الحياة الأدبية في سنة وباء

أحد الشوارع الرئيسية في واشنطن شبه خاوٍ (أ.ف.ب)
أحد الشوارع الرئيسية في واشنطن شبه خاوٍ (أ.ف.ب)
TT

الحياة الأدبية في سنة وباء

أحد الشوارع الرئيسية في واشنطن شبه خاوٍ (أ.ف.ب)
أحد الشوارع الرئيسية في واشنطن شبه خاوٍ (أ.ف.ب)

نادراً ما أمشي عبر شوارع خالية أثناء النهار في واشنطن دي سي. ومع ذلك في الربيع الفائت، حين بدا أن كل شيء قد قفز إلى الفراغ، تعلمت أن ما يراه المرء، وكيف يراه، يتغير في بيئة مدنية خالية من الناس نسبياً. الوحشة - سواء أكانت حسية أم روحية - تغير الحواس. الفضاء العام الخالي من النشاط البشري يغير تصور المرء بطرق تجبر العين على التركيز على ما تبقى بدلاً مما ضاع.
بحثي عما تبقى هو إحدى الطرق التي أتبعها للتأقلم في لحظات الفقد. جائحة «كوفيد - 19» تركت لدي شعوراً بالفقد بشكل حاد إلى حد كبير، نتيجة المفاجأة التي ضربت بها. في فترة أسبوعين، تغيرت واشنطن من حركتها الموسمية المليئة بالضجيج باتجاه الربيع (الكرز المزهر، المعربدون يتنقلون من بار إلى آخر، موسيقى الأصوات خارج المقاهي) إلى شوارع خالية وواجهات دكاكين ومطاعم مغلقة بالخشب. كان كما لو أن المدينة دخلت فجأة في حقبة ثقافية جديدة من الوحشة. لم أكن مهيئاً للعثور فقط على بقايا أجواء عرفتها وما زلت غير متأكد من إمكانية استعادتها. حتى متى ستستمر هذه الجائحة؟ وهل ستعود؟ بدا كما لو أن ألبير كامو كان محقاً: للأوبئة وسائل للتكرار في العالم. ومع ذلك، كما يذكرنا هو نفسه أيضاً، فإننا نجد من الصعب أن نؤمن بالأوبئة التي تدمر سماء زرقاء. ولكن ذلك بالضبط ما فعلته هذه الجائحة.
بالهبوط المدمر لهذا الوباء، صارت الحرب هي المجاز المناسب لدى الطبقة السياسية. في تلك الأثناء كانت المشاعر في المدينة أقرب إلى الأسى، طالما كان الأسى بطرق عدة أقرب إلى الخوف. الأسى يجبرنا على مواجهة فنائنا.
أين إذا يمكن العثور على العزاء؟ أثناء المشي عبر هذه الشوارع الخالية، تذكرت الطرق التي يساعدنا بها الأدب، بكونه طقساً حميماً ومناسبة أكبر للمجتمع، على تجاوز العديد من المنعطفات العاطفية، يساعدنا على مواجهة الأسى والخوف، يعيننا على وضع الظروف التي بإمكانها أن تغرقنا في إطار يسمح لنا، أخيراً، بالتعامل معها.
تبدو واشنطن في الغالب كما لو أنها شركة الحكومة الفيدرالية، يدين سكانها على نحو ما بأرواحهم لمتجر شركة العم سام. لم يكن ذلك صحيحاً أبداً. أي شخص عاش في هذه المدينة فترة طويلة يعرف أن واشنطن كانت دائماً مدينة أدبية، نسيجها الثقافي جمع كتّاباً وفنانين بدلاً من بيروقراطيين وسياسيين. الجائحة أثبتت ذلك. لقد بينت كيف أن واشنطن تكتسب هويتها من ثقافتها الأدبية والمؤسسات التي تدعم تلك الثقافة. بمجرد اختفاء تلك صار واضحاً أي دور مركزي لعبته تلك الثقافة والمؤسسات في جعل المدينة نابضة بالحياة. في نهاية مارس (آذار) كان الكثير من مكتباتنا مغلقاً تماماً، من فضاءات حميمة مثل «إيست ستي بوكز أون كابيتول هل» إلى «ماهوغاني بوكز إن أناكوستيا»، إلى الشوارع الكبيرة مثل «بوليتيكز آند بروز» و«بوشبويز وبويتز».
وفي تلك الأثناء كانت التجمعات الأدبية، مثل سلسلة «فولغر بويتري»، وقراءات «بِن/ فوكنر»، وورش مؤسسة «هيرستون/ رايت»، وضجة شعر «سبلِت ذس روك»، وهي القليل مما هنالك من النشاط الذي مضى إلى نوع من البيات الغريب، موزعاً على صوامع من المشاركات الافتراضية.
غياب ثقافة اللمس - ذلك الذي يحدث في الوقت الفعلي بدلاً من الشاشة - دل على ثقافة صمت غير مريحة. ومع ذلك شعرت، أثناء تمشيات صباحية في مدينة خالية في أبريل (نيسان)، مركزاً انتباهي على طريق جديدة، كلية، شعرت بحدة أنني محاط بالأدب، بالكيفية التي يظهر نفسه بها على العديد من شوارع واشنطن، في أماكن كتب وعاش فيها الكتّاب ذات يوم، فكلماتهم محفورة على الحجر. في معلم تلو آخر، ذُكّرتُ بما قرأت في مقالة ريبيكا سولنيت «تاريخ قصير للصمت»، عن كيف أن «صمت السامعِ يفسح فضاءً للآخرين». فعلاً، حديث الآخرين كان موجوداً على هذه الشوارع التي خلت مؤخراً.
على بعد ثلاثة «بلوكات»، من حيث أقيم، ينهض بيت أصفر ضخم بحافة خضراء مع لون عنابي محروق وشرفة تحيط به. كان ذلك ذات يوم منزل آنا جوليا كوبر، المعلمة التي ألفت «صوت من الجنوب»، الكتاب الذي تضمن إحدى المناقشات النسوية المبكرة للوضع الاجتماعي للنساء السود. وعلى بعد ثلاثة «بلوكات» أخرى يقع بيت للمؤرخ كارتر ج. ودسون ونصب يذكر بأنه أبو التاريخ الأسود. هذا المنزل الفيدرالي ذو الثلاثة طوابق والواجهة المستوية كان سكناً ومكتباً لودسون، موفراً قاعدة لنشاط «مجلة تاريخ الزنوج». ودسون الذي صنع «أسبوع التاريخ الزنجي» عام 1926 كان لديه عدة مساعدين في محاولاته دعم التاريخ الأسود، ومن أولئك الشاب لانغستون هيوز، وطالب في جامعة هوارد اسمه زورا نيل هيرستون. كلما مشيت بجانب ذلك البيت تخيلت زورا يتبختر على المنحنى الرخامي بقبعة مذهلة، ولانغستون بأناقته يمشي في الشارع ويدخل مقر عمله اليومي.
على مسافة أبعد من شارع «U» يقع مسرح لنكولن، الموقع في قصة «المقعد المربع» لجان تومر، الذي تقع أحداث مجموعته «كين»، وهي مزيج من الشعر والنثر، في أماكن مختلفة من واشنطن، سواء على شارع «U» أو على «سولجرز هوم القديم». كل جزء من الكتاب مرتبط بمشهد لنصف الدائرة، ملمحاً ليس فقط إلى علامة قابيل في الكتاب المقدس، وإنما أيضاً كيف أن كل جزء من الكتاب يساعد على اكتمال دائرة القصة. مثل نصف الدائرة في نص «كين»، هذه الأماكن على شوارع واشنطن تتحد وتملأ فضاءات أغلقتها الجائحة.
معالم أخرى سواء كانت قديمة أم أرتُجلت مؤخراً تشهد على أدبية دائمة لواشنطن في المشهد. على جورج أفنيو، في الحرم الجامعي لهوارد، يجلس «مقعد على الطريق» لتوني موريسون، وهو واحد من خمسة وعشرين معلماً حول المدينة أقيمت للتذكير بحياة أميركيين أفارقة استُعبدوا في الماضي. كتبت موريسون تقول: «ليس ثمة مكان يمكنك أو يمكنني الذهاب إليه، التفكير فيه أو عدم التفكير فيه، استدعاء حضور، أو تذكر غياب العبيد». هذه المقاعد الآن، وروايتها «محبوبة» تملأ الفراغ.
على الشارع الرابع عشر، الأعمال الفنية المرسومة على شبابيك (مكتبة) «بوش بويز وبويتز» تمثل معارضة حادة وصحية لأطر الشبابيك المصنوعة من الورق البني في الأماكن الأخرى على «البلوك». بالقرب من دائرة «دوبونت»، إلى جانب المترو تماماً، هناك قصيدة إثلبيرت ملر حول أزمة الإيدز في واشنطن، محفورة على حجر أرضي:
حاربنا المجهول
نظرنا إلى بعضنا بحثاً عن المواساة
أمسكنا بأيدي أصدقائنا وعشاقنا
لم ندر ظهورنا
تعانقنا
تعانقنا.
مواجهة هذه القصيدة على المشهد المفرغ حديثاً في المدينة ذكرتني بالتواصل الإنساني المفتقد في زمن كنا بأمس الحاجة إليه. كانت (مكتبة) «كريمر بوكس» على الجهة الأخرى من الشارع، ومع ذلك لم أستطع دخولها. مثل كل مكتبة أخرى، كانت مغلقة بعد أن تحولت إلى خدمات لشحن وتوزيع الكتب. كانت تلك خسارة، جزءاً من غياب أكبر أو عالم دخلناه فجأة. ولكن بقدر ما كان الأدب مثقلاً بالحزن، في تلك اللحظة الهاربة اكتشفت أيضاً كم هو داخل في نسيج شوارع واشنطن. الهدوء المصاحب لفقد شيء ما أشاع فضاءً لعناق أشياء أخرى.

- نشر هذا المقال في «في كيو آر أونلاين» (فرجينيا كوارترلي ريفيو، صيف 2020)



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.