المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

على مدى قرون كانوا يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة
TT

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

أشباح يحومون حول تاريخ النشر والبحث في الإنسانيات في فجر الحداثة الأوروبية: أشباح نحيلون شعث؛ إنهم المصححون، كما يسمون عادة، الذين كانوا يهيئون المخطوطات للطباعة، ويراجعون النسخ، وغالباً ما كانوا يضيفون مادة أصلية من عندهم. كانوا في كل مكان من عالم الطباعة، والإنسانويون الأوائل في العصر الحديث -وبينهم أسماء مألوفة اليوم- إما أثنوا على عملهم أو قللوا من شأنه.
ما الذي فعله إذن المصححون والقراء؟ دفاتر الحسابات لبعض المؤسسات الكبيرة ما تزال موجودة، وفيها دلائل مباشرة. فدفتر مؤسسات فوربن وإيبيسكوبولوس، مثلاً، يحتفظ بسجل لأجور الموظفين بين عامي 1557 و1564؛ كل قائمة من الموظفين تبدأ بمصحح أو ناقد متشدد: دليل واضح أن هؤلاء الموظفين العلماء الذين تظهر أسماؤهم قبل أسماء المنضدين وعمال الطباعة، قد حظوا بمكانة خاصة أعلى من مكانة أولئك الذين عملوا بأيديهم. وكل قائمة تتضمن أيضاً قارئاً يدفع له نصف ما يدفع للمصحح أو أقل من ذلك. وأحياناً تشير الوثيقة إلى أن مصححاً أو قارئاً بعينه كان يتسلم مبلغاً لقاء أعمال أخرى أيضاً. وفي مارس (آذار) 1563، دُفع لبارثولوميوس فارولي لقاء تصحيح نسخة من النص القانوني، كتاب غيوم ديوراند «مرآة القانون»، ولإنجازه فهرساً للعمل.
وقد قام المصححون بأشياء أخرى كثيرة أيضاً، فصححوا نسخة المؤلف والبروفات، وحددوا وصححوا الأخطاء الطباعية، وغيرها من الأخطاء، بأعلى ما لديهم من خبرات، ووزعوا النصوص إلى أقسام، ووفروا ما يعين القراء: صفحات عناوين، ومحتويات، وعناوين فصول، وفهارس. وبعض المصححين ألفوا نصوصاً ونصوصاً مصاحبة، توفر ما يمكن أن يشار إليه اليوم بمزودي المحتوى.
وأحياناً، كان المصححون يمارسون دور الوسطاء الخبيرين بين المؤلف والناشر. وقد بدا أن المصحح يمثل نوعاً اجتماعياً جديداً: ظاهرة دخلت عالم الطباعة، إلى جانب كونه ابناً مولوداً محلياً لمدينة الكتب الجديدة التي صنعتها الطباعة. ويبدو واضحاً أن الفن الجديد أوجد مهاماً جديدة. فقد واجه الطابع منافسين كثيرين في السوق، وكان عليه -أو عليها- أن يبين أن منتجاً محدداً كان متفوقاً على منتج المنافسين. وإحدى الطرق لفعل ذلك -كما قرر أصحاب المطابع ذلك بسرعة- كانت بالتركيز في «الكولوفون» (الإشارة في نهاية المخطوطة إلى اسم الناسخ، وزمان النسخ ومكانه)، أو فيما بعد، على صفحة الغلاف، أن علماء قد صححوا النص. وفي إيطاليا وألمانيا على حد سواء، وعدت الكتب المطبوعة في القرن الخامس عشر قراءها ليس فقط بنصوص، وإنما بنصوص «مصححة بإتقان»؛ أي أنها «صححت وروجعت بانتباه»، أو «روجعت بأقصى درجات الإتقان والدقة» من قبل دارسين معينين. وتوظيف شخص يصحح نصاً -أو الادعاء بفعل ذلك، كما فعل كثير من أصحاب المطابع مع أنهم لم يقوموا بذلك- مثّلَ طريقة عقلانية مؤثرة في الحصول على نصيب أكبر من السوق.
ومن أكثر الحقائق غرابة فيما يتعلق بالمصححين هي تلك التي كانت -وما تزال- مؤسفة: رغم كل الفائدة فيما عملوا، وجد المصححون أنفسهم عرضة للغضب والشفقة والسخرية أكثر منه لعدم العرفان بالجميل، حين وصف فيجيليوس زويكيموس، عام 1534، مطبعة هيرونيموس فوربنس، وذكر المصحح الرئيسي هناك، سيغيزموند غيلينيوس، ليتحدث فقط عن مدى الأسى الذي شعر به حين رآه موظفاً يقوم بتلك المهمة. وكان غيلينيوس، كما ذكر فيجيليوس «عالماً استثنائياً جديراً بأشياء أفضل بكثير»، وقد وافقه على ذلك الجميع تقريباً. وجيريماياه هونشوخ، المصحح المعتز بنفسه مؤلف كتاب مدرسي عن حرفة التصحيح، اعترف أنه هو نفسه دخل في المهنة ليتفادى مهنة أسوأ هي التعليم، وأن معظم زملائه، لو استطاعوا «سينطلقون كالرصاصة من الورشة ليكسبوا عيشهم بذكائهم وعلمهم لا بيديهم».
وكان لدى المصححين كل الأسباب التي تجعلهم يشعرون بأنهم لا يستفاد منهم على الوجه الصحيح؛ كان ما يدفع لهم قليلاً، أقل مما يدفع لأفضل المنضدين وعمال المطبعة.
«الكونكورديا»، وهي وثيقة أرشيفية تسجل اتفاق المصححين عام 1664 على عقد احتفال سنوي، تسجل أيضاً الهمسات، إن لم يكن الصرخات، التي كانت تمر بين المصححين حين يلتقون لتبادل القيل والقال: «أنا، فيليب جاك. نوينز غالباً ما سمعت من الآخرين، وسمع المبجل دي كلين من ماستر فاندرفيدين، وسمع هيرونيموس دي برافيو من فاندرفيدين أيضاً، أن المصححين اعتادوا أن يتلقوا زيادة في المرتب بعد مرور عامين على وجودهم هنا. نوينز وأيضاً ديكلين المشار إليه سمع هذا كثيراً». المصحح العليم، بتعبير آخر، عانى مما بدا أحياناً أنه القدر الجوهري للإنسانويين: تعليمه الكلاسيكي منحه الذائقة المرهفة، ولكنه لم يؤهله لأكثر من أن يكون فقيراً يشقى بالثقافة، لا مرتبُه أفضل ولا هو أكثر أماناً في وظيفته من العاملين ذوي الأيدي الملطخة بالحبر الذين يكدحون إلى جانبه.
والأكثر إزعاجاً من ذلك، على الأرجح، حقيقة أن المكانة الثقافية والاجتماعية للمصحح كانت مهزوزة بقدر ما كان وضعه المالي. فكثير من المصححين كانوا رجالاً متعلمين افتقروا إلى الوسائل والصحة والمزاج الذي يساعدهم على التقدم في مهنتهم، ولكن بعضهم كانوا حرفيين. فالمصحح تيودور بولمان عمل -كما يبدو- فيما أحب أن يدعوه «دكان الدراسة والدعك مجتمعين» (ميوزغنافيوم) الذي كان يوقع فيه مقدماته، بينما يودع قراءه «وداعاً، إذن، أيها الدعاك»، وكتب المؤرخ الإيطالي جوزيف سكاليجير، في هامش نسخته التأمل في ممارسات التصحيح، أنه -مثل قراءة كل رسائل باحث كبير- يمكن أن ينتج حكاية جديدة. وعام 1543، أخرج الطابع النورمبرغي الماكر يوهان بيتريوس كتاب كوبرنيكُس «حول دورات الأجرام السماوية». ولم يكن بمقدور المؤلف الذي كان بعيداً مريضاً أن يرى الكتاب في أثناء الطباعة. وبدلاً من ذلك، أعدت نسخة، وقرأت النسخ الطباعية على يد رجال خبيرين بالناشرين والطباعة: غورغ يواكيم ريتيكوس الذي مثل كثير من المصححين عمل بصفته ممثلاً لبيتريوس يتصيد المؤلفين والمخطوطات الجديدة، إلى جانب أندرياس أوسلاندر، لم يتركوا العمل كما هو. وبعد أن ظهرت مخطوطة كتاب كوبرنيكُس في القرن التاسع عشر، لاحظ الفيلولوجيون أن طبعة بيتريوس اختلفت عنها في مئات التفاصيل. وبطبيعة الحال، أعادوا النص إلى ما كتبه كوبرنيكُس نفسه، وما فشلوا في ملاحظته كان أن التغييرات في النص نفسه، إلى جانب عدد أكبر من التغييرات الأخرى، بعضها اقترح في صفحة أخطاء جاءت مصاحبة لنسخ الكتاب، وبعضها بقلم بيتريوس في دكانه، على أنها كانت تحسينات: وهي مسألة يسهل التحقق منها نسبياً في حالة عمل تقني. وكوبرنيكُس نفسه لا بد أن يكون قد أدخل كثيراً من هذه التعديلات في نص وسيط قصد منه أن يكون نسخة الطباعة، ولم يعثر عليه. ونسخ أخرى نتجت عن التصحيح، كما يفترض أن يكون واضحاً الآن.
وأحدث أوزياندر تغييراً واحد خطيراً بصفة خاصة، تغييراً اكتسب شهرة سيئة منذ فترة طويلة، إذ اعتقد كوبرنيكس أنه اكتشف الحقيقة بشأن الكون، وقدم عمله على أنه تفسير للعالم الحقيقي، وتلك الدعوى جعلت كتابه تحدياً خطيراً لبنية الفلسفة الطبيعية بأكملها، وكذلك لعلم الفلك. وأضاف أوزياندر، على ذلك الأساس، مقدمة للعمل غير مذيلة بتوقيع وجهت إلى القارئ. وهنا خفف من تطرف الكتاب بادعاء أن كوبرنيكس كان قد قدم نظريته ليس على أنها الحقيقة، وإنما على أنها مجرد فرضية قصد بها تحريك النقاش. ومنذ 1543 حتى الآن، أغضبت مناورة أوزياندر المعجبين بكوبرنيكس. فريتيكوس هدد بمهاجمته، ورفع عليه وعلى بيتريوس دعوى في المحكمة، لكنها لم تنجح. وعند نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، اكتشف يوهان كيبلر وفيليبرورد سنيل وآخرون كيف أضيفت المقدمة، إذ تشير ملاحظات على نسخهم إلى استيائهم من ذلك، وقد كانوا محقين في محاججتهم بأن ما صنعه أوزياندر كان متعارضاً مع مقاصد كوبرنيكس.
غير أن قرار أوزياندر أدى أيضاً إلى إبقاء كتاب كوبرنيكس متداولاً. فـ«دورات الأجرام» بدأ يثير نقداً حاداً بمجرد ظهوره، وحاول بعض الرقابيين أن يمنعوا ظهوره، أو على الأقل أن يبطئوا تداوله، لكنه لم يتحول إلى هدف لحملة جادة تريد كبته، ما عدا في شبه الجزيرة الإيبيرية إلى حد ما. ولم ينتشر الكتاب فحسب، كما بين أوين غنغرتش بتفحصه البسيط ولكن الملائم جداً للعشرات من النسخ، وإنما اجتذب قراءً ملأوا الهوامش بالتعليقات، وجعلوا كتاب كوبرنيكس نصاً أساسياً. وبناء عليه، لم تأتِ نهاية القرن السادس عشر إلا وعفريت كوبرنيكس خارج الصندوق، فلم يعد من المتصور أن يؤدي أي كبت -حتى هجوم غاليليو- إلى إعادته.
وإذا نُظر إلى ما فعله أوزياندر مستقلاً، فإنه سيبدو غير مقبول إطلاقاً، حتى في سياق مناهج التصحيح في عصر النهضة، يظل إشكالياً -عمل رجل صغير يفرض حذره على عمل رجل أعظم منه، ولكنه يبدو أيضاً محاولة عاقلة ذكية لممارسة دور المصحح، عملاً له كثير مما يقابله في عالم التحصيل العلمي إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر. المصححون أشخاص في مشهد يتوارى الآن: عالم كان فيه المؤلفون يتوقعون ممن يطبعون كتبهم -أو من نساخهم- أن يحسنوا العمل الذي وضع بين أيديهم. وفي هذا العالم، رأى كثير من الكتاب عملهم تعاونياً، لا فردياً. وعلى مدى قرون، كان المصححون يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء. كانوا الأسلاف البعيدين ليس للفيلولوجيين المحدثين فحسب، وإنما أيضاً للمحرر المعاصر الذي فعل الكثير ليصوغ أعمال كتاب مهمين. خيوط استمرار قوية كثيرة تتحرك عبر التاريخ الألفي للتأليف والتحرير. ونتائج هذه الحقائق في تاريخ البحث -تاريخ التحرير العلمي- ما تزال بانتظار أن تدرس. ولكن ثمة مسألة واضحة؛ في كل مرة يغضب فيها مؤلفون من نساخ، من أساتذة، من محررين أو وسطاء -وفي كل مرة يحتجّ فيها محررون بأن المؤلفين لا يقدرون عملهم- فإنهم يعيدون تمثيل مشهد متجذر عميقاً في التراث الكلاسيكي.
- اقتباس في دورية لافام (لافام كوارترلي) من كتاب «أصابع ملطخة بالحبر: صناعة الكتب في فترة مبكرة من أوروبا الحديثة» (2020)، لمؤلفه: أنتوني غرافتُن.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!