قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
TT

قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)

تتلاحق التهم التي تلاحق بها أجهزة استخبارات الغرب ووسائل إعلامه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتلتقي هذه التهم مع مخاوف قادة غربيين من تعزيز بوتين قبضته على الكرملين لسنوات طويلة مقبلة. مرة يُتهم بوتين بأنه يتدخل في انتخابات البيت الأبيض، ومرة بأنه حقق انتصاراً على الاتحاد الأوروبي عندما دعم فريق بريطانيا الساعي إلى الخروج. وكانت السفارة الروسية في لندن شريكة في حملة أنصار «بريكست». وفي مرة ثالثة مؤخراً عندما ذكرت تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية أن بوتين دفع أموالاً لعناصر مرتبطة بحركة «طالبان» لقتل جنود أميركيين وبريطانيين في أفغانستان.
وتذكر معلومات رسمية أميركية تم تداولها مع مسؤولين بريطانيين، أن «الوحدة رقم 29155» في وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، هي التي وعدت بدفع الأموال لـ«طالبان». والمثير أن هذه الوحدة هي نفسها التي قام عنصران منها بمحاولة قتل المعارض الروسي سيرغي سكريبال (الذي كان ضابطاً سابقاً في الاستخبارات العسكرية)، بغاز «نوفيتشوك» السام مع ابنته في مدينة سالزبوري البريطانية في مارس (آذار) 2018. ورغم احتجاج رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في ذلك الحين، وإقرار حزمة عقوبات بريطانية على روسيا، كان نفي بوتين قاطعاً: «لا علاقة لنا بالأمر».
وكما في كل مرة عندما يتعلق الأمر بالتدخل الروسي في الشأن الأميركي، تجد إدارة دونالد ترمب نفسها في مواجهة انتقادات التغطية على هذا التدخل. في قضية دفع أموال لـ«طالبان»، قال المنتقدون إن تقرير الاستخبارات الأميركية الذي يتهم بوتين كان موجوداً على مكتب ترمب قبل خمسة أشهر من كشف صحيفة «نيويورك تايمز» عنه في الشهر الماضي؛ لكن لم يُعر أحد في المكتب البيضاوي الأمر اهتماماً، إما لأن ترمب لا يريد إغضاب بوتين في فترة تسبق الانتخابات الرئاسية، وإما لأن معلومات خطيرة بحجم قيام عناصر من «طالبان» بقتل جنود أميركيين ستحبط خطة ترمب لإبرام اتفاق مع هذه الحركة.
في كل الأحوال يمضي فلاديمير بوتين في طريقه حاكماً مطلقاً لروسيا، ليدخل التاريخ منافساً للإمبراطورة كاترين الثانية التي حكمت روسيا 34 سنة (من 1762 إلى 1796) بينما سيتيح التعديل الدستوري الأخير لبوتين أن يتجاوزها بسنتين، إذا بقي متربعاً على عرش الكرملين إلى عام 2036 (أطال الله أعماركم) عندما يكون قد بلغ الرابعة والثمانين ويكون قد بقي في الحكم 36 سنة، متنقلاً بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، وحاكماً فعلياً في كل الأحوال.
قال بوتين للروس عندما طلب منهم تعديل الدستور: «نحن لا نصوت على هذه التعديلات باعتبارها قواعد قانونية فقط؛ نحن نصوت من أجل البلد الذي نريد أن نعيش فيه والذي نريد توريثه لأولادنا وأحفادنا». إنه الشعور الذي يسيطر على بوتين منذ توليه قيادة روسيا: أن تلك البلاد سوف تصبح يتيمة، وسوف تعود إلى فترة الضعف التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي عندما يغيب هو عن المسرح.
هذا الشعور هو الذي يدفع بوتين إلى فرض هيمنة كاملة على مراكز القرار في الداخل، وقمع أي معارضة يمكن أن تظهر في وجهه؛ لكنه يدفعه أيضاً إلى محاولة اختراق مركز القرار في الدول الغربية، واستغلال اللعبة الديمقراطية فيها لخدمة المصالح الروسية.
في كتاب مهم بعنوان «رجال بوتين: كيف استعاد (الكا جي بي) روسيا وانطلق إلى الغرب»، للصحافية كاثرين بيلتون التي غطت شؤون روسيا لسنوات طويلة كمراسلة لصحيفة «الفايننشيال تايمز» وأقامت شبكة علاقات مع مسؤولين في الكرملين ودبلوماسيين روس وعناصر في الاستخبارات، تروي قصة صعود بوتين، وكيف شكَّل شبكة من الضباط السابقين في جهاز الاستخبارات (كا جي بي)؛ عرفت باسم «سيلوفيكي» للتمهيد لتوليه الحكم أولاً كرئيس للوزراء في آخر أيام الرئيس السابق بوريس يلتسين، ثم كخليفة ليلتسين بعدما استقال الأخير عام 2000. هذه الشبكة هي التي تربط عناصرها عقيدة مشتركة تهدف إلى استعادة قوة ونفوذ الإمبراطورية الروسية، وشعور مشترك بأن الغرب يسعى باستمرار إلى محاربة دور روسيا حول العالم. وجاءت الثورتان في جورجيا وأوكرانيا سنتي 2004 و2005 لتعززا مخاوف بوتين من أن الغرب يعمل على الانقلاب على سلطته، ومن هنا كان الرد الاستثنائي بالتدخل العسكري في شرقي أوكرانيا، واحتلال شبه جزيرة القرم الذي نفذه رغم معارضة واسعة من المجتمع الدولي.
تروي كاثرين بيلتون أيضاً كيف يعمد نظام بوتين إلى دفع أموال لأحزاب غربية تتبنى أفكاراً متطرفة؛ سواء كانت يمينية أو يسارية، مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا، وحركة «النجوم الخمس» في إيطاليا، وحزب «جوبيك» اليميني العنصري في هنغاريا، وجماعة «بريكست» في بريطانيا. وما يجمع هذه الأحزاب والحركات هو عداؤها للاتحاد الأوروبي ولحلف الأطلسي. وبالطبع فمصلحة روسيا واضحة في إضعاف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعدما فتحا الباب لدول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا) للانضمام إليهما. هذه الخطوة ضاعفت قلق السياسيين الروس وأجهزة استخباراتهم من التقدم الغربي إلى حدود «الإمبراطورية الروسية».
وكرد على ذلك، تجمع تقارير أجهزة الاستخبارات الغربية، الأميركية والبريطانية خصوصاً، على محاولات التدخل الروسي في عمليات تبادل السلطة في الأنظمة الأوروبية، وهو ما عجز عنه الاتحاد السوفياتي في عز نفوذه، ورغم اتساع شبكة الأحزاب الشيوعية في الدول الأوروبية آنذاك، وعلى الأخص في إيطاليا وفرنسا.
من أبرز التقارير ما سربته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) عن دور الكرملين في دعم حملة ترمب للفوز بالرئاسة سنة 2016، وهو المعروف بعدائه لنفوذ وتلاحم الاتحاد الأوروبي، وانتقاداته الدائمة لحلف الأطلسي. وفي بريطانيا كانت شهادة كريستوفر ستيل الذي كان يعمل في الجهاز الخارجي للاستخبارات البريطانية (MI6) أمام لجنة الأمن والاستخبارات في مجلس العموم البريطاني فاضحة؛ عندما تناول فيها دور روسيا في دعم رئاسة ترمب، وكذلك دعم حملة بوريس جونسون وأعوانه لكسب الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي جرى سنة 2016. أعدت تلك اللجنة على أثر ذلك تقريراً يتناول الدور الروسي، وصار جاهزاً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ لكن جونسون رفض الكشف عنه، كي لا يؤثر - كما يقول معارضوه - على نتائج الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها بأكثرية كبيرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ولا يزال هذا التقرير نائماً في أدراج «10 داوننغ ستريت» إلى اليوم.
من بين ما كشفت عنه شهادة كريستوفر ستيل، أن السفير الروسي في لندن ألكسندر ياكوفنكو (غادر لندن في العام الماضي بعدما عمل فيها سفيراً لثماني سنوات) شكل مجموعة من أعضاء حزب المحافظين أطلق عليها «أصدقاء روسيا في حزب المحافظين»، وضمت عدداً من النافذين في الحزب الداعمين للخروج من الاتحاد الأوروبي، وكانت من بينهم كاري سيمونز صديقة بوريس جونسون ووالدة طفله الأخير، ونايجل فاراج أبرز رموز حركة «vote leave» الذي كان رأس الحربة في حملة «بريكست».
«حرب» مفتوحة على النفوذ والمصالح بين روسيا والغرب، ليس فيها ما يشبه صراع العقائد الذي كان قائماً في زمن الاتحاد السوفياتي. في هذه «الحرب» تشكل قبضة بوتين القوية الممسكة بالداخل الروسي، سياسةً واقتصاداً، السلاح الأقوى في وجه غرب مفكك وعاجز عن رسم سياسة موحدة تواجه تلك القبضة.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري