آن هيدالغو... تحدي تحويل «عاصمة النور» إلى «خضراء»

بعد احتفاظها برئاسة بلدية باريس

آن هيدالغو...  تحدي تحويل   «عاصمة النور» إلى «خضراء»
TT

آن هيدالغو... تحدي تحويل «عاصمة النور» إلى «خضراء»

آن هيدالغو...  تحدي تحويل   «عاصمة النور» إلى «خضراء»

بعد فوزها الكاسح في «معركة باريس»، يوم الأحد الماضي، وقفت آن هيدالغو بين أنصارها، وألقت كلمة تقليدية لتشكر كل من ساهم في فوز لوائحها الواضح للمرة الثانية، ولتؤكد للباريسيين أنها ستكون للسنوات الست المقبلة في خدمتهم من أجل أن تجعل العاصمة الفرنسية مجدداً «عاصمة النور»، ولكن هذه المرة «خضراء»... أي أن تتبع سياسة بيئوية تبعد التلوث وتخفف من أزمات السير الحادة وتضاعف الممرات الخاصة بالدراجات الهوائية، وتشدد على النظافة والأمن. وللعلم، كل هذه القضايا تدخل في إطار الاهتمامات اليومية للمواطنين الباريسيين الذين يبلغ عددهم 2.14 مليون نسمة.

تجلت لحظة التأثر الواضحة في كلمة آن هيدالغو، عندما جاءت على ذكر والديها وبقولها إنهما «كانا ليفخرا» بما حققته من انتصار ليس فقط في بلدية باريس، ولكن على المستوى الوطني في فرنسا بأسرها.
تأخذ هذه العبارة كامل معناها إذا ما وُضعت في إطار مسيرة هيدالغو الاستثنائية. ذلك أن المرأة التي ستتربّع على «عرش» العاصمة الفرنسية لست سنوات إضافية ما كان مقدّراً لها أن تصل إلى هذا المنصب. إلا أن ما يسمى في فرنسا «المصعد الاجتماعي» يعني، من الناحية النظرية، أن كل الأبواب والمناصب مفتوحة أمام أي فرنسي يتمتع بالمواهب الضرورية بغض النظر عن بيئته وأصله ومستوى عائلته الاجتماعي والاقتصادي ومحيطه الثقافي. وبالطبع، كثيرون ينتقدون هذه النظرية ويبرزون الفوارق الفاضحة بين ما هو مبدئي، حيث المساواة كاملة بغض النظر عن الجنس أو اللون أو البيئة... وما هو موجود على أرض الواقع. ولكن، إذا ما نُحّي هذا الجدل جانباً، فإن آن هيدالغو تُعدُّ أفضل تجسيد له.
بطاقة هوية
آن هيدالغو، واسمها الكامل آنا ماريا هيدالغو آلو، ابنة عائلة إسبانية متواضعة. ولدت في مدينة سان فرناندو الواقعة في أقصى الجنوب الإسباني عام 1959 وانتقلت مع عائلتها إلى فرنسا في عام 1962، وهي لا تزال في سن الرابعة من عمرها. والدها كان عاملاً كهربائياً، وأمها خياطة.
ولقد حصلت هيدالغو على الجنسية الفرنسية وهي ابنة الـ14 ربيعاً. إلا أنها في عام 2003، استعادت جنسيتها الإسبانية. وهي اليوم مزدوجة الجنسية، الأمر الذي يتيحه الدستور الفرنسي. إبّان دراساتها الجامعية انتمت باكراً إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي، في عام 1994. وفي تلك الحقبة، كان الحزب يهيمن على الحياة السياسية في فرنسا، مع وصول فرنسوا ميتران في عام 1981 إلى رئاسة الجمهورية، حيث بقي في قصر الإليزيه طيلة 14 سنة، ثم إبان ترؤّس ليونيل جوسبان حكومة اليسار أثناء ولاية جاك شيراك الأولى (1995 - 2002).
في تلك الفترة برزت «كوادر» يسارية كثيرة عملت في الوزارات والرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، وفي المرافق الإدارية التي كانت محرومة منها تحت حكم اليمين، الذي سيطر على مفاصل الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية منذ تأسيس «الجمهورية الخامسة» على يدي الجنرال شارل ديغول في خمسينات القرن الماضي. وكانت آن هيدالغو من بين هذه «الكوادر»، حيث تنقلت في عدة وزارات مستشارة هنا وملحقة هناك. وبفضل قربها من أمين عام الحزب الاشتراكي إبان ترؤس جوسبان للوزارة وما بعدها، عُبّدت الطريق أمامها، مثلما عُبّدت بوجه إيمانويل فالس الإسباني الآخر المولود في مدينة برشلونة، الذي احتل في فرنسا منصب وزارة الداخلية قبل أن يعينه الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولند رئيساً للحكومة. وللعلم، أراد فالس، قبل سنتين، العودة إلى جذوره الكاتالونية فترشح لرئاسة بلدية برشلونة. إلا أن رهانه جاء خاسراً.
هيدالغو، على الصعيد الشخصي، أم لثلاثة أولاد، اثنان منهم من علاقة سابقة بين العامين 1986 و1988 والثالث الذي وُلد في العام 2001 من زوجها الحالي الرجل السياسي جان مارك جيرمان هو نائب سابق تعرّفت إليه عندما كانا يعملان معاً في مكتب مارتين أوبري، وزيرة العمل السابقة ورئيسة بلدية مدينة ليل بأقصى شمال فرنسا.
وهنا يمكن القول إن ما يصح على هيدالغو وفالس، يصح أيضاً على رشيدة داتي، رئيسة لائحة اليمين التقليدي ومنافسة هيدالغو الأولى في الانتخابات المحلية الأخيرة في باريس. ذلك أن بين المرأتين تشابه كبير في المسار، إذ إن داتي التي ولدت على التراب الفرنسي عام 1965 هي الابنة الثانية لعائلة مغربية من 11 ولداً (سبع بنات وأربعة أبناء). وكان والدها، المبارك داتي، عامل بناء وأمها زهرا من أصل جزائري. وبعد دراستها الجامعية في القانون وعملها في الحقل القضائي لسنوات، حصلت على مرتبة قاضٍ. وبفضل علاقات نسجتها مع متنفّذين سياسيين واقتصاديين، تنقلّت في العديد من المناصب. إلا أن الحظ ابتسم لها حقاً عندما اختارها المرشح الرئاسي اليمين نيكولا ساركوزي، بعد فوزه برئاسة الجمهورية في 2007 وزيرة للعدل، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تصل فيها شخصية من أصول مغاربية إلى منصب وزاري سيادي. وبقيت داتي في هذا المنصب سنتين، لتصبح لاحقاً نائبة في البرلمان الأوروبي ورئيسة بلدية الدائرة السابعة البورجوازية في باريس.

صراع ثلاث نساء
السمة الغالبة على «معركة باريس» أن التنافس للفوز برئاسة بلديتها كان بين ثلاث نساء. فبجانب هيدالغو وداتي، كانت المرشحة الثالثة هي أنياس بوزين، وزيرة الصحة السابقة التي اختارها الرئيس إيمانويل ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام» لتحل محل بنجامان غريفو، الوزير السابق والمرشح المستقيل بسبب فضيحة جنسية. وبوزين نفسها متحدّرة من عائلة يهودية بولندية، تركها والدها بعد خروجه من المعتقل النازي متنقلاً بين فلسطين تحت الانتداب البريطاني ومدينة وهران الجزائرية التي كانت وقتها فرنسية، قبل أن يستقر في باريس. وكان الحزب الرئاسي يمنّي النفس بوضع اليد على بلدية العاصمة، لا سيما أن إيمانويل ماكرون حصل على أعلى نسبة من الأصوات في باريس خلال انتخابات ربيع عام 2017 الرئاسية. وكذلك أصاب حزبه النجاح في الانتخابات الأوروبية، العام الماضي.
من هنا، كانت عين الرئيس وحزبه على العاصمة، وكانت المقاربة أنها في متناول اليد إن لم تكن في الجيب. ولذا، جاء التنافس داخل «الجمهورية إلى الأمام» دموياً، وأدى إلى صراعات نتج عنها انشقاق النائب سيدريك فيلاني - وهو عالم رياضي معروف - الذي شكّل لائحة منافسة للائحة الرسمية للحزب ما ساهم في إغراقه وتعرّضه لهزيمة ساحقة ماحقة، إذ لم تحصل لائحة بوزين على أي مقعد في مجلس باريس البلدي المؤلف من 163 عضواً. وفي النتائج النهائية، حصلت لوائح هيدالغو على 96 عضواً، ما يشكّل غالبية مطلقة مريحة، في حين حصلت لوائح داتي على ستين عضواً. وما زاد في مرارة هزيمة بوزين أنها شخصياً سقطت... وهذا أمر لم يسبق أن عرفته الانتخابات البلدية الباريسية.
أهمية باريس ووزنها
هذا التنافس على العاصمة له ما يبرره وله طابعه الاستثنائي. فباريس تتمتع بوهج عالمي، وهي «المدينة التي لا تنام».
إنها حاضرة غنية التراث والفكر والفن والإبداع وقطب جاذب اقتصادياً. وعلى امتداد التاريخ الحديث، كان لمقر بلديتها دور ريادي في الأحداث الكبرى منذ القرن الثامن عشر. ومن هنا، فإن لـ«القصر البلدي» الواقع في قلب المدينة والمطلّ على نهر السين وكاتدرائية نوتردام، وهجاً خاصّاً... وهو يتمتع ببُعد محلي ودولي على السواء. ومن ذلك أن برنامج كل زيارة دولة لرئيس أو ملك أو أمير لا بد أن يتضمن لقاء رئيس/ أو رئيسة البلدية في مقره/ أو مقرها. كذلك، تتمتع البلدية بميزانية تصل إلى 5.209 مليار يورو وباستثمارات سنوية تزيد على 1.5 مليار يورو. وفضلاً عن ذلك، تُعد بلدية باريس من كبريات الجهات الموظِّفة، إذ يزيد عديد موظفيها (لعام 2019) على خمسين ألف موظف... وهو ما يضاهي عدد موظفي مفوضية الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة.
وفي المقابل، ومع أن بلدية باريس تعاني راهناً من ديون تقارب 7 مليارات يورو، فإن منصب رئيس بلدية باريس يمكن أن يكون منصة أو رافعة لمناصب أعلى، وخير دليل على ذلك أن جاك شيراك - الذي احتل هذا المنصب من عام 1977 وحتى عام 1995 - انتقل منها إلى قصر الإليزيه حيث أمضى 12 سنة رئيساً لفرنسا.
نجاحها لم يأتِ مصادفة
لم يكن للمصادفة دور في وصول أن هيدالغو لمنصب رئيسة بلدية باريس للمرة الأولى في عام 2014. ذلك أنها نجحت للمرة الأولى، وهي مرشحة على لوائح الحزب الاشتراكي، في أن تنتخب عضواً في مجلسها البلدي في عام 2001. ولقد سبق وصف هذه المرأة بأنها ذات «شخصية فولاذية»، حتى إن بعض مَن يعمل معها لا يتردّد في الحديث عن «تسلطها» في العمل وفي التعاطي مع مساعديها. ولقد كان من حظها الكبير أن رئيس البلدية السابق برتراند دولانويه حرص على المساواة بين الجنسين في إدارة البلدية، فاختار هيدالغو مساعدة له لشؤون المساواة بين الجنسين.
وبعدما أصيب دولانويه بطعنة خنجر في 5 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2002، شغلت هيدالغو (بوصفها المساعدة) منصبه، ما سلّط عليها الأضواء ودفعها إلى الواجهة. وشيئاً فشيئاً، جذّرت حضورها في العاصمة. ورغم فشلها بالفوز في دائرتها خلال عام 2007، فإنها بقيت مساعدة دولانويه الأولى المكلفة التطور العمراني والهندسة المعمارية للعاصمة. وبفضل قربها منه، فإنه سعى لأن تكون خليفته على رئاسة البلدية، وهو ما تحقق لها في عام 2014.
قبل عامين، ما كان أحد يتصور أن تنجح هيدالغو بالفوز بولاية ثانية في العاصمة. فالانتقادات ضدها كانت تصبّ من كل حدب وصوب. وكان يؤخذ عليها أزمات السير الخانقة، والأشغال التي تبدأ ولا تنتهي، وتدهور حالة النظافة، وتكاثر المتسولين وتفشي الفقر، وهجرة الباريسيين من العاصمة وتفضيلهم تأجير مساكنهم لكسب المال وتحوّل العاصمة لمدينة سياح منم غير مقيمين، والارتفاع المجنون لأسعار الشقق، وغياب الأمن، فضلاً عن النقص في وسائط النقل العام... كل هذه وغيرها من المآخذ التي فصلت طولاً وعرضاً. إلا أن هيدالغو استطاعت أن تقلب الموازين مستفيدة من محنة «كوفيد - 19» وسرعة تصرفها، خصوصاً من نجاحها في بناء جبهة متراصة تجمع كل اليسار المتحالف مع «الخضر». ثم إنها استفادت من الانقسامات في معسكر حزب «الجمهورية إلى الأمام» وتعذر الجمع بين لوائحه ولوائح اليمين التي قادتها رشيدة داتي.
الطموح والمحطة التالية
السؤال المطروح اليوم هو التالي: هل سيتوقف طموح هيدالغو عند «القصر البلدي» أم أنها تطمح لقصر آخر اسمه «الإليزيه»؟
الواقع أن جاك شيراك كان سبّاقاً، إذ انتقل بعد 17 سنة أمضاها في «القصر البلدي» إلى «الإليزيه». لكن هيدالغو تؤكد لمن يريد أن يسمع أن طموحها هو باريس وتحويلها إلى مدينة خضراء وإنجاح الألعاب الأولمبية التي ستستضيفها في عام 2024.
إلا أن التصريحات شيء والطموحات المخبأة شيء آخر، وطبعاً، لا مصلحة لها اليوم في أن تكشف عن رغباتها العميقة. لكنها تمتلك أوراقاً مهمة، أهمها أنها الشخصية البارزة التي أعادت الحزب الاشتراكي ومعه اليسار إلى الواجهة بعدما كان يحتضر... ولا شيء يمنع مستقبلاً أن تحاول وأن تسعى. ولها في ذلك مؤيدون وأنصار، وقد تكون الشخصية التي ستجرؤ... مقتفية بذلك أثر سيغولين رويال، الشخصية اليسارية الأخرى التي تحدّت في عام 2007 نيكولا ساركوزي على الرئاسة، ولكن من غير أن تصيب النجاح.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».