في فرن العم «أبو حسيب»... رائحة طيبة وذكريات فلسطينية أصيلة

أُنشئ قبل 55 سنة في مخيمٍ للاجئين يقع جنوب قطاع غزة

يعمل العم سامي في فرن والده أبو حسيب على إعداد الفطائر والأطعمة (الشرق الأوسط)
يعمل العم سامي في فرن والده أبو حسيب على إعداد الفطائر والأطعمة (الشرق الأوسط)
TT

في فرن العم «أبو حسيب»... رائحة طيبة وذكريات فلسطينية أصيلة

يعمل العم سامي في فرن والده أبو حسيب على إعداد الفطائر والأطعمة (الشرق الأوسط)
يعمل العم سامي في فرن والده أبو حسيب على إعداد الفطائر والأطعمة (الشرق الأوسط)

حملت السيدة أم محمود «صينية البطاطس والدجاج» التي انتهت من تحضيرها وتزيينها للتو، داخل مطبخ منزلها الواقع بمخيم الشابورة للاجئين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، وانطلقت نحو «فرن أبو حسيب»، الذي يملكه الخمسيني سامي أبو عودة منذ عشرات السنين، وبمجرد وصولها لهناك، ألقت التحية على الرجل، وسألته عن الوقت الذي يحتاجه لطهو «الصينية» وتحميرها على نار الفرن، التي تُكسبها طعماً رائعاً، فرد عليها قائلاً: «نص ساعة فقط»، فأجابته بابتسامة: «تمام».
وقفت السيدة لدقائق تراقب تحركات الرجل السريعة، فتارة يكون تركيزه لجوف الفرن، حيث طعام الزبائن وأرغفة الخبز، وفي أخرى يذهب للزيادة من قوة النار عبر إضافة الحطب والزيت، ثمّ يسترق أقل من دقيقة يمسح فيها عرق جبينه، ويعود من جديد بابتسامة، وهو يردد مقاطع من بعض الأغنيات التي تُسليه، في عمله الشاق.
ومنذ عمر الـ15 سنة، بدأ العم سامي، العمل في الفرن التراثي الذي أسسه والده قبل أكثر من 55 سنة وسمّاه بنفس كنيته «أبو حسيب»، وكان وقتذاك من أكثر الأماكن أهمية بالنسبة للسكان اللاجئين، الذين كانوا يقصدونه لطهو طعامهم، ولتوفير الكثير من احتياجاتهم، ويقول أبو عودة لـ«الشرق الأوسط»: «لي مع الفرن ذكريات كثيرة، لا يمكن أن أتخيل نسيانها ممكن في يومٍ ما، ففيه قضيت أوقاتاً، أكثر من تلك التي عشتها في منزلي».
الفرن المُشكل من كتلٍ حجرية وطينية، يعمل على النار بشكلٍ أساسي، ويُشعل باستخدام حطب الأشجار والأوراق، إضافة لما يُعرف محلياً بـ«الزيت المحروق»، وهو مادة بترولية قابلة للاشتعال لفترة طويلة، وتُعطي لهباً عالٍ جداً، ويلفت خلال حديثه إلى أنّ تطور الحياة، وافتتاح الكثير من المخابز الحديثة، لم يؤثر كثيراً على عمله، فالمواطنون كما يشير، ترّبوا على الطعم الأصيل والتراثي الذي ينتجه فرنه.
ويعمل أبو عودة أمام فرنه بدقة شديدة، ولا يغيب انتباهه أبداً طوال الساعات، التي يقضيها متسمراً أمام لهيب الفرن، ويردف بقوله: «صحيح أنّ التطور التكنولوجي، دفع الناس نحو شراء الأفران الجاهزة التي تعمل على الغاز والكهرباء، إلا أن إقبالهم على الفرن، لا يزال معقولاً، وهذا يزيد من حافزي للاستمرار بالعمل، حتى آخر لحظات عمري»، موضحاً أن فرنه يعتبر من بين الأقدم الموجودة في قطاع غزة، التي تعمل بذات الطريقة.
وتحمل نساء المخيم الذي يسكنه العم سامي، أصناف الطعام المختلفة والمخبوزات إليه، في ساعات ما قبل الظهر، لتكون جاهزة على موعد وجبة الغداء تماماً، كما يوضح، مشيراً إلى أنّ ما يصله بالأساس هي أرغفة الخبز البيتية، وصواني البطاطا واللحوم والملوخية وغيرها، إضافة لعدد من أصناف المعجنات، وفطائر السبانخ، وفي المواسم يصل له الكعك والمعمول المنزلي، والكثير من «صواني» الحلويات. وفيما يتعلق بالثمن المادي، الذي يحصله من الزبائن، يذكر أبو حسيب، أنه متواضع جداً، فأجرة طهو وجبة الطعام تتراوح بين 3 و10 شواكل (الدولار 3.4 شيكل تقريباً)، مبيّناً أنّ الأسعار تعتبر مناسبة جداً للناس، ولم يلحظ في حياته تذمراً منها، «لأن المواطنين لو أرادوا أعداد ما يرغبون به داخل المنزل، فسيكون الاستهلاك نفسه، غازاً أو كهرباء، إضافة لأنهم لن يتمكنوا من تحصيل الطعم المميز، الذي ينتجه الفرن».
وطور الرجل، قبل عدة سنوات عمل فرنه، من خلال تخصيص جزء منه لطهو «دجاج المندي» والأرز بمختلف أنواعه، وينوه بأن نجله «نضال» يتولى أغلب العمل في ذلك القسم، ويحصل من خلاله بعض المال، الذي يساعده على إعالة أسرته، ويعينه على أعباء الحياة القاسية في غزة، متابعاً: «وجود نضال إلى جانبي بالفرن، أمر جيد بالنسبة لي، كونه صار متقناً للعمل، وقادراً على إنجازه بالطريقة المميزة».
«الرائحة التي تنبعث من الفرن، تشد الناس من آخر الأزقة في المخيم، وهناك الكثير منهم يزورني، من دون أن يحملوا شيئاً يرغبون بطهوه، هم يحتاجون فقط لشم الروائح الطيبة، ولمشاهدة العمل في مهنتي التراثية»، يضيف أبو حسيب، شارحاً أنه يعتبر تمسكه بذلك الفرن، والشغل الشاق إلى هذا الوقت، يعتبر بمثابة صمود في مهنة داوم على العمل بها الآباء والأجداد الفلسطينيون.
وبالنسبة لأبو حسيب، فلا أجمل من مشهد النسوة اللاتي لا زلن حتى هذا الحين، يحملن العجين المُحضر للخبز، على رؤوسهن بعد صفه جيداً في «فرش الخبز» الخشبي، الذي يحرص الناس على استعماله في قطاع غزة إلى الآن، ويشير إلى أنه حث ابنه نضال، على ضرورة توريث تلك المهنة لأبنائه من بعده، فالفرن يجب أن يحافظ على ناره الموقدة طوال الحياة، كما يصف في ختام حديثه.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».