، ودفع الأموال.
والاتهامات لا تتوقف حول دور موسكو في المشاركة في الدعم والتقرب من الذين قادوا ونظموا حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. الاتهامات ذاتها مستمرة بشأن دور موسكو في دعم حملة ترمب الرئاسية سنة 2016، واختراق حملة الحزب الديمقراطي.
هنا في صفحة «قضايا» عرض للدور الروسي في المنطقة العربية، من خلال إحياء «صراع القطبين» وتمدد هذا الدور في مختلف الأزمات، إضافة إلى الاتهامات بالتدخل الروسي المستمر من خلال حملات استقطاب الناخب الغربي.
عقب التوتر الشديد بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، بدأت روسيا في توجيه سياستها الخارجية لفضاءات أرحب، وبرزت دوائر أخرى كمحور ارتكاز للحركة الروسية وشمل ذلك الفضاء السوفياتي السابق، والعمق الآسيوي، والتخوم الشرق أوسطية إلى جانب أميركا اللاتينية وأفريقيا، وفي كل هذه الدوائر تقود المصالح بشقيها الاقتصادي والاستراتيجي التوجهات الروسية. في هذا السياق يشهد الشرق الأوسط والمنطقة العربية من الخليج إلى المحيط اهتماماً متزايدًا من جانب موسكو. وقد أكدت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمملكة العربية السعودية والإمارات، يومي 14 و15 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، الانطلاقة الجديدة للعلاقات الروسية الخليجية، وكونها توجها ثابتا وخيارا استراتيجيا في السياسة الروسية، سبق ذلك توقيع اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا ومصر» في أكتوبر 2018، والتي تكفل إطاراً منظماً يضمن شراكة استراتيجية مستقرة ومتنامية بين البلدين في مختلف المجالات.
وتظل سوريا ركيزة الاستراتيجية الروسية في المنطقة، ورغم ما تداولته بعض الصحف ووسائل الإعلام من أنباء حول توتر العلاقات الروسية السورية، فإن هذا لم يكن سوى إعادة ترتيب وصياغة لأطر هذه العلاقة في فترة ما بعد المعارك الكبرى والاستعداد لإعادة الإعمار، ويتضمن ذلك ليس فقط العلاقة بين البلدين ولكن حدود الأدوار الأخرى للشركاء والمنافسين الدوليين والإقليميين. وقد أكدت قمة الثلاثي الضامن في سوريا، روسيا وإيران وتركيا، في الأول من يوليو (تموز) استمرار تفاهمات أستانة بين الدول الثلاث والتي تعطي لروسيا اليد الطولى في الملف السوري مع اعترافها بمصالح الدول الأخرى في حدود معينة، كما كانت رسالة واضحة بأن روسيا لن تسمح للدول الغربية بعرقلة الحصاد الروسي في سوريا من خلال عقوبات «قانون قيصر» أو غيره، أو القفز على مكتسبات إعادة الإعمار في سوريا، ولم يكن مصادفة عقد قمة الثلاثي الضامن في اليوم التالي لمؤتمر بروكسل للدول المانحة لسوريا.
لقد تراجعت المعارك العسكرية لتبدأ المعارك الاقتصادية، وتسعى روسيا لتأكيد كونها البوابة لمن يرغب في الحصول على حصة في ثمار إعادة الإعمار في سوريا، وكما قادت المعارك العسكرية ستقود إعادة البناء وتطبيع وضع سوريا الدولي والإقليمي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
ورغم التباعد الجغرافي فإن الملفين السوري والليبي مرتبطان، من وجهة النظر الروسية، وذلك من عدة زوايا. أولها، أن الوجود العسكري الروسي في سوريا يحتاج إلى حاضنة آمنة في البحر المتوسط تعزز السيطرة والحضور الروسي فيه، وتعد ليبيا نقطة ارتكاز مثالية في هذا الصدد خاصة أن اتفاق نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 بشأن الاستخدام المتبادل للمجال الجوي والبنية التحتية الخاصة بالمطارات بين مصر وروسيا لمكافحة الإرهاب لا يحقق الأهداف الروسية بالكامل والتي تتجاوز الأهداف الأمنية والاستراتيجية المباشرة إلى تلك المتعلقة بأسواق الطاقة.
إن روسيا قد لا تريد الهيمنة على النفط الليبي، فهي ثاني أكبر مصدر للنفط والسابع للغاز، وتقوم سياسة الطاقة الروسية على الشراكة وليس فرض السيطرة، أي أن تكون روسيا شريكاً في أي مشروعات لنقل الطاقة إلى أوروبا على النحو الذي يضمن ألا تكون هذه الإمدادات منافسة ومؤثرة على حصة روسيا الحالية والمستقبلية في السوق الأوروبية، التي تعتبر أكبر وأهم الأسواق لتصريف الطاقة الروسية، وتأمل موسكو في زيادة حصتها فيها مع افتتاح «السيل الشمالي 2» (نورد ستريم 2) لشمال أوروبا والسيل التركي لجنوبها. يزيد من أهمية ذلك الصعوبات التي تواجه سوق النفط حيث يتوجب على روسيا بموجب اتفاق «أوبك+» خفض إنتاجها حتى يوليو الحالي بمقدار 2.5 مليون برميل يوميا، وهو أمر موجع اقتصاديا لها خاصة مع التدهور في أسعار النفط، وقد يتم مد الخفض لنهاية العام إذا لم يستعد الطلب على النفط قوته. في هذا السياق فإن روسيا مهتمة بالهلال النفطي في ليبيا وأن يكون تحت سيطرة قوة صديقة، والحيلولة دون استنزاف تركيا للنفط الليبي والإضرار بالأسعار والأسواق كما فعلت بالنفط السوري من قبل، مع الأخذ في الاعتبار ضخامة الثروات النفطية الليبية مقارنة بنظيرتها السورية وكون ليبيا عضواً مؤثراً في منظمة أوبك والأقرب من الأسواق الأوروبية.
الزاوية الثانية في ترابط الملفين السوري والليبي: أن نقل الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا لا ينهي التهديد الذي تمثله هذه العناصر على أمن روسيا والمنطقة من وجهة النظر الروسية ولكن يعيد تموضعه، كما أنه يجعل المكتسبات التي تحققت في سوريا مهددة بانتكاسة، وقد حذرت القيادة الروسية في أكثر من مناسبة من الخطر الذي يمثله نقل أعداد متزايدة من الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا، ودعت إلى التعاون الدولي للقضاء التام على الإرهاب.
وأخيراً، إن كسر شوكة تركيا في ليبيا يساعد في توجيه الضربة القاضية لها في سوريا والتخلص نهائياً من معضلة إدلب، «الجرح المتقيح»، على حد تعبير وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، فرغم التفاهمات الروسية التركية فإن التحركات التركية ما زالت تمثل تهديداً للمصالح والأمن الروسي في أكثر من موضع، فهي تفاهمات تكتيكية لتجنب صدامات كبرى مباشرة بين الطرفين وليست توافقات استراتيجية بينهما.
لقد تقدمت ليبيا كثيراً في أولويات روسيا الشرق أوسطية ولكن التعامل الروسي معها ما زال حذراً نظراً لتعقد خريطة القوى الداخلية والإقليمية والدولية فيها، والرغبة في عدم الإضرار بالعلاقة مع إيطاليا التي تمثل شريكاً أوروبياً مهماً لروسيا، وحليفاً أساسياً لحكومة السراج. وتتركز الحركة الروسية في دعم المشير حفتر، عسكرياً وسياسياً، باعتباره القوة التي تحارب الإرهاب على الأرض، وتضمن تأمين استمرار السيطرة على الهلال النفطي. ويعتبر تشكيل جبهة دولية إقليمية داعمة للمشير حفتر في المحافل الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي تضم إلى جانب روسيا، فرنسا ومصر والإمارات وغيرها من القوى المعنية بالملف الليبي، حجر زاوية في السياسة الروسية لموازنة الضغوطات التي تمارسها تركيا ومن ورائها واشنطن. كما أن من الملاحظ طرح الملفين الليبي والسوري معاً في أي تفاهمات روسية تركية حتى تنتبه الأخيرة لمصالح روسيا وكونها حاضرة بقوة في ليبيا.
في ضوء هذه المعطيات، أصبح الحضور الروسي في ليبيا أقوى وأوضح من ذي قبل. ربما لن ترسل موسكو قوات نظامية أو تقوم بضربات جوية مباشرة كما فعلت في سوريا، لأنها تدرك أن الجيش الوطني الليبي قادر على إدارة المعارك مع بعض الدعم الضروري سياسياً وعسكرياً وهو ما تقوم به روسيا بشكل مباشر أو عبر قنوات غير مباشرة، في سيناريو يختلف في آلياته عن سوريا ولكنه يقترب من الأهداف نفسها من حيث الحفاظ على وحدة ليبيا والقضاء التام على الإرهاب فيها والاحتفاظ بنفوذ قوي لموسكو قد يصل لقواعد عسكرية ضامنة لمصالح الطرفين.
- أستاذة العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية.
الليبرالية في الألفيّة الثالثةhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5096166-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A9
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.
وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.
أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.
لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.
هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.
بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.
مخلفات الأرخبيل الماركسي
لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.
أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.
إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.
ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.
وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».
هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.
إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.
معركة ضد المسخ
قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.
يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».
على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟
هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.
السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».
توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.
حرية على مشارف الاحتضار
هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.
في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.
نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.
التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.
كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.
ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟
التسامح والتعددية والقانون
إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:
1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.
2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.
لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.
الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.
يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع
من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.
لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.
أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».