كيف تساعدنا الفيزياء على فهم العالم؟

جيم الخليلي في أحدث مغامراته الفكرية

جيم الخليلي
جيم الخليلي
TT

كيف تساعدنا الفيزياء على فهم العالم؟

جيم الخليلي
جيم الخليلي

لا أعرف مدى مصداقية العبارة المنسوبة إلى اللورد رذرفورد (وهو أحد أعاظم الفيزيائيين التجريبيين) والتي فحواها أن العلم الحقيقي هو الفيزياء، وكل شيء سواه لا يعدو أن يكون جمع طوابع! قد تبدو العبارة راديكالية المحتوى؛ لكنها تنطوي على جوهر حقيقي يُعلي شأن الفيزياء ويراها علماً ثورياً في إمكاناته ومدياته التي تداعب أحلام كل فرد منا؛ خصوصاً في بواكير نشأته وقبل أن تذوي طاقته التخييلية بفعل كسله الشخصي أو انغماره في مسارب الحياة المختلفة. ثمة كثير من العوامل التي جعلت الفيزياء علماً ساحراً قادراً على إطلاق قدرة التخييل الرفيع لدى الفرد، ولعل أهم هذه العوامل هو أن الفيزياء الوريث الشرعي الوحيد الذي حمل راية «الفلسفة» وعمل على تحقيق تطلعاتها في مساءلة الأسئلة الكبرى في الحياة وفهمها، وليس غريباً بعد هذا أن توصف الفيزياء باسم «الفلسفة الطبيعية» في كثير من الجامعات الغربية (الجامعات الاسكوتلندية مثالاً).
-- الفيزياء أولاً
تتّسمُ البلدان المتقدّمة بجُملة من الخصائص، ومن هذه الخصائص أنّ كلاً من تلك البلدان تمتلك تاريخاً مشرقاً في البحث الفيزيائي حتى بلغ الأمر أن تأسست في بعض البلاد مدرسة مميزة للفكر الفيزيائي (والرياضياتي كذلك)، وسيكون أمراً بديهياً أن نتوقّع شيوع الشغف في القراءة الجادة والعميقة والمنتظمة للمنشورات الخاصة بالفيزياء والرياضيات منذ الصغر. وستوفّر هذه القراءات نوعاً من القاعدة العلمية الواسعة التي ستخدم جبهتين: الأولى حبّ العلم والبحث العلمي واعتباره نوعاً من الشغف العلمي الذي يملأ كيان المرء ويمكن أن يغدو حرفة مستقبلية ناجحة ورائعة. والثانية توفير أساس مادي ومعرفي لكلّ التطوّرات العلمية والتقنية المستقبلية التي لن تكون ممكنة من غير جيل من الفيزيائيين فضلاً عن عشّاق الفيزياء. توضّحُ لنا هذه المقدّمة التمهيدية الأهمية الحاسمة لإشاعة الفكر الفيزيائي على كل المستويات (كتب، وإذاعة وتلفاز، ووثائقيات علمية، وسلاسل حوارية، ومنتديات...)، وعليه؛ فليس غريباً أن تخصّص الحكومات والجامعات والمؤسسات البحثية في بلدان العالم المتقدّم موارد ضخمة لنشر المعرفة الفيزيائية الأساسية في أشكال ووسائط محببة للعقل الشغوف، وهي إذ تفعل هذا؛ فهي مدركة تماماً أنها تضيف عنصراً من عناصر المقدرة الاستراتيجية التي ستنعكس مفاعيلها في القدرة العلمية والتقنية للبلد.
حفل عالم نشر الثقافة الفيزيائية الجمعية بأسماء لامعة كان لها دور عظيم الأثر في إشاعة الفكر العلمي والتنويري، ولعلّ كثيرين منّا يذكرون أسماء مثل: آرثر سي. كلارك، وجورج غاموف، وإسحق أسيموف، وكارل ساغان، وجاكوب برونوفسكي، وميشيو كاكو، وبراين غرين، وكارلو روفيلّي... إلخ ؛ لكنْ شاع في السنوات العشر الأخيرة اسم ربّما لم يسمع به كثيرون؛ ذلك هو البروفسور جيم الخليلي المولود في العراق عام 1962.
جيم الخليلي Jim Al - Khalili هو بروفسور الفيزياء النظرية وأستاذ «كرسي الفهم الجمعي للعلم» في جامعة سرّي ببريطانيا، وفضلاً عن هذا فهو حاصل على ميدالية «مايكل فاراداي» التي تمنحها الجمعية الملكية، وميدالية «كلفن» التي يمنحها «المعهد البريطاني للفيزياء»، إلى جانب كثير من شهادات الدكتوراه الفخرية من جامعات مرموقة كثيرة في العالم. ويُعرَفُ عن البروفسور الخليلي أنه مقدّم حاذق للبرامج العلمية إلى جانب أنه مؤلف لكثير من الكتب التي لاقت رواجاً واسعاً، وهو لا ينفكّ يتحفُنا بكثير من الوثائقيات العلمية المبهّرة في شتى صنوف المعرفة العلمية. أذكر أدناه أهمّ الكتب التي نشرها البروفسور الخليلي والتي حقّقت مقروئية واسعة على أوسع النطاقات الجماهيرية:
- «المفارقة: الأحجيات التسع الأعظم في الفيزياء».
- «الحياة على الحافة: العصر القادم للبيولوجيا الكمومية».
- «الكم: دليلٌ للحائرين».
-- سرد علمي ـ تاريخي
أحدثُ كتب الخليلي هو الكتاب الذي نُشِر مؤخراً (في 10 مارس/ آذار الماضي)، وجاء بعنوان: «العالم كما تفهمه الفيزياء The World According to Physics)، وقد نشرته جامعة برينستون الأميركية، وهي إحدى جامعات النخبة الأميركية. ضمّ الكتاب مقدمة رائعة، بالإضافة إلى 10 فصول؛ اختصّ كل منها بتناول واحد من المفاهيم الأكثر جوهرية في الفيزياء الكلاسيكية والحديثة، وهذه الفصول على الترتيب: رهبة الفهم، المقياس، المكان والزمان، الطاقة والمادة، العالم الكمومي، الديناميك الحراري وسَهْمُ الزمان، توحيد القوى، مستقبَلُ الفيزياء، فائدة الفيزياء، التفكيرُ بطريقة الفيزيائيّ. لم ينسَ المؤلف أن يضمّن الكتاب قائمة ختامية تضمُّ عناوين مرجعية لكتب منتخبة بدقة مع تعليق من جانب المؤلف يبيّن أهمية هذا المرجع في سياق التطوّر التاريخي لفهم الفيزياء.
والخليلي متمرّسٌ بفنون السرد العلمي - التاريخي والإمساك بشغف القارئ ودفعه دفعاً للقراءة المستمتعة، ويمكن معاينة هذه الخصيصة المميزة للخليلي عبر قراءة السطور الافتتاحية من مقدّمته لهذا الكتاب:
«هذا الكتاب هو قصيدة غنائية Ode كتبتُها للفيزياء.
أغرِمتُ بالفيزياء وهمتُ بها عشقاً أول الأمر وأنا لم أزل مراهقاً بعدُ، ولا مناص لي من الاعتراف هنا بأنّ هذا العشق للفيزياء إنما كان (في البعض منه على الأقلّ) بسبب إدراكي المبكّر بأنني أحقق إنجازاً أكاديمياً مدرسياً لا يمكن إغفاله في هذه المادة ؛ فقد بدت لي الفيزياء حينذاك خليطاً مبهجاً من حلّ الألغاز والبداهة العامّة، وقد استطبتُ لأبعد الحدود اللعب مع المعادلات، والتعامل مع الرموز الجبرية، والتفكّر في الأرقام بكيفية تكفلُ كشف أسرار الطبيعة؛ لكنني أدركتُ في الوقت ذاته أنني إذا ما سعيتُ للحصول على إجاباتٍ مُرْضية بشأن الكثير من الأسئلة العميقة التي كانت تتفجّرُ في عقلي المراهق بشأن طبيعة الكون ومعنى الوجود، فإنّ الفيزياء هي الموضوع الذي يتوجب علي دراسته. أردتُ أن أعرف: مم نحنُ مصنوعون؟ من أين أتينا؟ هل للكون بداية أو نهاية؟ وهل الكون محدودٌ في أبعاده أم إنه يمتدّ إلى حدود لا نهائية؟ ما هذا الموضوع الذي يدعى (ميكانيك الكم Quantum Mechanics) الذي جاء أبي على ذكره أمامي في إحدى المرّات ؟ ما طبيعة الزمان؟ قادني مسعاي للعثور على إجابات لهذه الأسئلة إلى حياة عشتها بأكملها وأنا أدرسُ الفيزياء، وقد حصلتُ الآن على إجابات مقبولة لبعضٍ من تلك الأسئلة، ولا زلتُ أسعى بكلّ ما أستطيعُ للحصول على إجابات مقبولة للبعض الآخر منها».
دفعتني قراءة كتاب البروفسور الخليلي إلى استذكار اللذة العميقة التي لطالما غمرتني كلّما قرأت كتاباً علمياً جديداً مثيراً في مادته، أو تابعتُ على إحدى الفضائيات سلسلة وثائقية تتناول أحد الموضوعات العلمية التي يحفل بها عالمنا المعاصر، ولا أنفكّ أتساءل بعد كلّ قراءة أو مشاهدة مثمرة: لِمَ يبدو العلمُ لدينا مملكة عصية الاختراق لا تفتح مغاليقها إلا لصفوة من النخبة (أو بتعبير أدق: لمن نتصوّرُ أنهم الصفوة البشرية المنتخبة)؟ وما السبب الذي يجعل العلم لدينا أقرب إلى الملغزات المفاهيمية المستعصية على الفهم الجمعي؟ ولماذا يبدو لنا آينشتاين - على سبيل المثال - أحد الشخوص الأسطوريين في الوقت الذي يتعامل معه الغربيون على أنه شخصية ثقافية حالها حال كثير من الشخصيات الثقافية التي نتعامل معها بصورة يومية؟
ليس العلم بذاته محض قوانين ومعادلات رياضياتية أو تمظهرات تقنية فحسب؛ بل هو توليفة متكاملة ومتناسقة من أنساق مفاهيمية تمنح الفرد قدرة على رؤية العالم بطريقة متمايزة نوعياً عمّا يراه الفرد غير المؤهّل علمياً، وتنعكس آثار هذه الرؤية على كيفية تشكيل النسق الثقافي السائد إلى حدّ أصبحنا معه نشهد كثيراً من المنظّرين الثقافيين وممارسي الثقافة المؤثّرين من الحائزين أرقى المؤهلات العلمية في الفيزياء والرياضيات وسواها، وإذا ما زال كثير من الأوساط الفاعلة في ترسيم خريطة ثقافتنا العربية يعدّ العلم اشتغالاً فوقياً بعيداً عن ملامسة قاع البنية التحتية للثقافة بدلاً من اعتباره مغامرة كبرى - بمثل ما كان العلم في حياة الخليلي - فربما تساهم قراءة هذا الكتاب في تفكيك هذه الفوقية وإشاعة الفهم الحقيقي للعلم بصفته اشتغالاً فكرياً رفيعاً يمتلك القدرة على إحداث تغيّرات عظمى في حياة الإنسان وفكره وبيئته.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في عمّان


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».