آن هيدالغو... تحدي تحويل «عاصمة النور» إلى «خضراء»

بعد احتفاظها برئاسة بلدية باريس

آن هيدالغو...  تحدي تحويل   «عاصمة النور» إلى «خضراء»
TT

آن هيدالغو... تحدي تحويل «عاصمة النور» إلى «خضراء»

آن هيدالغو...  تحدي تحويل   «عاصمة النور» إلى «خضراء»

بعد فوزها الكاسح في «معركة باريس»، يوم الأحد الماضي، وقفت آن هيدالغو بين أنصارها، وألقت كلمة تقليدية لتشكر كل من ساهم في فوز لوائحها الواضح للمرة الثانية، ولتؤكد للباريسيين أنها ستكون للسنوات الست المقبلة في خدمتهم من أجل أن تجعل العاصمة الفرنسية مجدداً «عاصمة النور»، ولكن هذه المرة «خضراء»... أي أن تتبع سياسة بيئوية تبعد التلوث وتخفف من أزمات السير الحادة وتضاعف الممرات الخاصة بالدراجات الهوائية، وتشدد على النظافة والأمن. وللعلم، كل هذه القضايا تدخل في إطار الاهتمامات اليومية للمواطنين الباريسيين الذين يبلغ عددهم 2.14 مليون نسمة.

تجلت لحظة التأثر الواضحة في كلمة آن هيدالغو، عندما جاءت على ذكر والديها وبقولها إنهما «كانا ليفخرا» بما حققته من انتصار ليس فقط في بلدية باريس، ولكن على المستوى الوطني في فرنسا بأسرها.
تأخذ هذه العبارة كامل معناها إذا ما وُضعت في إطار مسيرة هيدالغو الاستثنائية. ذلك أن المرأة التي ستتربّع على «عرش» العاصمة الفرنسية لست سنوات إضافية ما كان مقدّراً لها أن تصل إلى هذا المنصب. إلا أن ما يسمى في فرنسا «المصعد الاجتماعي» يعني، من الناحية النظرية، أن كل الأبواب والمناصب مفتوحة أمام أي فرنسي يتمتع بالمواهب الضرورية بغض النظر عن بيئته وأصله ومستوى عائلته الاجتماعي والاقتصادي ومحيطه الثقافي. وبالطبع، كثيرون ينتقدون هذه النظرية ويبرزون الفوارق الفاضحة بين ما هو مبدئي، حيث المساواة كاملة بغض النظر عن الجنس أو اللون أو البيئة... وما هو موجود على أرض الواقع. ولكن، إذا ما نُحّي هذا الجدل جانباً، فإن آن هيدالغو تُعدُّ أفضل تجسيد له.
بطاقة هوية
آن هيدالغو، واسمها الكامل آنا ماريا هيدالغو آلو، ابنة عائلة إسبانية متواضعة. ولدت في مدينة سان فرناندو الواقعة في أقصى الجنوب الإسباني عام 1959 وانتقلت مع عائلتها إلى فرنسا في عام 1962، وهي لا تزال في سن الرابعة من عمرها. والدها كان عاملاً كهربائياً، وأمها خياطة.
ولقد حصلت هيدالغو على الجنسية الفرنسية وهي ابنة الـ14 ربيعاً. إلا أنها في عام 2003، استعادت جنسيتها الإسبانية. وهي اليوم مزدوجة الجنسية، الأمر الذي يتيحه الدستور الفرنسي. إبّان دراساتها الجامعية انتمت باكراً إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي، في عام 1994. وفي تلك الحقبة، كان الحزب يهيمن على الحياة السياسية في فرنسا، مع وصول فرنسوا ميتران في عام 1981 إلى رئاسة الجمهورية، حيث بقي في قصر الإليزيه طيلة 14 سنة، ثم إبان ترؤّس ليونيل جوسبان حكومة اليسار أثناء ولاية جاك شيراك الأولى (1995 - 2002).
في تلك الفترة برزت «كوادر» يسارية كثيرة عملت في الوزارات والرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، وفي المرافق الإدارية التي كانت محرومة منها تحت حكم اليمين، الذي سيطر على مفاصل الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية منذ تأسيس «الجمهورية الخامسة» على يدي الجنرال شارل ديغول في خمسينات القرن الماضي. وكانت آن هيدالغو من بين هذه «الكوادر»، حيث تنقلت في عدة وزارات مستشارة هنا وملحقة هناك. وبفضل قربها من أمين عام الحزب الاشتراكي إبان ترؤس جوسبان للوزارة وما بعدها، عُبّدت الطريق أمامها، مثلما عُبّدت بوجه إيمانويل فالس الإسباني الآخر المولود في مدينة برشلونة، الذي احتل في فرنسا منصب وزارة الداخلية قبل أن يعينه الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولند رئيساً للحكومة. وللعلم، أراد فالس، قبل سنتين، العودة إلى جذوره الكاتالونية فترشح لرئاسة بلدية برشلونة. إلا أن رهانه جاء خاسراً.
هيدالغو، على الصعيد الشخصي، أم لثلاثة أولاد، اثنان منهم من علاقة سابقة بين العامين 1986 و1988 والثالث الذي وُلد في العام 2001 من زوجها الحالي الرجل السياسي جان مارك جيرمان هو نائب سابق تعرّفت إليه عندما كانا يعملان معاً في مكتب مارتين أوبري، وزيرة العمل السابقة ورئيسة بلدية مدينة ليل بأقصى شمال فرنسا.
وهنا يمكن القول إن ما يصح على هيدالغو وفالس، يصح أيضاً على رشيدة داتي، رئيسة لائحة اليمين التقليدي ومنافسة هيدالغو الأولى في الانتخابات المحلية الأخيرة في باريس. ذلك أن بين المرأتين تشابه كبير في المسار، إذ إن داتي التي ولدت على التراب الفرنسي عام 1965 هي الابنة الثانية لعائلة مغربية من 11 ولداً (سبع بنات وأربعة أبناء). وكان والدها، المبارك داتي، عامل بناء وأمها زهرا من أصل جزائري. وبعد دراستها الجامعية في القانون وعملها في الحقل القضائي لسنوات، حصلت على مرتبة قاضٍ. وبفضل علاقات نسجتها مع متنفّذين سياسيين واقتصاديين، تنقلّت في العديد من المناصب. إلا أن الحظ ابتسم لها حقاً عندما اختارها المرشح الرئاسي اليمين نيكولا ساركوزي، بعد فوزه برئاسة الجمهورية في 2007 وزيرة للعدل، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تصل فيها شخصية من أصول مغاربية إلى منصب وزاري سيادي. وبقيت داتي في هذا المنصب سنتين، لتصبح لاحقاً نائبة في البرلمان الأوروبي ورئيسة بلدية الدائرة السابعة البورجوازية في باريس.

صراع ثلاث نساء
السمة الغالبة على «معركة باريس» أن التنافس للفوز برئاسة بلديتها كان بين ثلاث نساء. فبجانب هيدالغو وداتي، كانت المرشحة الثالثة هي أنياس بوزين، وزيرة الصحة السابقة التي اختارها الرئيس إيمانويل ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام» لتحل محل بنجامان غريفو، الوزير السابق والمرشح المستقيل بسبب فضيحة جنسية. وبوزين نفسها متحدّرة من عائلة يهودية بولندية، تركها والدها بعد خروجه من المعتقل النازي متنقلاً بين فلسطين تحت الانتداب البريطاني ومدينة وهران الجزائرية التي كانت وقتها فرنسية، قبل أن يستقر في باريس. وكان الحزب الرئاسي يمنّي النفس بوضع اليد على بلدية العاصمة، لا سيما أن إيمانويل ماكرون حصل على أعلى نسبة من الأصوات في باريس خلال انتخابات ربيع عام 2017 الرئاسية. وكذلك أصاب حزبه النجاح في الانتخابات الأوروبية، العام الماضي.
من هنا، كانت عين الرئيس وحزبه على العاصمة، وكانت المقاربة أنها في متناول اليد إن لم تكن في الجيب. ولذا، جاء التنافس داخل «الجمهورية إلى الأمام» دموياً، وأدى إلى صراعات نتج عنها انشقاق النائب سيدريك فيلاني - وهو عالم رياضي معروف - الذي شكّل لائحة منافسة للائحة الرسمية للحزب ما ساهم في إغراقه وتعرّضه لهزيمة ساحقة ماحقة، إذ لم تحصل لائحة بوزين على أي مقعد في مجلس باريس البلدي المؤلف من 163 عضواً. وفي النتائج النهائية، حصلت لوائح هيدالغو على 96 عضواً، ما يشكّل غالبية مطلقة مريحة، في حين حصلت لوائح داتي على ستين عضواً. وما زاد في مرارة هزيمة بوزين أنها شخصياً سقطت... وهذا أمر لم يسبق أن عرفته الانتخابات البلدية الباريسية.
أهمية باريس ووزنها
هذا التنافس على العاصمة له ما يبرره وله طابعه الاستثنائي. فباريس تتمتع بوهج عالمي، وهي «المدينة التي لا تنام».
إنها حاضرة غنية التراث والفكر والفن والإبداع وقطب جاذب اقتصادياً. وعلى امتداد التاريخ الحديث، كان لمقر بلديتها دور ريادي في الأحداث الكبرى منذ القرن الثامن عشر. ومن هنا، فإن لـ«القصر البلدي» الواقع في قلب المدينة والمطلّ على نهر السين وكاتدرائية نوتردام، وهجاً خاصّاً... وهو يتمتع ببُعد محلي ودولي على السواء. ومن ذلك أن برنامج كل زيارة دولة لرئيس أو ملك أو أمير لا بد أن يتضمن لقاء رئيس/ أو رئيسة البلدية في مقره/ أو مقرها. كذلك، تتمتع البلدية بميزانية تصل إلى 5.209 مليار يورو وباستثمارات سنوية تزيد على 1.5 مليار يورو. وفضلاً عن ذلك، تُعد بلدية باريس من كبريات الجهات الموظِّفة، إذ يزيد عديد موظفيها (لعام 2019) على خمسين ألف موظف... وهو ما يضاهي عدد موظفي مفوضية الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة.
وفي المقابل، ومع أن بلدية باريس تعاني راهناً من ديون تقارب 7 مليارات يورو، فإن منصب رئيس بلدية باريس يمكن أن يكون منصة أو رافعة لمناصب أعلى، وخير دليل على ذلك أن جاك شيراك - الذي احتل هذا المنصب من عام 1977 وحتى عام 1995 - انتقل منها إلى قصر الإليزيه حيث أمضى 12 سنة رئيساً لفرنسا.
نجاحها لم يأتِ مصادفة
لم يكن للمصادفة دور في وصول أن هيدالغو لمنصب رئيسة بلدية باريس للمرة الأولى في عام 2014. ذلك أنها نجحت للمرة الأولى، وهي مرشحة على لوائح الحزب الاشتراكي، في أن تنتخب عضواً في مجلسها البلدي في عام 2001. ولقد سبق وصف هذه المرأة بأنها ذات «شخصية فولاذية»، حتى إن بعض مَن يعمل معها لا يتردّد في الحديث عن «تسلطها» في العمل وفي التعاطي مع مساعديها. ولقد كان من حظها الكبير أن رئيس البلدية السابق برتراند دولانويه حرص على المساواة بين الجنسين في إدارة البلدية، فاختار هيدالغو مساعدة له لشؤون المساواة بين الجنسين.
وبعدما أصيب دولانويه بطعنة خنجر في 5 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2002، شغلت هيدالغو (بوصفها المساعدة) منصبه، ما سلّط عليها الأضواء ودفعها إلى الواجهة. وشيئاً فشيئاً، جذّرت حضورها في العاصمة. ورغم فشلها بالفوز في دائرتها خلال عام 2007، فإنها بقيت مساعدة دولانويه الأولى المكلفة التطور العمراني والهندسة المعمارية للعاصمة. وبفضل قربها منه، فإنه سعى لأن تكون خليفته على رئاسة البلدية، وهو ما تحقق لها في عام 2014.
قبل عامين، ما كان أحد يتصور أن تنجح هيدالغو بالفوز بولاية ثانية في العاصمة. فالانتقادات ضدها كانت تصبّ من كل حدب وصوب. وكان يؤخذ عليها أزمات السير الخانقة، والأشغال التي تبدأ ولا تنتهي، وتدهور حالة النظافة، وتكاثر المتسولين وتفشي الفقر، وهجرة الباريسيين من العاصمة وتفضيلهم تأجير مساكنهم لكسب المال وتحوّل العاصمة لمدينة سياح منم غير مقيمين، والارتفاع المجنون لأسعار الشقق، وغياب الأمن، فضلاً عن النقص في وسائط النقل العام... كل هذه وغيرها من المآخذ التي فصلت طولاً وعرضاً. إلا أن هيدالغو استطاعت أن تقلب الموازين مستفيدة من محنة «كوفيد - 19» وسرعة تصرفها، خصوصاً من نجاحها في بناء جبهة متراصة تجمع كل اليسار المتحالف مع «الخضر». ثم إنها استفادت من الانقسامات في معسكر حزب «الجمهورية إلى الأمام» وتعذر الجمع بين لوائحه ولوائح اليمين التي قادتها رشيدة داتي.
الطموح والمحطة التالية
السؤال المطروح اليوم هو التالي: هل سيتوقف طموح هيدالغو عند «القصر البلدي» أم أنها تطمح لقصر آخر اسمه «الإليزيه»؟
الواقع أن جاك شيراك كان سبّاقاً، إذ انتقل بعد 17 سنة أمضاها في «القصر البلدي» إلى «الإليزيه». لكن هيدالغو تؤكد لمن يريد أن يسمع أن طموحها هو باريس وتحويلها إلى مدينة خضراء وإنجاح الألعاب الأولمبية التي ستستضيفها في عام 2024.
إلا أن التصريحات شيء والطموحات المخبأة شيء آخر، وطبعاً، لا مصلحة لها اليوم في أن تكشف عن رغباتها العميقة. لكنها تمتلك أوراقاً مهمة، أهمها أنها الشخصية البارزة التي أعادت الحزب الاشتراكي ومعه اليسار إلى الواجهة بعدما كان يحتضر... ولا شيء يمنع مستقبلاً أن تحاول وأن تسعى. ولها في ذلك مؤيدون وأنصار، وقد تكون الشخصية التي ستجرؤ... مقتفية بذلك أثر سيغولين رويال، الشخصية اليسارية الأخرى التي تحدّت في عام 2007 نيكولا ساركوزي على الرئاسة، ولكن من غير أن تصيب النجاح.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.