التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

الشعب أمام خياري «الاستقرار السياسي» أو «فوضى البحث عن خليفة»

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036
TT

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

لم يسبق أن أثار استحقاق سياسي داخلي في روسيا الجدل الكبير المثار الآن، والسجالات التي لم تهدأ منذ أن بدأت مسيرة إقرار التعديلات الدستورية في مارس (آذار) الماضي.
يدور السجال بين موقفين، يرفع أولهما لواء «الاستقرار السياسي»، وأن الرئيس فلاديمير بوتين هو الشخص القادر على إمساك الأمور بيد قوية والمحافظة على الإنجازات التي تحققت على مدار سنوات. كما أنه الزعيم القادر على مواجهة خطط الغرب المتواصلة لإضعاف روسيا وتطويقها عسكرياً وإنهاكها اقتصادياً. في حين ترى أوساط المعارضة، أن هذا الاستحقاق يغلق مرحلة الإصلاحات السياسية في روسيا نهائياً، ويفتح على مرحلة جديدة، يتحول فيها «زعيم الأمة» المتوّج، منذ 20 سنة في الكرملين، إلى شخصية تمسك مقاليد الحكم بقوة ولفترة غير محددة، سواء بقي في الكرملين أم قرّر التنحي لاحقاً، وقرر تسليم السلطة إلى رئيس آخر يواصل المحافظة على «النظام» كما أرسى قواعده بوتين بنفسه.
الرئيس الروسي نفسه، فضّل أن يترك النقاش في هذا الاتجاه للخبراء و«الماكينة» الإعلامية الضخمة، وأعلن أنه يثق بإرادة الناس. لكنه أدار كفة النقاش بقوة قبل يومين، عندما أعلن أنه لا يستبعد ترشيح نفسه لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء ولايته الحالية في العام 2024.
بدا التحول مثيراً، إذ تحدث الرئيس الروسي فلاديمير عن احتمال ترشحه من جديد، حتى قبل مرور التعديلات الدستورية المقترحة، في امتحان التصويت العام، الذي يجري مطلع الشهر المقبل، ما عكس ثقة لدى الكرملين بأن النتيجة محسومة لصالح التعديلات. إلا أن الأهم والأكثر إثارة هو المبرّر الذي طرحه الرئيس لهذا التوجه، فهو استند إلى «تجارب سابقة» عندما كانت تحدث بعض التغييرات، ويبدأ جيش من الموظفين والمسؤولين البحث عن ترتيبات للمحافظة على مكتسباتهم وعلى مصالحهم، مع إطلاق التكهنات الكثيرة حول الخليفة المحتمل للرئيس الحالي.
هكذا أوضح بوتين ببساطة وبشكل مباشر المدخل المناسب والعنوان الأبرز لهذه التعديلات الدستورية، لا تضيعوا وقتكم في البحث عن تكهنات، ولا في محاولات المحافظة على كراسيكم... لأن النظام باقٍ وراسخ!

مضمون التعديلات
اللافت أنه في زحمة السجالات حول الشقّ المتعلق بـ«تصفير العداد الرئاسي»، ما يعني أن بوتين وفقاً للتعديلات الدستورية سيكون له الترشح مجدداً لولايتين رئاسيتين جديدتين، تستمران حتى عام 2036، غابت عن النقاش العام تفاصيل كثيرة، أثارت جدلاً، لا يقل عنفاً، بينها فقرات حول تعريف روسيا والشعب الروسي، وتضع روابط دينية وتاريخية، لا يبدو كل الروس متفقين عليها.
وفضلاً عن فكرة الانتماء إلى «الأسلاف الذين نقلوا إلى الأجيال الإيمان الحي بالله»، وهي فكرة قال بعضهم إنها لا تنطبق على روسيا التي اعتنقت المسيحية قبل 1000 سنة فقط، وإشارة أخرى إلى روسيا الحالية، التي تعد «وريثة من الاتحاد السوفياتي»، وهي أيضاً مختلَفٌ عليها، لأن البعض رأى فيها أمراً وقتياً مرتبطاً بمعالجة ملفات سياسية وطموحات محددة، ولا يمكن أن تكون في وثيقة تشكّل العقد الأساسي للمجتمع والدولة في المستقبل.
على أي حال، تركز الحملات الدعائية على الشق المعيشي الاقتصادي في التعديلات، التي تمنح السلطات التنفيذية آليات لتوسيع محفظة الرعاية للنظام الصحي والتعليمي وحماية الأطفال والمتقاعدين وبعض العناصر الأخرى المماثلة. هنا يقول خبراء إن تقديم التعديلات كرزمة واحدة للتصويت هدف إلى تمرير الأهداف السياسية من التعديلات، في قالب عملية إصلاح دستورية شاملة.
في المقابل، لا تكاد تهدأ اعتراضات الطرف الآخر، الذي رأى أن تعجّل الكرملين في حسم عملية تمرير الوثيقة بهدف حسم ملف بقاء بوتين في السلطة، ستكون له تداعيات كثيرة، ليس فقط من بوابة عودة روسيا إلى النموذج السوفياتي لزعماء يحكمون إلى الأبد، مع إغلاق الطريق نهائياً في هذه المرحلة أمام أي محاولة لإصلاح سياسي في البلاد. فالأخطر من ذلك، من وجهة نظرهم، أن التسرع في تمرير الوثيقة وهي محملة بألغام وأعباء جدلية، ستحمل عواقب لاحقاً، وستكون روسيا مضطرة في غضون سنوات للعودة مجدداً إلى تعديل الدستور لإصلاح ما تم وضعه، أو لوضع دستور جديد كامل للبلاد. والأمر الأخير، اقتُرح غير مرة خلال السنوات الأخيرة، انطلاقاً من فكرة أن الدستور الحالي وُضع إبان فترة فوضى شاملة في البلاد، وأن تبدلات كثيرة طرأت على روسيا والعالم منذ ذلك الحين. لكنّ بوتين عارض بحزم طرح فكرة وضع دستور جديد.

الاستفتاء يتحدى «كوفيد - 19»
من ناحية أخرى، في إطار التحذير من تعرض البلاد لنكسة كبرى على صعيد تفشي جائحة «كوفيد - 19»، أثناء عمليات التصويت الواسعة، واتهام الكرملين أنه «لا يبالي بهدف تمرير الاستحقاق السياسي بالمخاطر التي قد تترتب على تنظيم فعاليات كبرى من هذا النوع»، لفت خبراء روس إلى ما وصف بأنه «قائمة مخاطر». ومن هذه المخاطر احتمال احتشاد تجمّعات كبيرة أمام مراكز الاقتراع، وكذلك التدابير المتخذة لتوفير الأمن الصحي لنحو مليون موظف ومراقب في لجان الدوائر الانتخابية في كل البلاد. وبرزت اقتراحات في وقت سابق بضرورة إخضاع هؤلاء لفحص إلزامي وعزل المصابين منهم أو الذين يعانون من أمراض مزمنة، كونهم يدخلون في إطار «فئات الخطر»، وكان من شأن هذا فتح الباب على مشكلة أخرى، إذ سيكون من الصعب في كثير من الحالات ضمان حضور العدد الكافي من الموظفين في الدوائر المختلفة لحظة بدء عمليات التصويت.
وبالنتيجة، جرى التخلي جزئياً عن فكرة الاختبار الشامل لأعضاء اللجنة. واستعيض عنها بإجراء الفحوص «إذا لزم الأمر» وإذا تطلب الوضع الوبائي في المنطقة ذلك. لكن هذا الحل أثار مزيداً من التشكيك... إذ ما هي ضمانة عدم وجود حاملين للفيروس بين 900 ألف عضو في اللجان، بما في ذلك حاملو المرض من دون ظهور الأعراض؟
يبدو السؤال وكأنه يلقي تهمة على الجهات المختصة، غير أن عدداً من لجان الانتخابات الفرعية سارعت إلى تبرير موقفها، كما حدث في جمهورية بشكيريستان، الذاتية الحكم، التي ذكرت لجنة الانتخابات فيها أنه من «غير الواقعي» اختبار 33000 عضو من أعضاء لجنة الانتخابات المحلية، واتضح أنه لا توجد أصلاً موازنات مخصصة لذلك.
في هذه الظروف، تساءل معارضون، مَن يتحمل إذن مسؤولية وقوع أخطاء، أو مواجهة موجة جديدة من تفشي الجائحة بسبب الإصرار على التصويت في هذا الوقت؟

استفتاء... أم تصويت عام
عنصر خلافي آخر برز في مرحلة التحضيرات لهذا التصويت المثير للجدل، إذ تحدث خبراء في القانون عن ثغرة مهمة، مفادها أن الدستور الروسي لا ينص أصلاً على إجراء استفتاء على تعديل دستوري. وأن الاستفتاء ينبغي أن يكون بعد إعداد دستور جديد للبلاد. لذلك اندفع برلمانيون إلى تبرير هذا الأمر، تحسباً لاستغلال المعارضة هذا السجال للتشكيك بشرعية التصويت والنتائج التي ستسفر عنه.
وقالت اللجنة القانونية في مجلس الفيدرالية (الشيوخ) إن «ما لدينا اليوم ليس دستوراً جديداً، فهذه بعض التغييرات على نص الدستور الحالي، ولهذا ليس من الضروري إجراء استفتاء. إذ يجري الحديث عن تصويت عام وليس عن استفتاء».
لكن المواطن الروسي البسيط لا يفهم الفرق بين التصويت العام والاستفتاء... و«هل يوجد فرق أصلاً»؟ هكذا كتب المعارض ديمتري غودكوف بلهجة مستنكرة.
يشير قانونيون إلى أن قرارات مجلسي «الدوما» (النواب) والفيدرالية (الشيوخ) والبرلمانات المحلية في الأقاليم الفيدرالية الـ85 كافية تماماً لإدخال تعديلات على فقرات من الدستور، ولكن نظراً لأن نطاق التغييرات كبير جداً، قرر الكرملين «سد الثغرات» كي لا يقال إنه تمت «فبركة» تعديلات تمنح الرئيس فرصة للبقاء في السلطة إلى الأبد. وهذا الأمر أوضحه بوتين بضرورة «التوجه مباشرة إلى الشعب». وعليه، فالمطلوب موافقة شعبية واسعة، وليس مهماً أن تحمل العملية صفة تصويت عام أم استفتاء.

تعقيدات وظروف
كان من المقرر التصويت على التعديلات في عموم روسيا خلال أبريل (نيسان) الماضي، لكن «كوفيد - 19» أطاح بالعملية، وحُدد موعد لاحق لها في أول يوليو (تموز) المقبل. لكن في الواقع، بدأ التصويت قبل ذلك بأسبوع. وبهدف تجنب تجمّعات ضخمة، فُتحت مراكز التصويت أبوابها أمام المواطنين في 25 يونيو (حزيران). بالإضافة إلى ذلك، سيتمكن سكان موسكو ومنطقة نيجني نوفغورود من الإدلاء بأصواتهم إلكترونياً عن بعد خلال أسبوع كامل.
هذا الإجراء تسبب في مشكلة جديدة، إذ سرعان ما ادّعى معارضون ومراقبون أنهم قاموا بتجربة ذاتية للتصويت مرتين. وذكر الصحافي التلفزيوني بافل لوبكوف، الذي يعمل مقدماً لبرنامج في قناة «دوجد» المعارضة، أنه صوّت في مركز الاقتراع قرب منزله، وصوّت مرة أخرى إلكترونياً بعد مرور ساعة واحدة. وما أن انتشر الخبر حتى سارع كثيرون إلى القول إنهم شهدوا خروقاً مماثلة في عدد من مراكز الاقتراع. وصحيح أن لجنة الانتخابات المركزية سارعت بدورها إلى إعلان نيتها معاقبة المقصّرين في اللجان الانتخابية الذين تجاهلوا شطب اسم الناخب من اللوائح بعد تسجيله إلكترونياً، لكن الواقعة ألقت بظلال ثقيلة على عملية التصويت حتى قبل انتهائها وحسم النتائج.

تصويت «للمحافظة على النظام»
الخبراء يحاولون تلمس المرحلة المقبلة، ولا سيما ما يريده الرئيس بوتين، وسط الجدالات الساخنة الكثيرة حول نيته الترشح لفترة رئاسية جديدة، بعد انتهاء ولايته الحالية في العام 2024. ومنها الجدال بين أنصار «نعم للاستقرار السياسي» و«لا لتقويض أسس تبادل السلطة». وهل تخلّى فلاديمير بوتين عن فكرة البحث عن خليفة له.
بوتين نفسه أعطى الجواب «موارباً» من خلال حديثه عن احتمال ترشحه: «إذا لم يحدث هذا، فأنا أعرف ذلك من تجربتي الخاصة، أنه بدلاً من العمل الإيقاعي العادي على مستويات كثيرة جداً من السلطة، سيبدأ التثاؤب خلال البحث عن خلفاء محتملين».
ويذكر خبراء أن تصريحات مماثلة صدرت عن بوتين عام 2017. عندما سعى باستمرار لمواجهة سؤال ما إذا كان سيرشّح لولاية رابعة. وقال الرئيس حينذاك إنه بعد الإعلان عن بدء الحملة الانتخابية «توقف الجميع على الفور عن العمل وانشغلوا بالتفكير في كيفية الحفاظ على كراسيهم».
هذه العبارة اللافتة فسرتها صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» في افتتاحية نارية بأنها «تعكس معيار بوتين الذي يعتقد أنه يجب الحفاظ على النظام في حالة جيدة، أي في حالة بعيدة من أي توتر».
وأوضحت أن كلمات بوتين حول «التثاؤب» هي «إعلان صادق تماماً عن مخاوف ونوايا الرئيس الحالي في السلطة منذ 20 سنة، وهو يعرف تماماً النظام الذي بناه، ويرى تحولاته الداخلية، ويفهم منطق البيروقراطية على جميع المستويات. والأشخاص المشاركون في السلطة يشكلون مجموعة من (مراكز النفوذ)، وينمون الطموحات. ويمكن أن يتحول صدام الطموحات إلى حتمية يصعب السيطرة عليها بمجرد أن يصبح معروفاً بالتأكيد أن رأس الهرم سيغادر. هذا لا ينبغي أن يحدث. بل أكثر من ذلك، يجب أن يعتقد الجميع أن بوتين لن يذهب إلى أي مكان».

البحث عن خليفة
وهل هذا يعني نهاية عملية «البحث عن خليفة» التي شغلت الأوساط السياسية طويلاً؟ يقول خبراء إنه على الأرجح بعد اعتماد التعديلات، سيترك بوتين لنفسه مجالاً كبيراً للمناورة السياسية. ومن المرجح أن يستمر في البحث عن خليفة، لكنه لن يتقيد بالأطر الزمنية. قد يعلن بوتين في نهاية عام 2023 أنه لن يقبل ولاية جديدة. ويمكن أن يذهب إلى ولاية جديدة لوضع الترتيبات اللازمة، ثم يقرر المغادرة في وقت مبكر. وأخيراً، يمكنه حقاً أن يظل في السلطة لمدة 6 سنوات أخرى كاملة. ومن ثم، إذا لم تتغير العملية، لكن تغيرت آليات التحرك، سيغادر بوتين عندما يهيئ بنفسه الظروف المناسبة لذلك، ولن يتسرع في إعداد رحيله في الوقت الذي ينص عليه القانون.
هكذا ينظر خبراء السياسة الروس الذي يتمتعون بدرجة كبيرة من الاستقلالية، إلى احتمالات تطور الموقف. ويستند بعضهم إلى أنه «لمدة 20 سنة، اعتاد المجتمع على خطوات غير متوقعة من بوتين. لم يتوقع أحد أن يصبح فيكتور زوبكوف رئيساً للوزراء عام 2007، لكنه أكمل مهمته وذهب إلى الظل. وبالطريقة ذاتها، لم يتوقع إلا قلة تعيين ميخائيل ميشوستين رئيساً للحكومة هذا الشتاء. يسترشد بوتين بمنطقه الخاص، ولا يهتم بالاستفسارات والتوقعات العامة».
ويقرّ الخبراء بأن «الاستقرار» المنشود من التعديلات الدستورية «ليس استقرار المؤسسات، باعتبار أن تلك «كان يمكن أن تحظى باهتمام أكبر لتطويرها في ظل السلطات الرئاسية الحالية». بل بدلاً من ذلك - كما يشير أحدهم - «يجري ضمان استقرار النظام الذي أنشئ، وتثبيت قواعد اللعبة الداخلية، والمحافظة على مبدأ السلطة الفردية. وهكذا، يفكر فلاديمير بوتين في خليفة يحمي مصالح الرئيس الحالي. أي بنفس المنطق بالضبط، الذي جعل منه خليفة بوريس يلتسين قبل 20 سنة».

المعارضة تدعو لرصد الانتهاكات
في المقابل، دعا السياسي المعارض، أليكسي نافالني، الروس إلى انتهاج استراتيجية تقوم على رصد عمليات التزوير في التصويت وتسجيل وقائع الإكراه للتصويت. ويعتقد نافالني أن التعديلات «اعتمدت بالفعل؛ حيث تدخل التعديلات على الدستور حيز التنفيذ بعد موافقة ثلثي البرلمانات الإقليمية». غير أنه دعا إلى مواجهة الموقف بنشر وقائع التزوير وعمليات الدفع الإلزامية للتصويت، عبر التأثير على موظفي الدولة إذا أجبروا على الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
ولقد استند نافالني، كما غيره من المعارضين، في الترويج لمقولة إن التعديلات باطلة وغير قانونية، إلى رأي قانوني رأى ضرورة أن يجري التصويت على كل بند من التعديلات الدستورية على حدة، لأن غالبية المواطنين قد تؤيد «إعادة النظر في قانون المعاشات التقاعدية» لكن يمكن أن ترفض «تصفير عداد الفترات الرئاسية لبوتين».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.