التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

الشعب أمام خياري «الاستقرار السياسي» أو «فوضى البحث عن خليفة»

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036
TT

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

لم يسبق أن أثار استحقاق سياسي داخلي في روسيا الجدل الكبير المثار الآن، والسجالات التي لم تهدأ منذ أن بدأت مسيرة إقرار التعديلات الدستورية في مارس (آذار) الماضي.
يدور السجال بين موقفين، يرفع أولهما لواء «الاستقرار السياسي»، وأن الرئيس فلاديمير بوتين هو الشخص القادر على إمساك الأمور بيد قوية والمحافظة على الإنجازات التي تحققت على مدار سنوات. كما أنه الزعيم القادر على مواجهة خطط الغرب المتواصلة لإضعاف روسيا وتطويقها عسكرياً وإنهاكها اقتصادياً. في حين ترى أوساط المعارضة، أن هذا الاستحقاق يغلق مرحلة الإصلاحات السياسية في روسيا نهائياً، ويفتح على مرحلة جديدة، يتحول فيها «زعيم الأمة» المتوّج، منذ 20 سنة في الكرملين، إلى شخصية تمسك مقاليد الحكم بقوة ولفترة غير محددة، سواء بقي في الكرملين أم قرّر التنحي لاحقاً، وقرر تسليم السلطة إلى رئيس آخر يواصل المحافظة على «النظام» كما أرسى قواعده بوتين بنفسه.
الرئيس الروسي نفسه، فضّل أن يترك النقاش في هذا الاتجاه للخبراء و«الماكينة» الإعلامية الضخمة، وأعلن أنه يثق بإرادة الناس. لكنه أدار كفة النقاش بقوة قبل يومين، عندما أعلن أنه لا يستبعد ترشيح نفسه لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء ولايته الحالية في العام 2024.
بدا التحول مثيراً، إذ تحدث الرئيس الروسي فلاديمير عن احتمال ترشحه من جديد، حتى قبل مرور التعديلات الدستورية المقترحة، في امتحان التصويت العام، الذي يجري مطلع الشهر المقبل، ما عكس ثقة لدى الكرملين بأن النتيجة محسومة لصالح التعديلات. إلا أن الأهم والأكثر إثارة هو المبرّر الذي طرحه الرئيس لهذا التوجه، فهو استند إلى «تجارب سابقة» عندما كانت تحدث بعض التغييرات، ويبدأ جيش من الموظفين والمسؤولين البحث عن ترتيبات للمحافظة على مكتسباتهم وعلى مصالحهم، مع إطلاق التكهنات الكثيرة حول الخليفة المحتمل للرئيس الحالي.
هكذا أوضح بوتين ببساطة وبشكل مباشر المدخل المناسب والعنوان الأبرز لهذه التعديلات الدستورية، لا تضيعوا وقتكم في البحث عن تكهنات، ولا في محاولات المحافظة على كراسيكم... لأن النظام باقٍ وراسخ!

مضمون التعديلات
اللافت أنه في زحمة السجالات حول الشقّ المتعلق بـ«تصفير العداد الرئاسي»، ما يعني أن بوتين وفقاً للتعديلات الدستورية سيكون له الترشح مجدداً لولايتين رئاسيتين جديدتين، تستمران حتى عام 2036، غابت عن النقاش العام تفاصيل كثيرة، أثارت جدلاً، لا يقل عنفاً، بينها فقرات حول تعريف روسيا والشعب الروسي، وتضع روابط دينية وتاريخية، لا يبدو كل الروس متفقين عليها.
وفضلاً عن فكرة الانتماء إلى «الأسلاف الذين نقلوا إلى الأجيال الإيمان الحي بالله»، وهي فكرة قال بعضهم إنها لا تنطبق على روسيا التي اعتنقت المسيحية قبل 1000 سنة فقط، وإشارة أخرى إلى روسيا الحالية، التي تعد «وريثة من الاتحاد السوفياتي»، وهي أيضاً مختلَفٌ عليها، لأن البعض رأى فيها أمراً وقتياً مرتبطاً بمعالجة ملفات سياسية وطموحات محددة، ولا يمكن أن تكون في وثيقة تشكّل العقد الأساسي للمجتمع والدولة في المستقبل.
على أي حال، تركز الحملات الدعائية على الشق المعيشي الاقتصادي في التعديلات، التي تمنح السلطات التنفيذية آليات لتوسيع محفظة الرعاية للنظام الصحي والتعليمي وحماية الأطفال والمتقاعدين وبعض العناصر الأخرى المماثلة. هنا يقول خبراء إن تقديم التعديلات كرزمة واحدة للتصويت هدف إلى تمرير الأهداف السياسية من التعديلات، في قالب عملية إصلاح دستورية شاملة.
في المقابل، لا تكاد تهدأ اعتراضات الطرف الآخر، الذي رأى أن تعجّل الكرملين في حسم عملية تمرير الوثيقة بهدف حسم ملف بقاء بوتين في السلطة، ستكون له تداعيات كثيرة، ليس فقط من بوابة عودة روسيا إلى النموذج السوفياتي لزعماء يحكمون إلى الأبد، مع إغلاق الطريق نهائياً في هذه المرحلة أمام أي محاولة لإصلاح سياسي في البلاد. فالأخطر من ذلك، من وجهة نظرهم، أن التسرع في تمرير الوثيقة وهي محملة بألغام وأعباء جدلية، ستحمل عواقب لاحقاً، وستكون روسيا مضطرة في غضون سنوات للعودة مجدداً إلى تعديل الدستور لإصلاح ما تم وضعه، أو لوضع دستور جديد كامل للبلاد. والأمر الأخير، اقتُرح غير مرة خلال السنوات الأخيرة، انطلاقاً من فكرة أن الدستور الحالي وُضع إبان فترة فوضى شاملة في البلاد، وأن تبدلات كثيرة طرأت على روسيا والعالم منذ ذلك الحين. لكنّ بوتين عارض بحزم طرح فكرة وضع دستور جديد.

الاستفتاء يتحدى «كوفيد - 19»
من ناحية أخرى، في إطار التحذير من تعرض البلاد لنكسة كبرى على صعيد تفشي جائحة «كوفيد - 19»، أثناء عمليات التصويت الواسعة، واتهام الكرملين أنه «لا يبالي بهدف تمرير الاستحقاق السياسي بالمخاطر التي قد تترتب على تنظيم فعاليات كبرى من هذا النوع»، لفت خبراء روس إلى ما وصف بأنه «قائمة مخاطر». ومن هذه المخاطر احتمال احتشاد تجمّعات كبيرة أمام مراكز الاقتراع، وكذلك التدابير المتخذة لتوفير الأمن الصحي لنحو مليون موظف ومراقب في لجان الدوائر الانتخابية في كل البلاد. وبرزت اقتراحات في وقت سابق بضرورة إخضاع هؤلاء لفحص إلزامي وعزل المصابين منهم أو الذين يعانون من أمراض مزمنة، كونهم يدخلون في إطار «فئات الخطر»، وكان من شأن هذا فتح الباب على مشكلة أخرى، إذ سيكون من الصعب في كثير من الحالات ضمان حضور العدد الكافي من الموظفين في الدوائر المختلفة لحظة بدء عمليات التصويت.
وبالنتيجة، جرى التخلي جزئياً عن فكرة الاختبار الشامل لأعضاء اللجنة. واستعيض عنها بإجراء الفحوص «إذا لزم الأمر» وإذا تطلب الوضع الوبائي في المنطقة ذلك. لكن هذا الحل أثار مزيداً من التشكيك... إذ ما هي ضمانة عدم وجود حاملين للفيروس بين 900 ألف عضو في اللجان، بما في ذلك حاملو المرض من دون ظهور الأعراض؟
يبدو السؤال وكأنه يلقي تهمة على الجهات المختصة، غير أن عدداً من لجان الانتخابات الفرعية سارعت إلى تبرير موقفها، كما حدث في جمهورية بشكيريستان، الذاتية الحكم، التي ذكرت لجنة الانتخابات فيها أنه من «غير الواقعي» اختبار 33000 عضو من أعضاء لجنة الانتخابات المحلية، واتضح أنه لا توجد أصلاً موازنات مخصصة لذلك.
في هذه الظروف، تساءل معارضون، مَن يتحمل إذن مسؤولية وقوع أخطاء، أو مواجهة موجة جديدة من تفشي الجائحة بسبب الإصرار على التصويت في هذا الوقت؟

استفتاء... أم تصويت عام
عنصر خلافي آخر برز في مرحلة التحضيرات لهذا التصويت المثير للجدل، إذ تحدث خبراء في القانون عن ثغرة مهمة، مفادها أن الدستور الروسي لا ينص أصلاً على إجراء استفتاء على تعديل دستوري. وأن الاستفتاء ينبغي أن يكون بعد إعداد دستور جديد للبلاد. لذلك اندفع برلمانيون إلى تبرير هذا الأمر، تحسباً لاستغلال المعارضة هذا السجال للتشكيك بشرعية التصويت والنتائج التي ستسفر عنه.
وقالت اللجنة القانونية في مجلس الفيدرالية (الشيوخ) إن «ما لدينا اليوم ليس دستوراً جديداً، فهذه بعض التغييرات على نص الدستور الحالي، ولهذا ليس من الضروري إجراء استفتاء. إذ يجري الحديث عن تصويت عام وليس عن استفتاء».
لكن المواطن الروسي البسيط لا يفهم الفرق بين التصويت العام والاستفتاء... و«هل يوجد فرق أصلاً»؟ هكذا كتب المعارض ديمتري غودكوف بلهجة مستنكرة.
يشير قانونيون إلى أن قرارات مجلسي «الدوما» (النواب) والفيدرالية (الشيوخ) والبرلمانات المحلية في الأقاليم الفيدرالية الـ85 كافية تماماً لإدخال تعديلات على فقرات من الدستور، ولكن نظراً لأن نطاق التغييرات كبير جداً، قرر الكرملين «سد الثغرات» كي لا يقال إنه تمت «فبركة» تعديلات تمنح الرئيس فرصة للبقاء في السلطة إلى الأبد. وهذا الأمر أوضحه بوتين بضرورة «التوجه مباشرة إلى الشعب». وعليه، فالمطلوب موافقة شعبية واسعة، وليس مهماً أن تحمل العملية صفة تصويت عام أم استفتاء.

تعقيدات وظروف
كان من المقرر التصويت على التعديلات في عموم روسيا خلال أبريل (نيسان) الماضي، لكن «كوفيد - 19» أطاح بالعملية، وحُدد موعد لاحق لها في أول يوليو (تموز) المقبل. لكن في الواقع، بدأ التصويت قبل ذلك بأسبوع. وبهدف تجنب تجمّعات ضخمة، فُتحت مراكز التصويت أبوابها أمام المواطنين في 25 يونيو (حزيران). بالإضافة إلى ذلك، سيتمكن سكان موسكو ومنطقة نيجني نوفغورود من الإدلاء بأصواتهم إلكترونياً عن بعد خلال أسبوع كامل.
هذا الإجراء تسبب في مشكلة جديدة، إذ سرعان ما ادّعى معارضون ومراقبون أنهم قاموا بتجربة ذاتية للتصويت مرتين. وذكر الصحافي التلفزيوني بافل لوبكوف، الذي يعمل مقدماً لبرنامج في قناة «دوجد» المعارضة، أنه صوّت في مركز الاقتراع قرب منزله، وصوّت مرة أخرى إلكترونياً بعد مرور ساعة واحدة. وما أن انتشر الخبر حتى سارع كثيرون إلى القول إنهم شهدوا خروقاً مماثلة في عدد من مراكز الاقتراع. وصحيح أن لجنة الانتخابات المركزية سارعت بدورها إلى إعلان نيتها معاقبة المقصّرين في اللجان الانتخابية الذين تجاهلوا شطب اسم الناخب من اللوائح بعد تسجيله إلكترونياً، لكن الواقعة ألقت بظلال ثقيلة على عملية التصويت حتى قبل انتهائها وحسم النتائج.

تصويت «للمحافظة على النظام»
الخبراء يحاولون تلمس المرحلة المقبلة، ولا سيما ما يريده الرئيس بوتين، وسط الجدالات الساخنة الكثيرة حول نيته الترشح لفترة رئاسية جديدة، بعد انتهاء ولايته الحالية في العام 2024. ومنها الجدال بين أنصار «نعم للاستقرار السياسي» و«لا لتقويض أسس تبادل السلطة». وهل تخلّى فلاديمير بوتين عن فكرة البحث عن خليفة له.
بوتين نفسه أعطى الجواب «موارباً» من خلال حديثه عن احتمال ترشحه: «إذا لم يحدث هذا، فأنا أعرف ذلك من تجربتي الخاصة، أنه بدلاً من العمل الإيقاعي العادي على مستويات كثيرة جداً من السلطة، سيبدأ التثاؤب خلال البحث عن خلفاء محتملين».
ويذكر خبراء أن تصريحات مماثلة صدرت عن بوتين عام 2017. عندما سعى باستمرار لمواجهة سؤال ما إذا كان سيرشّح لولاية رابعة. وقال الرئيس حينذاك إنه بعد الإعلان عن بدء الحملة الانتخابية «توقف الجميع على الفور عن العمل وانشغلوا بالتفكير في كيفية الحفاظ على كراسيهم».
هذه العبارة اللافتة فسرتها صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» في افتتاحية نارية بأنها «تعكس معيار بوتين الذي يعتقد أنه يجب الحفاظ على النظام في حالة جيدة، أي في حالة بعيدة من أي توتر».
وأوضحت أن كلمات بوتين حول «التثاؤب» هي «إعلان صادق تماماً عن مخاوف ونوايا الرئيس الحالي في السلطة منذ 20 سنة، وهو يعرف تماماً النظام الذي بناه، ويرى تحولاته الداخلية، ويفهم منطق البيروقراطية على جميع المستويات. والأشخاص المشاركون في السلطة يشكلون مجموعة من (مراكز النفوذ)، وينمون الطموحات. ويمكن أن يتحول صدام الطموحات إلى حتمية يصعب السيطرة عليها بمجرد أن يصبح معروفاً بالتأكيد أن رأس الهرم سيغادر. هذا لا ينبغي أن يحدث. بل أكثر من ذلك، يجب أن يعتقد الجميع أن بوتين لن يذهب إلى أي مكان».

البحث عن خليفة
وهل هذا يعني نهاية عملية «البحث عن خليفة» التي شغلت الأوساط السياسية طويلاً؟ يقول خبراء إنه على الأرجح بعد اعتماد التعديلات، سيترك بوتين لنفسه مجالاً كبيراً للمناورة السياسية. ومن المرجح أن يستمر في البحث عن خليفة، لكنه لن يتقيد بالأطر الزمنية. قد يعلن بوتين في نهاية عام 2023 أنه لن يقبل ولاية جديدة. ويمكن أن يذهب إلى ولاية جديدة لوضع الترتيبات اللازمة، ثم يقرر المغادرة في وقت مبكر. وأخيراً، يمكنه حقاً أن يظل في السلطة لمدة 6 سنوات أخرى كاملة. ومن ثم، إذا لم تتغير العملية، لكن تغيرت آليات التحرك، سيغادر بوتين عندما يهيئ بنفسه الظروف المناسبة لذلك، ولن يتسرع في إعداد رحيله في الوقت الذي ينص عليه القانون.
هكذا ينظر خبراء السياسة الروس الذي يتمتعون بدرجة كبيرة من الاستقلالية، إلى احتمالات تطور الموقف. ويستند بعضهم إلى أنه «لمدة 20 سنة، اعتاد المجتمع على خطوات غير متوقعة من بوتين. لم يتوقع أحد أن يصبح فيكتور زوبكوف رئيساً للوزراء عام 2007، لكنه أكمل مهمته وذهب إلى الظل. وبالطريقة ذاتها، لم يتوقع إلا قلة تعيين ميخائيل ميشوستين رئيساً للحكومة هذا الشتاء. يسترشد بوتين بمنطقه الخاص، ولا يهتم بالاستفسارات والتوقعات العامة».
ويقرّ الخبراء بأن «الاستقرار» المنشود من التعديلات الدستورية «ليس استقرار المؤسسات، باعتبار أن تلك «كان يمكن أن تحظى باهتمام أكبر لتطويرها في ظل السلطات الرئاسية الحالية». بل بدلاً من ذلك - كما يشير أحدهم - «يجري ضمان استقرار النظام الذي أنشئ، وتثبيت قواعد اللعبة الداخلية، والمحافظة على مبدأ السلطة الفردية. وهكذا، يفكر فلاديمير بوتين في خليفة يحمي مصالح الرئيس الحالي. أي بنفس المنطق بالضبط، الذي جعل منه خليفة بوريس يلتسين قبل 20 سنة».

المعارضة تدعو لرصد الانتهاكات
في المقابل، دعا السياسي المعارض، أليكسي نافالني، الروس إلى انتهاج استراتيجية تقوم على رصد عمليات التزوير في التصويت وتسجيل وقائع الإكراه للتصويت. ويعتقد نافالني أن التعديلات «اعتمدت بالفعل؛ حيث تدخل التعديلات على الدستور حيز التنفيذ بعد موافقة ثلثي البرلمانات الإقليمية». غير أنه دعا إلى مواجهة الموقف بنشر وقائع التزوير وعمليات الدفع الإلزامية للتصويت، عبر التأثير على موظفي الدولة إذا أجبروا على الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
ولقد استند نافالني، كما غيره من المعارضين، في الترويج لمقولة إن التعديلات باطلة وغير قانونية، إلى رأي قانوني رأى ضرورة أن يجري التصويت على كل بند من التعديلات الدستورية على حدة، لأن غالبية المواطنين قد تؤيد «إعادة النظر في قانون المعاشات التقاعدية» لكن يمكن أن ترفض «تصفير عداد الفترات الرئاسية لبوتين».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.