المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

على مدى قرون كانوا يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة
TT

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

المصححون... إنهم محررو فجر الحداثة

أشباح يحومون حول تاريخ النشر والبحث في الإنسانيات في فجر الحداثة الأوروبية: أشباح نحيلون شعث؛ إنهم المصححون، كما يسمون عادة، الذين كانوا يهيئون المخطوطات للطباعة، ويراجعون النسخ، وغالباً ما كانوا يضيفون مادة أصلية من عندهم. كانوا في كل مكان من عالم الطباعة، والإنسانويون الأوائل في العصر الحديث -وبينهم أسماء مألوفة اليوم- إما أثنوا على عملهم أو قللوا من شأنه.
ما الذي فعله إذن المصححون والقراء؟ دفاتر الحسابات لبعض المؤسسات الكبيرة ما تزال موجودة، وفيها دلائل مباشرة. فدفتر مؤسسات فوربن وإيبيسكوبولوس، مثلاً، يحتفظ بسجل لأجور الموظفين بين عامي 1557 و1564؛ كل قائمة من الموظفين تبدأ بمصحح أو ناقد متشدد: دليل واضح أن هؤلاء الموظفين العلماء الذين تظهر أسماؤهم قبل أسماء المنضدين وعمال الطباعة، قد حظوا بمكانة خاصة أعلى من مكانة أولئك الذين عملوا بأيديهم. وكل قائمة تتضمن أيضاً قارئاً يدفع له نصف ما يدفع للمصحح أو أقل من ذلك. وأحياناً تشير الوثيقة إلى أن مصححاً أو قارئاً بعينه كان يتسلم مبلغاً لقاء أعمال أخرى أيضاً. وفي مارس (آذار) 1563، دُفع لبارثولوميوس فارولي لقاء تصحيح نسخة من النص القانوني، كتاب غيوم ديوراند «مرآة القانون»، ولإنجازه فهرساً للعمل.
وقد قام المصححون بأشياء أخرى كثيرة أيضاً، فصححوا نسخة المؤلف والبروفات، وحددوا وصححوا الأخطاء الطباعية، وغيرها من الأخطاء، بأعلى ما لديهم من خبرات، ووزعوا النصوص إلى أقسام، ووفروا ما يعين القراء: صفحات عناوين، ومحتويات، وعناوين فصول، وفهارس. وبعض المصححين ألفوا نصوصاً ونصوصاً مصاحبة، توفر ما يمكن أن يشار إليه اليوم بمزودي المحتوى.
وأحياناً، كان المصححون يمارسون دور الوسطاء الخبيرين بين المؤلف والناشر. وقد بدا أن المصحح يمثل نوعاً اجتماعياً جديداً: ظاهرة دخلت عالم الطباعة، إلى جانب كونه ابناً مولوداً محلياً لمدينة الكتب الجديدة التي صنعتها الطباعة. ويبدو واضحاً أن الفن الجديد أوجد مهاماً جديدة. فقد واجه الطابع منافسين كثيرين في السوق، وكان عليه -أو عليها- أن يبين أن منتجاً محدداً كان متفوقاً على منتج المنافسين. وإحدى الطرق لفعل ذلك -كما قرر أصحاب المطابع ذلك بسرعة- كانت بالتركيز في «الكولوفون» (الإشارة في نهاية المخطوطة إلى اسم الناسخ، وزمان النسخ ومكانه)، أو فيما بعد، على صفحة الغلاف، أن علماء قد صححوا النص. وفي إيطاليا وألمانيا على حد سواء، وعدت الكتب المطبوعة في القرن الخامس عشر قراءها ليس فقط بنصوص، وإنما بنصوص «مصححة بإتقان»؛ أي أنها «صححت وروجعت بانتباه»، أو «روجعت بأقصى درجات الإتقان والدقة» من قبل دارسين معينين. وتوظيف شخص يصحح نصاً -أو الادعاء بفعل ذلك، كما فعل كثير من أصحاب المطابع مع أنهم لم يقوموا بذلك- مثّلَ طريقة عقلانية مؤثرة في الحصول على نصيب أكبر من السوق.
ومن أكثر الحقائق غرابة فيما يتعلق بالمصححين هي تلك التي كانت -وما تزال- مؤسفة: رغم كل الفائدة فيما عملوا، وجد المصححون أنفسهم عرضة للغضب والشفقة والسخرية أكثر منه لعدم العرفان بالجميل، حين وصف فيجيليوس زويكيموس، عام 1534، مطبعة هيرونيموس فوربنس، وذكر المصحح الرئيسي هناك، سيغيزموند غيلينيوس، ليتحدث فقط عن مدى الأسى الذي شعر به حين رآه موظفاً يقوم بتلك المهمة. وكان غيلينيوس، كما ذكر فيجيليوس «عالماً استثنائياً جديراً بأشياء أفضل بكثير»، وقد وافقه على ذلك الجميع تقريباً. وجيريماياه هونشوخ، المصحح المعتز بنفسه مؤلف كتاب مدرسي عن حرفة التصحيح، اعترف أنه هو نفسه دخل في المهنة ليتفادى مهنة أسوأ هي التعليم، وأن معظم زملائه، لو استطاعوا «سينطلقون كالرصاصة من الورشة ليكسبوا عيشهم بذكائهم وعلمهم لا بيديهم».
وكان لدى المصححين كل الأسباب التي تجعلهم يشعرون بأنهم لا يستفاد منهم على الوجه الصحيح؛ كان ما يدفع لهم قليلاً، أقل مما يدفع لأفضل المنضدين وعمال المطبعة.
«الكونكورديا»، وهي وثيقة أرشيفية تسجل اتفاق المصححين عام 1664 على عقد احتفال سنوي، تسجل أيضاً الهمسات، إن لم يكن الصرخات، التي كانت تمر بين المصححين حين يلتقون لتبادل القيل والقال: «أنا، فيليب جاك. نوينز غالباً ما سمعت من الآخرين، وسمع المبجل دي كلين من ماستر فاندرفيدين، وسمع هيرونيموس دي برافيو من فاندرفيدين أيضاً، أن المصححين اعتادوا أن يتلقوا زيادة في المرتب بعد مرور عامين على وجودهم هنا. نوينز وأيضاً ديكلين المشار إليه سمع هذا كثيراً». المصحح العليم، بتعبير آخر، عانى مما بدا أحياناً أنه القدر الجوهري للإنسانويين: تعليمه الكلاسيكي منحه الذائقة المرهفة، ولكنه لم يؤهله لأكثر من أن يكون فقيراً يشقى بالثقافة، لا مرتبُه أفضل ولا هو أكثر أماناً في وظيفته من العاملين ذوي الأيدي الملطخة بالحبر الذين يكدحون إلى جانبه.
والأكثر إزعاجاً من ذلك، على الأرجح، حقيقة أن المكانة الثقافية والاجتماعية للمصحح كانت مهزوزة بقدر ما كان وضعه المالي. فكثير من المصححين كانوا رجالاً متعلمين افتقروا إلى الوسائل والصحة والمزاج الذي يساعدهم على التقدم في مهنتهم، ولكن بعضهم كانوا حرفيين. فالمصحح تيودور بولمان عمل -كما يبدو- فيما أحب أن يدعوه «دكان الدراسة والدعك مجتمعين» (ميوزغنافيوم) الذي كان يوقع فيه مقدماته، بينما يودع قراءه «وداعاً، إذن، أيها الدعاك»، وكتب المؤرخ الإيطالي جوزيف سكاليجير، في هامش نسخته التأمل في ممارسات التصحيح، أنه -مثل قراءة كل رسائل باحث كبير- يمكن أن ينتج حكاية جديدة. وعام 1543، أخرج الطابع النورمبرغي الماكر يوهان بيتريوس كتاب كوبرنيكُس «حول دورات الأجرام السماوية». ولم يكن بمقدور المؤلف الذي كان بعيداً مريضاً أن يرى الكتاب في أثناء الطباعة. وبدلاً من ذلك، أعدت نسخة، وقرأت النسخ الطباعية على يد رجال خبيرين بالناشرين والطباعة: غورغ يواكيم ريتيكوس الذي مثل كثير من المصححين عمل بصفته ممثلاً لبيتريوس يتصيد المؤلفين والمخطوطات الجديدة، إلى جانب أندرياس أوسلاندر، لم يتركوا العمل كما هو. وبعد أن ظهرت مخطوطة كتاب كوبرنيكُس في القرن التاسع عشر، لاحظ الفيلولوجيون أن طبعة بيتريوس اختلفت عنها في مئات التفاصيل. وبطبيعة الحال، أعادوا النص إلى ما كتبه كوبرنيكُس نفسه، وما فشلوا في ملاحظته كان أن التغييرات في النص نفسه، إلى جانب عدد أكبر من التغييرات الأخرى، بعضها اقترح في صفحة أخطاء جاءت مصاحبة لنسخ الكتاب، وبعضها بقلم بيتريوس في دكانه، على أنها كانت تحسينات: وهي مسألة يسهل التحقق منها نسبياً في حالة عمل تقني. وكوبرنيكُس نفسه لا بد أن يكون قد أدخل كثيراً من هذه التعديلات في نص وسيط قصد منه أن يكون نسخة الطباعة، ولم يعثر عليه. ونسخ أخرى نتجت عن التصحيح، كما يفترض أن يكون واضحاً الآن.
وأحدث أوزياندر تغييراً واحد خطيراً بصفة خاصة، تغييراً اكتسب شهرة سيئة منذ فترة طويلة، إذ اعتقد كوبرنيكس أنه اكتشف الحقيقة بشأن الكون، وقدم عمله على أنه تفسير للعالم الحقيقي، وتلك الدعوى جعلت كتابه تحدياً خطيراً لبنية الفلسفة الطبيعية بأكملها، وكذلك لعلم الفلك. وأضاف أوزياندر، على ذلك الأساس، مقدمة للعمل غير مذيلة بتوقيع وجهت إلى القارئ. وهنا خفف من تطرف الكتاب بادعاء أن كوبرنيكس كان قد قدم نظريته ليس على أنها الحقيقة، وإنما على أنها مجرد فرضية قصد بها تحريك النقاش. ومنذ 1543 حتى الآن، أغضبت مناورة أوزياندر المعجبين بكوبرنيكس. فريتيكوس هدد بمهاجمته، ورفع عليه وعلى بيتريوس دعوى في المحكمة، لكنها لم تنجح. وعند نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، اكتشف يوهان كيبلر وفيليبرورد سنيل وآخرون كيف أضيفت المقدمة، إذ تشير ملاحظات على نسخهم إلى استيائهم من ذلك، وقد كانوا محقين في محاججتهم بأن ما صنعه أوزياندر كان متعارضاً مع مقاصد كوبرنيكس.
غير أن قرار أوزياندر أدى أيضاً إلى إبقاء كتاب كوبرنيكس متداولاً. فـ«دورات الأجرام» بدأ يثير نقداً حاداً بمجرد ظهوره، وحاول بعض الرقابيين أن يمنعوا ظهوره، أو على الأقل أن يبطئوا تداوله، لكنه لم يتحول إلى هدف لحملة جادة تريد كبته، ما عدا في شبه الجزيرة الإيبيرية إلى حد ما. ولم ينتشر الكتاب فحسب، كما بين أوين غنغرتش بتفحصه البسيط ولكن الملائم جداً للعشرات من النسخ، وإنما اجتذب قراءً ملأوا الهوامش بالتعليقات، وجعلوا كتاب كوبرنيكس نصاً أساسياً. وبناء عليه، لم تأتِ نهاية القرن السادس عشر إلا وعفريت كوبرنيكس خارج الصندوق، فلم يعد من المتصور أن يؤدي أي كبت -حتى هجوم غاليليو- إلى إعادته.
وإذا نُظر إلى ما فعله أوزياندر مستقلاً، فإنه سيبدو غير مقبول إطلاقاً، حتى في سياق مناهج التصحيح في عصر النهضة، يظل إشكالياً -عمل رجل صغير يفرض حذره على عمل رجل أعظم منه، ولكنه يبدو أيضاً محاولة عاقلة ذكية لممارسة دور المصحح، عملاً له كثير مما يقابله في عالم التحصيل العلمي إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر. المصححون أشخاص في مشهد يتوارى الآن: عالم كان فيه المؤلفون يتوقعون ممن يطبعون كتبهم -أو من نساخهم- أن يحسنوا العمل الذي وضع بين أيديهم. وفي هذا العالم، رأى كثير من الكتاب عملهم تعاونياً، لا فردياً. وعلى مدى قرون، كان المصححون يعملون بصفتهم وسطاء بين الكتاب والقراء. كانوا الأسلاف البعيدين ليس للفيلولوجيين المحدثين فحسب، وإنما أيضاً للمحرر المعاصر الذي فعل الكثير ليصوغ أعمال كتاب مهمين. خيوط استمرار قوية كثيرة تتحرك عبر التاريخ الألفي للتأليف والتحرير. ونتائج هذه الحقائق في تاريخ البحث -تاريخ التحرير العلمي- ما تزال بانتظار أن تدرس. ولكن ثمة مسألة واضحة؛ في كل مرة يغضب فيها مؤلفون من نساخ، من أساتذة، من محررين أو وسطاء -وفي كل مرة يحتجّ فيها محررون بأن المؤلفين لا يقدرون عملهم- فإنهم يعيدون تمثيل مشهد متجذر عميقاً في التراث الكلاسيكي.
- اقتباس في دورية لافام (لافام كوارترلي) من كتاب «أصابع ملطخة بالحبر: صناعة الكتب في فترة مبكرة من أوروبا الحديثة» (2020)، لمؤلفه: أنتوني غرافتُن.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.