الهند والصين صراع النفوذ في جنوب آسيا

الاشتباكات الأخيرة أكبر من مجرد نزاع حدودي

الهند والصين صراع النفوذ في جنوب آسيا
TT

الهند والصين صراع النفوذ في جنوب آسيا

الهند والصين صراع النفوذ في جنوب آسيا

ثمة لعبة كبرى على الصعيد الجيوسياسي تجري حالياً داخل شبه القارة الهندية والصين، المنطقة الأكبر عالمياً من حيث عدد السكان مع تكدس 3.1 مليار نسمة في 9 دول فقط. ويتزامن هذا الحدث مع تفشي جائحة «كوفيد - 19» على مستوى العالم.
والواقع أنه من قلب الجائحة، اشتعلت حالة من تبادل الاتهامات وإلقاء اللوم عن المسؤولية في تفشيها بين الهند والصين اللتين تمثلان قوتين كبريين ومؤثرتين على مستوى آسيا والعالم. ومن جانب آخر، ثمة محاولات لتنفيذ مناورات سياسية داخل المنطقة من جانب قوى من خارجها مثل الولايات المتحدة واليابان.

خاضت الهند والصين خلال الأيام القليلة الماضي مواجهة عسكرية دامية وإن كانت محدودة داخل إقليم لاداخ، حيث يرابط الجيشان على طول ما يعرف باسم «خط السيطرة الفعلية»، وحتى هذه اللحظة، وبعد التقارير عن سقوط ما لا يقل عن 20 قتيلاً من القوات الهندية لم تعد الأوضاع إلى طبيعتها بعد.
الأمر الخطير هنا، إنه للمرة الأولى منذ عام 1962، يشهد الإقليم اشتعال توترات بين الجانبين، وذلك رغم أن «خط السيطرة الفعلية» محدد بوضوح ومتفق عليه من الطرفين. وكان بناء حشود عسكرية على طول الخط الحدودي قد بدأ في الأسبوع الأول من مايو (أيار) على امتداد منقطتي لاداخ (شمال كشمير) غرباً وسيكيم شرقاً (بين نيبال وبهوتان)، حيث وقعت مواجهات بين قوات هندية وأخرى صينية. وبعد ذلك، تفاقمت المواجهات بين الجانبين وامتدت إلى مناطق أخرى على طول خط السيطرة.
ومنذ منتصف الأسبوع تجرى مباحثات بين وفود عسكرية رفيعة المستوى من الهند والصين لتسوية حالة التأزم الراهنة على الحدود واحتوائها. وما يجدر ذكره أن مواجهات عنيفة كانت قد وقعت بين قوات الجانبين في 5 و6 مايو، وأعقبتها مواجهات أخرى في 8 و9 مايو. وما زالت المباحثات الدبلوماسية والعسكرية مستمرة بين المسؤولين الهنود والصينيين بهدف التوصل إلى تسوية عاجلة للأزمة الحدودية. ومن المنتظر عقد مزيد من المباحثات العسكرية بين الجانبين سعياً لتهدئة التوترات على الحدود.

حسابات سياسية
للعام، هذه ليست المرة الأولى التي تخوض الهند والصين فيها اشتباكات مباشرة عند المنطقة الحدودية. وكانت آخر المواجهات قد وقعت عام 2017 في دوكلام على الحدود الثلاثية بين الهند والصين وبهوتان واستمرت 83 يوماً. ويرى كثيرون من المراقبين - الهنود على الأخص - أن الانتكاسات التي عانت منها الصين جراء تفشي جائحة «كوفيد - 19» وانتكاسة أوضاعها الاقتصادية، ربما دفعت بكين نحو اللجوء إلى شن عدوانها الأخير في المناطق الحدودية مع الهند، سعياً لتشتيت الأنظار بعيداً عن مشاكل بكين الداخلية، وفي الوقت ذاته، استعراض قوة الصين أمام العالم. إلا أن بعض الخبراء المعنيين بشؤون جنوب آسيا يشيرون إلى «نظرية مؤامرة» مؤداها أن الأزمة الحالية قد تكون محاولة استباقية من جانب بكين لإحباط نوايا هندية مزعومة لتنفيذ مغامرة عسكرية في مناطق شمال باكستان (تحديداً غيلغيت وبالتيستان)، التي يمر من خلالها «الممر الاقتصادي» بين الصين وباكستان.
الخبير الهندي أبرانا باندي، من «معهد هدسون» الأميركي أعرب في تقرير وضع عن الوضع، عن اعتقاده بأن: «الصين تبعث برسالة قوة وعزيمة في لحظة تواجه فيها انتقادات حادة من الرأي العام العالمي. ولقد وجدت نفسها مضطرة إلى تبني مسار هجومي من أجل تشتيت الانتقادات والتهديدات التي تواجهها مكانتها، على الصعيدين الداخلي والخارجي. والمعروف أنه في أوقات كهذه، تتفاقم التوترات الاجتماعية، ومن الواضح أن الصين رأت أن تلقين الهند درساً السبيل الأمثل أمامها لدعم مكانتها الدولية وإعادة بناء شرعية نظامها في الداخل. على الجانب الآخر، فإن الهند القوية اقتصادياً وعسكرياً والمستقرة سياسياً واجتماعياً، تشكل منافساً محتملاً للصين داخل آسيا. والمؤكد هنا أنه كلما زادت قوة التحالفات والشراكات التي تشارك بها الهند مع دول في آسيا والغرب، تضاءلت احتمالات إقدام الصين على الضغط عليها. ومن أجل هذا، تدعم الصين باكستان، وسعت لتأليب جميع الدول المجاورة للهند ضدها».

الهند ونيبال
من جهة ثانية، شهدت الفترة الأخيرة اندلاع خلاف حدودي بين الهند ونيبال رغم العلاقات الوثيقة التي تجمع البلدين منذ قرون. واشتعل هذا الخلاف بسبب تدشين الهند طريقاً في جبال الهيمالايا قرب الحدود مع إقليم التيبت الذي يتبع الصين. وتحول الأمر إلى قضية سياسية مشتعلة داخل نيبال، مع أن الطريق لم تُشق بطبيعة الحال بين عشية وضحاها، وثمة من يؤكد أن الحكومة النيبالية على علم بجهود شق الطريق وبنائها، وكانت تتابعها على مر السنوات. من ناحيته، مرر البرلمان النيبالي، الأسبوع الماضي، تشريعاً يبدل شكل الخريطة السياسية للبلاد، ويضم ثلاثة مناطق هندية إلى البلاد هي: ليمبيادهورا وكالاباني وليبولكه.
وفي حادثة مختلفة على الحدود بين نيبال والهند، فتحت قوات الشرطة النيبالية المسلحة النار ليسقط شخص واحد قتيلاً على الجانب الهندي. وأشارت مصادر إلى أن قرويين يدّعون أن الشرطة النيبالية طلبت منهم عدم التجول حول الحدود لأنهم ينشرون فيروس «كوفيد - 19» داخل نيبال.
وسط هذه الأجواء، ينظر مراقبون سياسيون في شبه القارة الهندية إلى رئيس الوزراء النيبالي كيه. بي. شارما أولي على أنه يميل ناحية الصين. ولقد سبق أن اشتعلت خلافات بينه وبين الهند في الماضي، إذ اتهم أولي السلطات الهندية عام 2016 بالوقوف خلف إسقاط حكومته. وهنا، تجدر أنه نظراً لكون نيبال دولة حبيسة - لا تطل على البحار - فإنها اعتمدت لسنوات طويلة على الواردات الهندية، واضطلعت الهند في المقابل بدور نشط في الشؤون النيبالية. إلا أن الوضع تبدل خلال السنوات الأخيرة مع تحرك نيبال بعيداً عن دائرة النفوذ الهندي ودخول الصين وسدها الفجوة التي تركها الانحسار التدريجي للنفوذ الهندي - تحت حكم ناريندرا مودي رئيس الوزراء اليميني الهندوسي القومي الحالي - عبر استثمارات ومساعدات وقروض سخية.
من جهتها، تنظر الصين إلى نيبال باعتبارها شريكاً محورياً في «مبادرة الحزام والطريق»، وترغب في ضخ استثمارات بالبيئة التحتية النيبالية في إطار خطط كبرى لها لتعزيز نشاطاتها التجارية العالمية.
وما يستحق الذكر في هذا السياق أن الرئيس الصيني شي جينبينغ أصبح خلال العام الماضي أول رئيس صيني يزور نيبال منذ زيارة جيانغ زيمين عام 1996. وخلال زيارة شي، قرر البلدان رفع مستوى الروابط بينهما إلى «شراكة استراتيجية».

تقارب صيني - نيبالي
الدبلوماسي الهندي السابق كريشان سينغ يتساءل في تعليقه على التقارب الصيني - النيبالي «كيف يمكن التعامل مع الصين؟... نحن نتصدى لهم... لكن عندما يتعلق الأمر بمنطقة جوهرية داخل دائرة نفوذك، وهي نيبال، يصبح لزاماً عليك التخلص من (رئيس الوزراء) أولي».
ويضيف كريشان سينغ: «لدينا أصول كافية هناك، فهناك البرلمان النيبالي، بجانب وجود انقسامات داخل الحزب الشيوعي النيبالي الحاكم. كما أننا نعرف جميع العناصر الفاعلة... لذا، علينا أن نتحرك للتخلص من الدمية الصينية الموجودة بالجوار، ودعم حكومة موالية للهند في (العاصمة النيبالية) كاتماندو... ومن شأن هذه الصفعة الموجهة إلى الصين أن تبعث برسالة واضحة لجميع دول الجوار مفادها أنك إذا سعيت للحصول على حماية الصين، فإنها لن تتمكن من إنقاذك لأنها لا تعرف آلية عمل الأنظمة الديمقراطية. قد يظل سفيرك يجري من مكان لآخر دون جدوى، لكن إذا فقد رئيس الوزراء شعبيته وتفكّك حزبه، فإن هذه تحديداً الرسالة التي تبعث بها. إننا لا نلقي اللوم على الصين، ولا ينبغي لنا منحها أهمية تفوق حجمها بمناشدتنا النيباليين بأن يبعدوا عنها، وإنما علينا فقط أن ندفعهم فعلياً للبعد عنها».
في أي حال، الملاحظ أن هذه الانتكاسة التي منيت بها الهند مع نيبال جاءت في توقيت شديد السوء، في ظل وجود أزمة عالقة على الحدود المتنازع عليها مع الصين شرق لاداخ. ومن المحتمل أن تمضي الصين في مساندة محاولات باكستان تدويل نزاعها مع الهند حول جامو وكشمير (الولاية الهندية السابقة، والمنطقة التابعة للهند في كشمير الطبيعية)، كما فعلت في أعقاب قرار حكومة مودي بتجريد الولاية من وضعها الاستثنائي وإعادة تنظيمها لتصبح منطقتين اتحاديتين في الخامس من أغسطس (آب) 2019. وفي هذا الصدد، أوضح الصحافي الهندي أنيربان بهاوميك أن «تردي العلاقات مع نيبال جاء بمثابة انتكاسة للتحركات الهندية الأخيرة لإعادة التأكيد على دورها القيادي داخل «رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي». وقد سارعت إسلام آباد بالفعل لاستغلال تجدد الاهتمام بالأزمة الحدودية بين الهند من جهة والصين ونيبال من جهة، لاتهام نيودلهي بالسعي خلف أطماع توسعية».

الصين في مواجهة الحوار
الأمني الرباعي
يرى البعض الآن أن حلم الصين في تسيد العالم وحتى احتلال المرتبة الثانية في الهيمنة على العالم بعد الولايات المتحدة، يبدو بعيد المنال في ظل الأوضاع الجيوسياسية الراهنة. وما يدعم هذا الاعتقاد التكتل المناهض للصين الذي نجح الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تكوينه رغم كل المصاعب التي يواجهها في الداخل الأميركي بسبب جائحة «كوفيد - 19» وتداعياتها. فاليوم، بدأت ألمانيا وبريطانيا وأستراليا في تقليص علاقاتها مع الصين، والعمل على إعادة ترتيب العلاقات الدبلوماسية معها، واضعة نصب أعينها اجتماع مجموعة «السبعة الكبار» المقبل، الأمر الذي زاد من شعور بكين بالإحباط.
وفي هذا الصدد، أوضح الكاتب الصحافي الهندي مانيش بانديا أن «الأزمة الصينية - الهندية على الحدود مرتبطة بتردي العلاقات الدبلوماسية بين بكين وواشنطن. ولا تبدو الهند الدولة الوحيدة التي وجدت نفسها محصورة في التوتر المشتعل بين الجانبين. إلى جانب ذلك، فإن ما تفعله بكين لقمع الاضطرابات في هونغ كونغ، وأصوات الاعتراض داخل تايوان، أو ما تفعله من أجل فرض الاحتلال الكامل للتيبت ليس بالأمر الجديد أو المفاجئ للكثيرين من مراقبي العلاقات الهندية - الصينية». وإضافة لذلك، عمدت الصين إلى توريط أستراليا في توتراتها الأمنية مع الهند بعد توقيع نيودلهي وكانبيرا اتفاقية دفاعية تتشارك القوات العسكرية بالبلدين في منشآت داخل مضايق بحرية تنافس بكين بحدة للسيطرة عليها.
ومع تعبئة الصين والهند للمزيد من القوات والمعدات على امتداد الحدود الجبلية في سلسلة جبال الهيمالايا، ذكرت صحيفة «غلوبال تايمز» المدعومة من الحزب الشيوعي الصيني أن بكين تنظر إلى الاتفاق الهندي - الأسترالي باعتباره تهديداً مباشرا لها.
وحول هذا الجانب، أشار الكاتب الصحافي الهندي إم. دي. نالابات إلى أن «لدى كل من ترمب ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي ورئيس وزراء أستراليا سكوت موريسون ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خططه الخاصة لنظام عالمي جديد في القرن الـ21».
وأردف نالابات: «في عام 2020. «ثمة ميثاق لمنطقة الهند والمحيط الهادي» آخذ في التشكل سريعاً كخيار يكسب تأييد أعداد متزايدة، خاصة داخل الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان. وفي الدول الأربعة، يدرس صانعو السياسة على نحو غير رسمي إمكانية العمل على الميثاق المقترح لمنطقة الهند والمحيط الهادي. وتبدو الدول الأربعة المشاركة في «الحوار الأمني الرباعي» (أستراليا واليابان والولايات المتحدة والهند) عناصر مثالية لإطلاق مثل هذا الخطوة، مثلما كانت بريطانيا والولايات المتحدة فيما يخص «الميثاق الأطلسي». وفي الوقت الذي تعتبر الدول الأربعة الأعضاء في «الحوار الأمني الرباعي» أنظمة ديمقراطية، فإن الميثاق المقترح يمكن بمرور الوقت أن يضم دولاً مثل فيتنام وجنوب أفريقيا.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.