قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
TT

قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)

تتلاحق التهم التي تلاحق بها أجهزة استخبارات الغرب ووسائل إعلامه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتلتقي هذه التهم مع مخاوف قادة غربيين من تعزيز بوتين قبضته على الكرملين لسنوات طويلة مقبلة. مرة يُتهم بوتين بأنه يتدخل في انتخابات البيت الأبيض، ومرة بأنه حقق انتصاراً على الاتحاد الأوروبي عندما دعم فريق بريطانيا الساعي إلى الخروج. وكانت السفارة الروسية في لندن شريكة في حملة أنصار «بريكست». وفي مرة ثالثة مؤخراً عندما ذكرت تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية أن بوتين دفع أموالاً لعناصر مرتبطة بحركة «طالبان» لقتل جنود أميركيين وبريطانيين في أفغانستان.
وتذكر معلومات رسمية أميركية تم تداولها مع مسؤولين بريطانيين، أن «الوحدة رقم 29155» في وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، هي التي وعدت بدفع الأموال لـ«طالبان». والمثير أن هذه الوحدة هي نفسها التي قام عنصران منها بمحاولة قتل المعارض الروسي سيرغي سكريبال (الذي كان ضابطاً سابقاً في الاستخبارات العسكرية)، بغاز «نوفيتشوك» السام مع ابنته في مدينة سالزبوري البريطانية في مارس (آذار) 2018. ورغم احتجاج رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في ذلك الحين، وإقرار حزمة عقوبات بريطانية على روسيا، كان نفي بوتين قاطعاً: «لا علاقة لنا بالأمر».
وكما في كل مرة عندما يتعلق الأمر بالتدخل الروسي في الشأن الأميركي، تجد إدارة دونالد ترمب نفسها في مواجهة انتقادات التغطية على هذا التدخل. في قضية دفع أموال لـ«طالبان»، قال المنتقدون إن تقرير الاستخبارات الأميركية الذي يتهم بوتين كان موجوداً على مكتب ترمب قبل خمسة أشهر من كشف صحيفة «نيويورك تايمز» عنه في الشهر الماضي؛ لكن لم يُعر أحد في المكتب البيضاوي الأمر اهتماماً، إما لأن ترمب لا يريد إغضاب بوتين في فترة تسبق الانتخابات الرئاسية، وإما لأن معلومات خطيرة بحجم قيام عناصر من «طالبان» بقتل جنود أميركيين ستحبط خطة ترمب لإبرام اتفاق مع هذه الحركة.
في كل الأحوال يمضي فلاديمير بوتين في طريقه حاكماً مطلقاً لروسيا، ليدخل التاريخ منافساً للإمبراطورة كاترين الثانية التي حكمت روسيا 34 سنة (من 1762 إلى 1796) بينما سيتيح التعديل الدستوري الأخير لبوتين أن يتجاوزها بسنتين، إذا بقي متربعاً على عرش الكرملين إلى عام 2036 (أطال الله أعماركم) عندما يكون قد بلغ الرابعة والثمانين ويكون قد بقي في الحكم 36 سنة، متنقلاً بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، وحاكماً فعلياً في كل الأحوال.
قال بوتين للروس عندما طلب منهم تعديل الدستور: «نحن لا نصوت على هذه التعديلات باعتبارها قواعد قانونية فقط؛ نحن نصوت من أجل البلد الذي نريد أن نعيش فيه والذي نريد توريثه لأولادنا وأحفادنا». إنه الشعور الذي يسيطر على بوتين منذ توليه قيادة روسيا: أن تلك البلاد سوف تصبح يتيمة، وسوف تعود إلى فترة الضعف التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي عندما يغيب هو عن المسرح.
هذا الشعور هو الذي يدفع بوتين إلى فرض هيمنة كاملة على مراكز القرار في الداخل، وقمع أي معارضة يمكن أن تظهر في وجهه؛ لكنه يدفعه أيضاً إلى محاولة اختراق مركز القرار في الدول الغربية، واستغلال اللعبة الديمقراطية فيها لخدمة المصالح الروسية.
في كتاب مهم بعنوان «رجال بوتين: كيف استعاد (الكا جي بي) روسيا وانطلق إلى الغرب»، للصحافية كاثرين بيلتون التي غطت شؤون روسيا لسنوات طويلة كمراسلة لصحيفة «الفايننشيال تايمز» وأقامت شبكة علاقات مع مسؤولين في الكرملين ودبلوماسيين روس وعناصر في الاستخبارات، تروي قصة صعود بوتين، وكيف شكَّل شبكة من الضباط السابقين في جهاز الاستخبارات (كا جي بي)؛ عرفت باسم «سيلوفيكي» للتمهيد لتوليه الحكم أولاً كرئيس للوزراء في آخر أيام الرئيس السابق بوريس يلتسين، ثم كخليفة ليلتسين بعدما استقال الأخير عام 2000. هذه الشبكة هي التي تربط عناصرها عقيدة مشتركة تهدف إلى استعادة قوة ونفوذ الإمبراطورية الروسية، وشعور مشترك بأن الغرب يسعى باستمرار إلى محاربة دور روسيا حول العالم. وجاءت الثورتان في جورجيا وأوكرانيا سنتي 2004 و2005 لتعززا مخاوف بوتين من أن الغرب يعمل على الانقلاب على سلطته، ومن هنا كان الرد الاستثنائي بالتدخل العسكري في شرقي أوكرانيا، واحتلال شبه جزيرة القرم الذي نفذه رغم معارضة واسعة من المجتمع الدولي.
تروي كاثرين بيلتون أيضاً كيف يعمد نظام بوتين إلى دفع أموال لأحزاب غربية تتبنى أفكاراً متطرفة؛ سواء كانت يمينية أو يسارية، مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا، وحركة «النجوم الخمس» في إيطاليا، وحزب «جوبيك» اليميني العنصري في هنغاريا، وجماعة «بريكست» في بريطانيا. وما يجمع هذه الأحزاب والحركات هو عداؤها للاتحاد الأوروبي ولحلف الأطلسي. وبالطبع فمصلحة روسيا واضحة في إضعاف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعدما فتحا الباب لدول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا) للانضمام إليهما. هذه الخطوة ضاعفت قلق السياسيين الروس وأجهزة استخباراتهم من التقدم الغربي إلى حدود «الإمبراطورية الروسية».
وكرد على ذلك، تجمع تقارير أجهزة الاستخبارات الغربية، الأميركية والبريطانية خصوصاً، على محاولات التدخل الروسي في عمليات تبادل السلطة في الأنظمة الأوروبية، وهو ما عجز عنه الاتحاد السوفياتي في عز نفوذه، ورغم اتساع شبكة الأحزاب الشيوعية في الدول الأوروبية آنذاك، وعلى الأخص في إيطاليا وفرنسا.
من أبرز التقارير ما سربته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) عن دور الكرملين في دعم حملة ترمب للفوز بالرئاسة سنة 2016، وهو المعروف بعدائه لنفوذ وتلاحم الاتحاد الأوروبي، وانتقاداته الدائمة لحلف الأطلسي. وفي بريطانيا كانت شهادة كريستوفر ستيل الذي كان يعمل في الجهاز الخارجي للاستخبارات البريطانية (MI6) أمام لجنة الأمن والاستخبارات في مجلس العموم البريطاني فاضحة؛ عندما تناول فيها دور روسيا في دعم رئاسة ترمب، وكذلك دعم حملة بوريس جونسون وأعوانه لكسب الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي جرى سنة 2016. أعدت تلك اللجنة على أثر ذلك تقريراً يتناول الدور الروسي، وصار جاهزاً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ لكن جونسون رفض الكشف عنه، كي لا يؤثر - كما يقول معارضوه - على نتائج الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها بأكثرية كبيرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ولا يزال هذا التقرير نائماً في أدراج «10 داوننغ ستريت» إلى اليوم.
من بين ما كشفت عنه شهادة كريستوفر ستيل، أن السفير الروسي في لندن ألكسندر ياكوفنكو (غادر لندن في العام الماضي بعدما عمل فيها سفيراً لثماني سنوات) شكل مجموعة من أعضاء حزب المحافظين أطلق عليها «أصدقاء روسيا في حزب المحافظين»، وضمت عدداً من النافذين في الحزب الداعمين للخروج من الاتحاد الأوروبي، وكانت من بينهم كاري سيمونز صديقة بوريس جونسون ووالدة طفله الأخير، ونايجل فاراج أبرز رموز حركة «vote leave» الذي كان رأس الحربة في حملة «بريكست».
«حرب» مفتوحة على النفوذ والمصالح بين روسيا والغرب، ليس فيها ما يشبه صراع العقائد الذي كان قائماً في زمن الاتحاد السوفياتي. في هذه «الحرب» تشكل قبضة بوتين القوية الممسكة بالداخل الروسي، سياسةً واقتصاداً، السلاح الأقوى في وجه غرب مفكك وعاجز عن رسم سياسة موحدة تواجه تلك القبضة.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.