كُتّاب: مساحة التنوّع والحريّة أرحب والمشكلة في افتعال الكتابة

لماذا يهرب الشعراء إلى الرواية (2 - 2)

كُتّاب: مساحة التنوّع والحريّة أرحب والمشكلة في افتعال الكتابة
TT

كُتّاب: مساحة التنوّع والحريّة أرحب والمشكلة في افتعال الكتابة

كُتّاب: مساحة التنوّع والحريّة أرحب والمشكلة في افتعال الكتابة

في الحلقة الأولى التي نشرت، أمس، عبر المشاركون الثلاثة، ناقدة وشاعرة وشاعر، عن أن الأجناس الأدبية ليست في حالة تنافس، وأنه لا يمكن مقارنة أي نوع أدبي بآخر، فلكل فن خصوصيته، ولكنهما قد يتداخلان، وهناك أمثلة كثيرة في تراثنا الأدبي تدل على وجود علاقة قوية بين الشعر والسرد بأشكال مختلفة.
في هذه الحلقة الأخيرة، يتحدث شاعران خاضا مغامرة الشعر والرواية معاً، وناقدة وقاصة أصدرت عدداً من المجموعات القصصية.

اعتدال عثمان: الاستجابة لمتغيرات العصر
إن متابعة المشهد الأدبي العربي الراهن تدلنا على أن الأجناس الأدبية في نماذجها الفنية المتميزة - في الرواية والشعر معاً - تتسم بحيوية الاستجابة لمتغيرات العصر، فهذه الأجناس كيانات حية، تتطور وتتحول وتتفاعل، بوصف الإبداع مُعبراً عن الحالة الإنسانية المتحولة بدورها، نتيجة عوامل داخلية وخارجية. ومن الطبيعي أن تلتقط حركية الإبداع هذه الظواهر، فيصوغها الكاتب الموهوب في الشكل الملائم، بعيداً عن الحدود الكلاسيكية الصارمة الفاصلة بين الأنواع الأدبية والتقسيمات النظرية المستخدمة في دراسة الأدب. ولعل أبرز تجليات الكتابة الجديدة لدى كتاب من أجيال مختلفة هو تداخل الأنواع أو الأجناس الأدبية، إذ نجد كثيراً من النثر الفني في الشعر (قصيدة النثر مثلاً)، كما نجد توظيفاً لتقنيات شعرية في الرواية.
ووفقاً لنظريات ما بعد الحداثة، أصبحت الكتابة الهجينة، الجامعة لأكثر من نوع أدبي في العمل الواحد، هي السمة البارزة المعبرة عن العصر الذي نعيشه بمتغيراته، وبعد سقوط السرديات الكبرى، وتداخل الحدود الفاصلة بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، وبروز التقنيات الرقمية في أشكال أدبية جديدة، فأصبحنا نلتقي بالرواية التفاعلية، ونقرأ بحوثاً حول تعالق الأدب والتكنولوجيا، ومؤخراً بتنا نقرأ ونشهد على «يوتيوب» تحليلات وتصورات مستقبلية حول توقع ظهور أشكال أدبية جديدة تتعلق بحقائق مستجدة، مثل ما يطلق عليه «السيبورج»، وهو الإنسان الذي تدخل شرائح إلكترونية في جسده البشري. أما على مستوى النقد الأدبي فقد أصبحت الدراسات البينية الجامعة لتخصصات مختلفة ضرورة لا غناء عنها في تحليل النصوص. ولا يقتصر الأمر على الطبيعة الهجينة للنصوص الأدبية الحديثة فحسب، بل إننا نجد تراسلاً بين الأدب المكتوب، وفنون أخرى سمعية وبصرية مثل الموسيقى والفن التشكيلي والسينما، إذ تتداخل تقنيات هذه الفنون في تشكيل النص الروائي والشعري معاً. إذن فكرة الصراع بين الأنواع الأدبية، وأن الساحة تشهد تنافساً بين الشعر والرواية التي باتت تحتل خانة الصدارة مقابل إزاحة الشعر، هذه الفكرة تحتاج إلى مراجعة. وحتى من المنظور التاريخي نجد أن هناك علاقة قوية بين الشعر والسرد بأشكال مختلفة، فالشعر العربي القديم مثلاً يحضر فيه عنصر الحكي بقوة، فكان هناك دائماً الشاعر الراوية، وكذلك فإن الشعر العربي الحديث يسجل حضور السردي في قصائد بدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، ومحمد الماغوط وغيرهم. كذلك نجد أن كثيراً من كبار الروائيين وشبابهم يكتبون سردياتهم بروح الشاعر، وهم ليسوا شعراء بالضرورة، لكنهم يستثمرون لغة الشعر الإيحائية المكثفة، ذات الدلالات المتعددة، وغير ذلك من التقنيات الشعرية. وإذا كان صحيحاً أن ما يسمى «اللهاث السردي» ظهر على سطح المشهد الأدبي العربي، خصوصاً بعد «نوبل» محفوظ، فأصبح للرواية بريق خاص، زادته الجوائز المخصصة لها جاذبية، فإن المعيار هنا ليس الانجذاب السطحي وراء الرائج، أو بهدف تحقيق الشهرة والمكاسب المادية فحسب، بل إن الموهبة الحقيقية، والذائقة الأدبية المدربة، والضرورة الفنية النابعة من داخل سياق النص نفسه، هي كلها - مجتمعة ومتداخلة - ما يفرض على الكاتب النوع الأدبي القادر على توصيل رؤيته، سواء التزم بقواعد هذا النوع المتبعة، أو حتى المبتكرة من حيث تجديد الأجناس الأدبية بشروطها، ومن خلال قوانينها الخاصة، أو أن هذه الضرورات الفنية التي استخلصها الكاتب بموهبته وحدسه الفني، وعمق ثقافته، وطاقات انطلاق الخيال لديه، هي التي جعلته يلجأ إلى رحاب الرواية، أو يتعلق بأهداب الشعر، أو يراوح بينهما لكي ينتج نصاً فنياً، يمد القارئ بإضافة معرفية وجمالية، ويمتعه باكتشاف عوالم جديدة، تدهشه بجدتها وفرادتها، واتساع آفاقها.

هوشنك أوسي: لقب «الشاعر» أحب إلى قلبي
اتجاه الشاعر إلى كتابة الرواية، ليس مدعاة لأسئلة من هذا النوع. أصلاً يقال: «يحقُّ للشاعر ما يحقُّ لغيره» في كتابة نصّه الشعري. فلماذا ممارسته حقّه في التجريب يُخضع للمساءلة التي تلقي بظلال الشك والشبهة على تجربته الشعرية؟ الرواية عالم منفتح على كل الأجناس الأدبية، وأبرزها الشعر، لماذا يمكن اعتبار خوض الشاعر هذه التجربة إفلاساً لتجربته الشعرية؟ يمكن للشاعر أن يصبحَ روائياً، لكن من الصعب على الروائي الذي ليست له علاقة بالشعر خوض تجربة كتابة الشعر. لأنه في البدء كان الشعر. وأكاد أقول: الشعر أب الفنون، وليس المسرح. هذا جلّي في الميثولوجيا الإغريقية والسومرية، مروراً بالحضارة الفارسية والعربية والإسلامية، وحتى يومنا هذا. الشعر كان ديوان الإغريق («الإلياذة» و«الأوديسا») قبل أن يكون ديوان العرب. تشتهر روسيا بروائيين كُثر. ويلقب بوكشين؛ بشاعر روسيا. ألمانيا معروفة بروائيين كُثر. ويقال لغوته: شاعر ألمانيا. وينسحب ذلك على بلدان عدة. فنّ الشعر، في ذاتيته، أقرب إلى الرواية منه إلى المسرح. صحيح أنه كان هناك المسرح الشعري، ومسرحة الشعر، أو شعرنة المسرح، حين لم يكن هناك رواية.
لكن الصحيح أيضاً أن المسرح، بشكل عام، فقد الكثير من سحره وبريقه، بفعل انتشار السينما والتلفزيون والفنون البصرية. وأعتقد أن مقولة ميلان كونديرا في رواية «الخلود»: «لو كان شكسبير حياً، لربما اتجه نحو التلفزيون والسينما، وهجر المسرح». وشكسبير، هو من هو، في الشعر والمسرح. فلماذا يجب على الشاعر أن يختار المسرح بدلاً من الرواية، وهي في أوج مجدها في الغرب والشرق، ما هي المبررات الفنية والموضوعية وراء ما يسميه البعض «اللهاث السردي»؟ الشعر قائم على التكثيف، يعكس تجربة وذاتيّة صاحبه. بينما الرواية تعكس عوالم ذاتيات وحيوات متقاطعة. وعليه، الشعر أقرب إلى حركية الحياة وإيقاعاتها. مساحة التنوّع والحرية أرحب. الشعر صعبٌ، على من يفهمه ويتقنه. وسهل على من يجهله، ويفتعل كتابته. كذلك الرواية، شديدة العسر والوعورة على من يجيد هذا الفن. لا يمكن أن تحلّ الرواية محلّ الشعر.
لكن هل للأمر علاقة بما تنطوي عليه الرواية من «بريق» يتمثل في الجوائز والشهرة، وتكالب دور النشر؟ ربما. لا يمكنني نفي ذلك. ولا يمكنني تأكيده. في مطلق الأحوال، لندع الناس تكتب، وتحلم بأن سرودها تستحق التكريم والجوائز. برأيي؛ ما مِن مشكلة في طموح بعض أو أغلب الشعراء والشاعرات؛ أن يصبحوا روائيين أو روائيات، أو كتّاب قصة. المشكلة في حركة النقد. هناك أصوليّة نقديّة باتت إرهاصاتها تظهر هنا وهناك، عبر إحالة الإبداع الروائي والسردي أو حتى الشعري، إلى «السلف الصالح» في الشعراء والروائيين فقط. هناك نسق نقدي متهافت، رخو ومائع، ويكاد يكون مبتذلاً، يمنح بعض الأعمال أضعاف ما تستحقه من الاحتفاء والتبجيل والتهليل، وينسب لها، ما ليس لها، ويغض الطرف عن العيوب والمثالب التي تعتري تلك الأعمال. فإذا كان هناك شعراء بلاط، فقد صار يوجد الآن «نقّاد بلاط» أيضاً. السؤال المهم هنا: كيف تقيم مجمل تجربتك في هذا السياق؟ بالنسبة لي زاولت العمل الصحافي، والكتابة السياسية والثقافية. كتبت في حقل البحوث والدراسات السياسية. صدر لي حتى الآن تسعة دواوين شعرية وروايتان. انتهيت من كتابة روايتين تنتظران النشر. واشتغل الآن على نص روائي جديد. مع ذلك، أكتب الشعر أكثر من الرواية. إذا كانت الحياة تمنحني فرصة الكتابة في هذه الحقول، فلماذا أدير ظهري لمنحة الحياة وهديتها؟! لا أحب الألقاب. وإذا كان لا بدّ منها، فأحبُّها إلى قلبي وأقربها، لقب «الشاعر».

محمد أبو زيد: ما زلت أرى نفسي شاعراً
لو عدنا إلى تاريخنا الأدبي، لوجدنا أن كثيراً من الشعراء كتبوا أنواعاً أخرى من الأدب، فالعقاد كتب الرواية، والمازني كتب الرواية، وعبد الرحمن الشرقاوي كتب الرواية، وحتى أحمد شوقي كتب المسرحية، وحتى لو انتقلنا إلى الجهة الأخرى من العالم، سنجد أن كثيراً من الأدباء كتبوا الشعر إلى جانب السرد على غرار تشارلز بوكوفسكي، ووليام فوكنر وبورخيس وجورج أورويل، فضلاً عن أن عدداً كبيراً من الروائيين المشهورين بدأوا حياتهم شعراء، مثل ميلان كونديرا، وبول أوستر، وعندنا في العالم العربي الروائي اللبناني رشيد الضعيف. ذكرت كل هذه الأمثلة لأقول إن الانتقال بين الأنواع الأدبية ليس مستغرباً في الفن، فتاريخ الأدب العربي والغربي يشهد بذلك. وأفضل أن يتم النظر إلى جميع الأنواع الأدبية باعتبارها فنوناً، خصوصاً والعالم يتحدث الآن عن الكتابة المفتوحة، وفي النهاية ربما يملك الكاتب الأدوات التي تؤهله لكتابة فن آخر، فما الداعي لحبسه في نطاق محدد، وكأنه «روبوت» يجب عليه القيام بدور محدد لا يتجاوزه. من حق الكاتب أن يجرب أدواته ومعارفه وموهبته كيفما يشاء، والحكم في النهاية على النص وحده، وليس على الكاتب، لا أحب ما يسميه البعض «اللهاث السردي»، كما أننا لسنا أمام ما يشبه القانون أو المعادلة الفنية «كلما ضاقت قماشة الشعر، اتسعت في الرواية» ـ الموضوع لا يتعلق بضيق قماشة الشعر أو اتساعها في الرواية، فجميع الفنون تمتح من بعضها، والسرد أصبح مكوناً رئيسياً في قصيدة النثر اليوم، لذا فالمساحة بينه وبين الرواية قريبة بالفعل، وأود أن أشير هنا إلى ما فعله الكاتب الراحل إدوار الخراط حين قام بنشر مقاطع من رواياته في ديوانه «طغيان سطوة الطوايا» للتأكيد على هذه الفكرة. والسرد هو الأقرب للشعر الآن، كما كان المسرح أقرب للشعر في فترة سابقة، ولم نتهم وقتها شكسبير أو شوقي أو صلاح عبد الصبور أو الشرقاوي أو الماغوط بـ«اللهاث المسرحي»، رغم أن جميع أعمالهم تم تقديمها على خشبة المسرح.
هل للأمر علاقة بما تنطوي عليه الرواية من «بريق» يتمثل في الجوائز والشهرة وتكالب دور النشر؟ من الظلم أن نصف شعراء متحققين كتبوا الرواية باللهاث وراء بريق الرواية، فعباس بيضون كتب الرواية وهو متحقق تماماَ، وسعدي يوسف لم يكن يحتاج إلى أي بريق من الرواية حين كتبها، وأظن أننا لا يجب أن نحاسب جميع الشعراء الذين كتبوا الرواية في المجمل باعتبارهم شخصاً واحداً، لكن أن ننظر إلى كل كاتب وكل رواية على حدة، ونرى: هل هذه الرواية جيدة أم لا، هل أضافت لكاتبها أم لا. ولو أن شاعراً كتب رواية وفازت بجوائز، أو لفتت الأنظار فمن حق كاتبها علينا أن نقول إنها رواية جيدة بغض النظر عما إذا كان شاعراً أم روائياً.
أما عن رؤيتي لمجمل تجربتي في هذا السياق، فما زلت أرى نفسي شاعراً، وكتبت الرواية انطلاقاً من هذه الفكرة، وهي جزء من مشروعي الأساسي ـ إذا جاز لي قول هذا. فشخصيات الرواية حاضرة في دواويني، وبعض أحداثها تكملة لنصوص شعرية سابقة، وروايتي «عنكبوت في القلب» تجريبية في الأساس، لكن حرصت أن يكون لها ذاتها الخاصة، وأتمنى أن أكون وفقت. لم أكتب الرواية من أجل جوائز ولا بريق شهرة ولا تكالب دور نشر، هذه الأشياء من قبيل الخرافات في واقعنا الأدبي العربي البائس، بل كتبتها لأني أحببت التجربة، وجاءتني سرداً، فجسدتها كما جاءت.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.