قيس سعيد يطرح من باريس موقف تونس من أزمة ليبيا

اصطفاف إلى جانب فرنسا ضد الدور التركي

قيس سعيد يطرح من باريس موقف تونس من أزمة ليبيا
TT

قيس سعيد يطرح من باريس موقف تونس من أزمة ليبيا

قيس سعيد يطرح من باريس موقف تونس من أزمة ليبيا

بعد 8 أشهر من دخول قيس سعيد قصر قرطاج الرئاسي، زار الرئيس التونسي العاصمة الفرنسية باريس على رأس وفد رسمي، فكرس تقليدا اتبعه أسلافه الذين جعلوا باريس وجهتهم الأولى في تحركاتهم الدولية، بعد زيارة رمزية إلى «الجارة» الجزائر وتبادل المبعوثين والرسائل مع القادة العرب وبقية زعماء العالم. وطرحت الزيارة عدة تساؤلات، أبرزها:
هل هي مؤشر لمصالحة سعيد مع فرنسا والعواصم الغربية التي انتقدته منذ انتخابات الخريف الماضي واتهمته حينا بـ«التعاطف مع التطرف الديني» وحينا آخر بـ«التشدد السياسي» بسبب بعض تصريحاته التي اتهم فيها كل من يتعامل مع إسرائيل بـ«الخيانة الوطنية»؟ وهل حصل سعيد على دعم اقتصادي وسياسي قوي لحكمه ولتونس ومصالحها في ليبيا بعد قمته الأولى مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون أم ستتسبب له هذه القمة وتصريحاته في باريس في متاعب داخلية وخارجية جديدة، بعدما اتهمه معارضوه بـ«إلحاق أذى بمصالح ملايين التونسيين في غرب ليبيا»، والانخراط في «لعبة محاور دولية» بالوقوف مع فرنسا وروسيا ضد الولايات المتحدة وإيطاليا وتركيا و«حكومة الوفاق» الليبية برئاسة فايز السراج؟ وهل ستساهم هذه القمة الأولى بين ماكرون وسعيد في دفع السياسة الخارجية التونسية نحو انخراط أكبر في جهود التسوية في ليبيا ضمن حلف استراتيجي إقليمي جديد ترعاه فرنسا، ويشمل كذلك الجزائر ومصر والمغرب؟
تباينت ردود الفعل على نتائج القمة الأولى بين الرئيسين التونسي قيس سعيد ومستضيفه الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس وتصريحاتهما عن ليبيا وعن الحقبة الاستعمارية بين مرحب ومعارض. إذ نوه وزيرا المالية نزار يعيش والخارجية نور الدين الري، اللذان رافقا سعيد في زيارته، بالنتائج الاقتصادية، وبينها تقديم قرض فرنسي جديد لتونس قيمته 350 مليون يورو، أي حوالي 400 مليون دولار أميركي.
كذلك نوه الخبير التونسي في السياسة الدولية فرج معتوق باتفاق الوفدين التونسي والفرنسي على «ترفيع نسق الشراكة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية بين البلدين، بما في ذلك عبر إحداث خط حديدي سريع من نوع تي جي في الفرنسي من المقرر أن يربط أقصى شمال تونس بجنوبها، على غرار الخط الذي أنجزته مؤسسات فرنسية في المغرب للربط بين مدينتي طنجة شمالاً والدار البيضاء في وسط البلاد.

اتفاقيات قديمة
إلا أن بعض السياسيين والخبراء الاقتصاديين والماليين في تونس، مثل الأكاديمية جنات بن عبد الله، قللوا في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» من أهمية هذه الاتفاقات، واستدلوا بكون «الرئيس الفرنسي ماكرون أكد بوضوح في مؤتمره الصحافي المشترك مع سعيد في قصر الإليزيه أن القرض الفرنسي الجديد يمثل قسطا جديدا من قرض مدته 5 سنوات اتفقت عليه سلطات البلدين منذ 2017. قيمته حوالي مليار و700 مليون يورو، أي حوالي ملياري دولار أميركي.
أيضا، انتقد رضا الشكندالي، المدير العام السابق لمركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية «سيريس»- في تصرح لـ«الشرق الأوسط» عدم «تقديم فرنسا أي دعم مالي جديد لتونس التي تمر بصعوبات هيكلية، وأخرى ظرفية، ومن المقرر أن تسجل لأول مرة نسبة نمو سلبية هذا العام بحوالي 7 نقاط»، وانتقد «الترويج لاتفاقيات قديمة مُبرمة في 2017 وكأنها مبادرة جديدة».
كذلك قلل عز الدين السعيدان، المدير العام السابق لعدد من البنوك التونسية والعربية في تونس، من أهمية هذا المبلغ وغيره من «القروض الميسرة» التي تحصل عليها تونس من فرنسا والبلدان الأوروبية «مقارنة بحاجياتها المالية المتزايدة وعجزها عن تسديد ديونها التي أصبحت لأول مرة في تاريخها تتراوح بين 60 و90 في المائة من الناتج الخام». لكن الخبير الاقتصادي والناطق الرسمي باسم حزب «قلب تونس» سجل أن فرنسا وأغلب دول الاتحاد الأوروبي ذاتها تمر بأزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة يرجح أن تتسبب في انخفاض ناتجها الخام بحوالي 12 نقطة مئوية.
من جهته، اتهم الخبير الاقتصادي جمال العويديدي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» فرنسا والمشرفين على الإحصائيات الاقتصادية والتجارية في تونس بـ«المغالطة» و«التلاعب» عندما تحتسب صادرات الشركات الفرنسية والأوروبية المتمركزة في تونس ضمن «الصادرات التونسية» بينما يتعلق الأمر بمؤسسات لا تتجاوز مساهمة رأس المال التونسي فيها الـ30 في المائة وتتمتع بإعفاءات كبيرة من الضرائب والرسوم الجمركية. إلا أن الإعلامي والخبير الاقتصادي توفيق الحبيب سجل أن حصول تونس على القسط الجديد من القرض المبرم في 2017 «مهم في حدا ذاته»، وما كان ليتحقق لولا زيارة الرئيس سعيد والوفد المرافق له إلى باريس.

إفساد زيارة الرئيس
لكن الأهم في القمة التونسية - الفرنسية الأولى لم يكن اقتصاديا بل كان سياسيا ودبلوماسيا، على حد تعبير ساسة بارزين من خصوم حزب «حركة النهضة»، مثل رئيس «كتلة الإصلاح» في البرلمان التونسي حسونة الناصفي، الذي نوه بتصريحات سعيد التي عارضت التدخل التركي في ليبيا، واعتبر فيها أن «شرعية حكومة طرابلس مؤقتة وتحتاج إلى تحسين عبر تنظيم انتخابات جديدة».
وفي الاتجاه نفسه، اتهم المحامي والبرلماني المثير للجدل هيكل المكي، القيادي في حزب الشعب القومي العروبي، قيادات «حركة النهضة» بـ«محاولة إفساد زيارة الرئيس إلى فرنسا»، وبالوقوف وراء مجموعة الشباب الذين تجمعوا بالقرب من مبنى تابع للسفارة التونسية في باريس، ورفعوا شعارات سياسية ضد الرئيس سعيد حملته مسؤولية قمع الشباب العاطل عن العمل المتظاهر في مدينة تطاوين بأقصى الجنوب التونسي. ولقد نفى الناطق الرسمي باسم «النهضة» خليل البرعومي هذه التهمة، وأورد أن قيادة حركته «تحترم مقام رئيس الدولة»، واستدل على ذلك بـ«مشاركة رئيسي البرلمان راشد الغنوشي والحكومة إلياس الفخفاخ في الاحتفال الرسمي الذي نظمه الرئيس سعيد في ثكنة عسكرية بعد يوم واحد من عودته من باريس بمناسبة إحياء ذكرى تونسة الجيش الوطني».
لكن الناطق باسم «النهضة» ورفاقه انتقدوا التصريحات التي أدلى بها الرئيس التونسي في فرنسا والتي «ناقشت الخلافات التونسية - التونسية خارج أرض الوطن»، وتلك التي ووجهت انتقادات لرئيس البرلمان راشد الغنوشي بسبب المكالمة التي أجراها مع رئيس «حكومة الوفاق» الليبية فايز السراج بعد تقدمها على قوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة المشير خليفة حفتر.

تصدع الجبهة المساندة للرئيس
على صعيد متصل، كان من أبرز النتائج المباشرة لزيارة قيس سعيد إلى فرنسا وتصريحاته فيها تصدع الجبهة التي ساندته منذ حملته الانتخابية ضد منافسه رجل الأعمال الليبيرالي نبيل القروي. وكذلك تصدعت «جبهة الحداثيين واليساريين» التي دعمت القروي في انتخابات 13 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وانحاز كثير منهم إلى الرئيس سعيد بهدف مزيد من تشجيعه على الابتعاد عن «حركة النهضة» وحلفائها و«الإخوان».
وحقاً، توشك مواقف سعيد في باريس وردود الفعل عليها في تونس وليبيا أن تخلط الأوراق بقوة في المشهد السياسي التونسي، وفي علاقات الساسة بالملف الليبي والأطراف الدولية المتدخلة فيه. وهذا يشمل قيادة القوات الأميركية في أفريقيا «أفريكوم»، التي عقدت أخيراً مباحثات سياسية عسكرية رفيعة المستوى في تونس وفي مدينة زوارة الليبية، التي تبعد حوالي 50 كلم فقط عن الحدود التونسية - الليبية في رأس الجدير. كذلك، تزامنت هذه التحركات السياسية بترفيع نسق التحركات العسكرية العلني بحراً وجواً من قبل قطع بحرية ومقاتلات فرنسية وتركية في خليج قابس التونسي على مسافة 100 كلم شمالي الحدود البحرية الليبية التونسية، وبالقرب من الموانئ الليبية. وفي الوقت نفسه، ساهم كشفت مصادر فرنسية وأخرى تركية عن جوانب من «المواجهة الباردة» بين القطع البجرية الفرنسية والتركية... بوادر تصعيد وخلط للأوراق في تونس وليبيا.

التنافس الفرنسي ـ الأميركي
من جهة أخرى، انطلقت «حرب باردة» عبر وسائل الإعلام الرسمية والاجتماعية بين أنصار التقارب مع فرنسا الذين يعارضون الدور التركي وتقارب أنقرة مع روما في ليبيا. ولقد أثارت تصريحات قيس سعيد في باريس حملات دعائية عنيفة ضده وأخرى مناصرة له في وسائل الإعلام الرسمية والاجتماعية. وكانت المفاجأة سرعة تخلي معظم رموز التيارات العروبية الإسلامية الذين وقفوا إلى جانب سعيد خلال الأشهر الماضية عن «الرئيس النظيف والوطني»، واتهامهم إياه بـ«خيانة الوطنيين الذين حاربوا الاحتلال الفرنسي»، وذلك لوصفه السنوات الـ75 سنة من الاستعمار بـ«الحماية» بدلاً من «الاحتلال»، ورفضه الضغوط التي بدأ يطلقها برلمانيون وسياسيون تونسيون على باريس لمطالبتها بالاعتذار والتعويض عن الخسائر التي ألحقتها بالمستعمرات الأفريقية والعربية السابقة، وبينها تونس.
وفي هذا النطاق توجه سيف الدين مخلوف، المرشح للدور الأول للانتخابات الرئاسية ورئيس كتلة «ائتلاف الكرامة» في البرلمان التونسي بانتقادات حادة إلى سعيد ورماه بـ«خذلان من دعموه» بقوة ضد منافسه في الدور الثاني للانتخابات نبيل القروي. أيضاً، اتهمه بخذلان الوطنيين الذين حاربوا الاستعمار من خلال «الخلط بين المفاهيم» وتبني مصطلحات «المستعمر» التي تعتبر أن الاحتلال الفرنسي لتونس ما بين 1881 و1956 كان لـ«حماية» البلاد، وأن «الجرائم الاستعمارية» كانت مجرد «معارك مع الإرهابيين» ما يجعل من الشهداء الوطنيين مجرد «ضحايا». كذلك انتقد البرلماني عن «الكرامة» الكاتب عبد اللطيف العلوي رفض الرئيس التونسي مطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائمها في مرحلة احتلالها المباشر للبلاد. ثم إنه، على الرغم البلاغات الرسمية الصادرة عن «النهضة» التي تؤكد على «احترام مقام رئيس الجمهورية» انطلقت المواقع القريبة منها في حملة دعائية ضد الرئيس التونسي بسبب موقفه من ليبيا.
وفي المقابل، اصطف قطاع كبير من خصومهم ضد «النهضة» وحلفائه ودعموا مواقف سعيد المعارضة لما وصفوه «الاحتلال التركي العثماني الجديد لليبيا»، وانخرط قياديون من نقابات العمال والأحزاب العلمانية في التشهير بانتقادات زعماء بعض المحسوبين على «الإسلام السياسي» للرئيس سعيد، وكان بين من شملتهم الانتقادات سيف الدين مخلوف.

الحرب في ليبيا... والمعارك في تونس
ختاماً، حذرت مواقع كثيرة مقربة من الرئيس سعيد ومن توظيف نتائج زيارة الرئيس إلى فرنسا وتصريحاته للتهجم على «رموز الدولة» ومن تورط بعض الساسة مباشرة أو غير مباشرة في لعبة المحاور الدولية في ليبيا. وخرج بعض كبار المسؤولين العسكريين السابقين، منهم المدير العام السابق للأمن العسكري أمير اللواء محمد المؤدب، عن صمتهم... ودعوا كل الأطراف في تونس إلى الحياد، محذرين من «سيناريو» عودة التصعيد العسكري والأمني في ليبيا لسنوات. وكذلك شدد عدد من كبار السياسيين، بينهم عدد من وزراء الخارجية السابقين مثل الحبيب بن يحيى وأحمد ونيس والمنجي الحامدي وخميس الجهيناوي، على ضرورة تمسك الدبلوماسية التونسية بثوابتها وفي صميمها «الحياد الإيجابي وتحاشي التدخل في الشؤون الداخلية للدول» كي لا تجد تونس الصغيرة نفسها يوما في وضع أكثر تعقيدا... فتغدو الحرب في ليبيا والمعارك في تونس.

ورقة التاريخ والجغرافيا سلاح سياسي في تونس
> فجر الجدل بمناسبة زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى فرنسا وامتناع البرلمان التونسي عن المصادقة على مشروع لائحة تطالب فرنسا بالاعتذار عن جرائم الحقبة الاستعمارية جدلا بين المثقفين والمؤرخين والسياسيين التونسيين.
إذ شكك بعض كبار المؤرخين والأكاديميين، مثل محمد ضيف الله، في العمق المعرفي لرئيس الدولة وفي ثقافته التاريخية وفي استيعابه للعلوم الخارجة عن سياق تخصصه في القانون الدستوري. وانتقد هؤلاء التعامل من موقعه كخبير قانوني مع ظاهرة الاحتلال، عندما وصف احتلال تونس بكونه كان «حماية». وهذه هي التسمية التي أطلقتها سلطات فرنسا الاستعمارية على احتلال تونس خلال الفترة بين عامي 1881 و1956. والمغرب الأقصى ما بين 1912 و1956، وميزت بين وضعيتها القانونية وشكل احتلالها للجزائر ما بين 1830 و1963. والتي كانت تصفها بـ«الجزائر الفرنسية»... ولذا، رفضت المصادقة على الاعتراف باستقلالها في الخمسينات من القرن الماضي رغم سقوط عشرات آلاف الشهداء والضحايا.
محمد ضيف الله قال شارحاً رداً على تصريحات الرئيس سعيد «حتى لو تمسكنا بالتسمية القانونية لاتفاقية الحماية المفروضة في 12 مايو (أيار) 1881. فإنها لم تكن إلا خطوة أولى، عقبتها اتفاقية المرسى المفروضة أيضا في 8 يونيو (حزيران) 1883 التي أصبحت فرنسا بموجبها تتحكم في كل شيء في تونس، بشرا وثروات». وتابع «يبدو أن قيس سعيد لم يقرأ تاريخ تونس. وواضح أيضاً أن التخصص في القانون والاشتغال بالسياسة كلاهما يتطلب حدا أدنى من معرفة العلوم الإنسانية والاجتماعية ومن بينها التاريخ».

في المقابل دعا المؤرخ الحبيب القزدغلي، العميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة منوبة (غربي العاصمة تونس)، في مقال مشترك مع المؤرخة والأستاذة في جامعة تولوز الفرنسية كوليت زيت نيكي إلى «أبعاد السياسة عن دراسة التاريخ والعلوم الإنسانية» ورفض «توظيفهما في المعارك السياسية والبرلمانية». وتوجها بنداءات إلى المؤرخين التونسيين والفرنسيين وزملائهم في المنطقة ناشدوهم فيها إجراء أبحاث علمية تاريخية مشتركة عن الحقبة الاستعمارية بعيداً عن كل أشكال الانتقاء والإقصاء والتوظيف.
من جهة أخرى، أورد المؤرخ خليفة شاطر، المدير العام السابق للمكتبة الوطنية التونسية والعميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة تونس، أنه شارك منذ 1982 مع مجموعة من الجامعيين والساسة التونسيين والفرنسيين في نقل نسخ من الأرشيف السري العائد لعهد الاستعمار الفرنسي لتونس، وقال بأنه «موضوع على ذمة الباحثين والجامعيين منذ حوالي 40 سنة ولا داعي في نظره لمزايدات السياسيين». وتوقف سعيد بحيرة، المؤرخ الأكاديمي والكاتب العام السابق لوزارة الخارجية التونسية، عند الخلافات حول قراءة التاريخ المعاصر للمستعمرات الفرنسية والبريطانية في المنطقتين العربية والأفريقية ودعا إلى تناولها بحكمة ومنهجية علمية بعيدا عن الاعتبارات السياسية الظرفية. وسجل في مقال نشره بمناسبة زيارة سعيد الأولى إلى فرنسا أن الرئيس التونسي الجديد «يختلف عن الرؤساء السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي والمنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي الذين تخرجوا من مدارس فرنسا وجامعاتها». وأردف «قيس سعيد أصيل منطقة الوطن القبلي (70 كلم شمالي شرقي العاصمة تونس) التي شهدت أعنف الحملات القمعية استعمارية في بداية 1952… ومنها موطنه منطقة بني خيار التي احتلها الجنود الفرنسيون ثلاثة أيام من 29 يناير (كانون الثاني) إلى فاتح فبراير (شباط) 1952 وجرى نسف المنازل وتعذيب السكان وترويعهم وقتل أحد المقاومين وتغريم الأهالي بمائة ألف فرنك...».
وعقب بحيرة قائلاً «... وقيس سعيد متدين على الطريقة التونسية التي تربط بين الدين والسياسة... ويرى فيه عدد كبير من الشباب مثالا للقائد الوطني النزيه الذي يحمل جينات الوطنية التونسية... فهو يحترم رموزها وذكرياتها، وهو قريب من نقاباتها والمنظمات التي لعبت دوراً في تاريخ تونس في مرحلتي الكفاح ضد الاستعمار وبناء الدولة الحديثة، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين واتحاد المرأة...».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.