غازي وزني... حامل «كرة الدولار» اللبنانية

وزير المال في حكومة دياب يحتاج إلى رؤية «روما من فوق»

غازي وزني...  حامل «كرة الدولار» اللبنانية
TT

غازي وزني... حامل «كرة الدولار» اللبنانية

غازي وزني...  حامل «كرة الدولار» اللبنانية

لا يختلف اثنان على أن مقعد وزارة المال في الحكومة اللبنانية بات يشبه «كرة نار»، لا يجرؤ على التقاطها كثيرون، لأنها تمثل مركزاً قيادياً في سفينة تشارف على الغرق التام. وبالتالي فإن وزير المال سيكون (مع حاكم «مصرف لبنان») في «بوز المدفع»، كما يقول المثل اللبناني، أي أنه يقف أمام فوهة المدفع وسيكون أول من يصاب بطلقاته.
وعلى الرغم من إغراء لقب «صاحب المعالي»، فإن غازي وزني تردد كثيراً، قبل قبوله بهذا المنصب، أو على الأقل تأخر في اتخاذ قرار قبول حقيبة النار الوزارية، على عادته في التروّي كثيراً قبل اتخاذ القرارات الكبرى. إذ لم يعرف من قبل عن غازي وزني – وفق عارفيه – اتخاذه القرارات السريعة. بل العكس صحيح، إذ يقول عنه بعض معارفه إنه «أبعد ما يكون عن الانفعال، ولا يتخذ قراراً عن غضب أو عن تسرّع، فتراه يقلّب الأمور من جوانبها كافة قبل اتخاذ القرار». وهذا ما حصل مع منصب وزير المال الذي استغرق الكثير من وقت وزني لقبوله، على الرغم من أنه كان جاهَر المعنيين برغبته في تولي منصب نائب حاكم (مصرف لبنان)، قبل استفحال الأزمة المالية.

مع أن الوزير الدكتور غازي وزني، وزير المال اللبناني، تجنّب المواجهات الكبرى، مفضلاً عليها الحوار والنقاش وتدوير الزوايا، فإن هذا لا يعني أنه لا يمتلك قراراً واضحاً ورؤية واضحة. إنه رجل هادئ تتغلب واقعيته على مثاليته. وهو كان يدرك سلفاً أنه عندما يتخذ قرار المشاركة في الحكومة، فلن يكون صاحب قرار حرٍّ يضع أفكاره ويطبقها من دون حسيب أو رقيب، بل يعرف تماماً أن القوى السياسية التي سمّته لهذا المنصب تمتلك رؤية ستكون لها الأولوية.
لهذا رضخ وزني في موضوع التعيينات الإدارية التي أقرّتها الحكومة، كما تمهل في طرح موضوع «ترشيق» القطاع العام الذي كان وزني في طليعة مُنتقدي «ترهُّلِه». ولهذا السبب أيضاً لم يعارض قرار الحكومة ضخ الدولارات في السوق المحلية، على الرغم من اقتناعه بأن ما سيضخّه مصرف لبنان ضئيل، وغير كافٍ للحفاظ على سعر الليرة، وأنه كان الأجدى بأن يُصرَف في توفير المستلزمات الحيوية للبنان.
لكن الوزير وزني، في نهاية المطاف، قبل بأن تتم «التجربة»، التي يعتقد (كما ينقل بعض أصدقائه) أن مصيرها سيكون الفشل. وهو ممن يعتقدون أن أزمة لبنان المالية منبعها فقدان الثقة بالعملة الوطنية، ومعالجة هذا الواقع هو المدخل الصحيح، في ظل غياب القدرة على ضخ كتلة نقدية كبيرة تدافع عن الليرة اللبنانية.

خبير يلم بالتفاصيل

الخبير الاقتصادي الاقتصادي بهيج أبو غانم، يقول إنه عرف وزني «على مدى سنوات عدة خبيراً اقتصادياً ومالياً يواكب الأوضاع الاقتصادية والمالية بكل تفاصيلها، ويعكس آراءه ومواقفه الصريحة من خلال منابر الإعلام المرئي والمقروء والمسموع». ويضيف أن وزني تميز قبيل توليه الوزارة «بالتحليل الموضوعي الرصين. وكان باستمرار يضع الأصبع على الجرح، منتقداً بجرأة السياسة المالية والنقدية، ومنبهاً، باستمرار، من مخاطر استمرار عجز الموازنة وعجز مؤسسة (كهرباء لبنان)، ناهيك من محاذير التوسّع في حجم القطاع العام، ولا سيما معارضته الشديدة لقانون سلسلة الرتب والرواتب ولأنظمة التقاعد».
وإذ يشير أبو غانم إلى أن وزني «تسلّم مهمات وزارة المالية في الوقت الصعب، مدركاً سلفاً المفاصل الأساسية في وزارته»، فإنه يأخذ عليه أنه تنقصه كأول مرة يتولى فيها حقيبة وزارية، رؤية «روما من فوق». ويشرح: «قد تختلف الآراء حول أدائه في الوزارة لكنها تتفق على شفافيته ومناقبه، فضلاً عن احترامه الرأي الآخر. وهو على الدوام ودود ودمث ومتواضع».
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي نسيب غبريل إنّ وزير المالية لا يتحمل مسؤولية كل القرارات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية للحكومة «فهناك قرارات تأخذها الحكومة مجتمعة، ولا يقرّرها الوزير وحده، ولا يمكن فصل آداء الوزارة عن آداء الحكومة بشكل عام».
ويرى غبريل أنه يجب الفصل بين القرارات التي اتخذتها وزارة المالية مباشرة، أو تلك التي صدرت عن الحكومة مجتمعة. واعتبر أنّ «ما قامت به وزارة المالية، على سبيل المثال، فيما يخصّ دعم الأشخاص والشركات عبر تعليق المهل كان جيداً إذا ما نظرنا إلى الإمكانيات المتاحة، مع العلم أنه كان يمكن الذهاب أبعد من ذلك وطرح سلاّت تحفيزية وإعفاءات ضريبية».
أما فيما خصّ القرارات الاقتصادية والمالية التي صدرت عن الحكومة فلا يتحمل مسؤوليتها وزير المالية (حسب غبريل)، مثل قرار التوقف عن سداد الديون المستحقة بالدولار الأميركي، أي سندات «اليوروبوندز»، والذي حصل بطريقة أثّرت سلباً على المصداقية والثقة بلبنان، في حين يعرف كلّ من يتابع وزير المال حرصه على تعزيز الثقة بلبنان، وميله لتشجيع القطاع الخاص، وجذب رؤوس الأموال من الخارج.
وفي هذا السياق، يوضح غبريل أنّ معظم الدول التي اتخذت قرار التوقف عن الدفع عملت على التفاوض والنقاش مع حاملي سندات «اليوروبوندز»، في الداخل والخارج، قبل أشهر من اتخاذ القرار، الأمر الذي لم تقم به الحكومة حتى اللحظة، ثم إن قرار التوقف عن الدفع كان يجب أن يتزامن مع التفاوض مع «صندوق النقد الدولي» على مشروع تمويلي، بينما بدأت الحكومة بمناقشة الصندوق بعد شهرين تقريباً... ولم نصل حتى اللحظة إلى مرحلة التفاوض.

عملي وواعٍ للتحديات

وفي حين يلفت غبريل إلى أن وزير المالية «واعٍ تماماً للتحديات وللأزمة الاقتصادية، وأنه شخص عملي ولديه خبرة واسعة يمكن التعويل عليها والاستفادة منها في الحكومة»، يشير إلى «تأثير غير مسبوق لبعض المستشارين في الحكومة الحالية لم نعهده في السابق». ويضيف أن أبرز مثال على ذلك كان برنامج الإنقاذ المالي الذي صدر عن الحكومة، والذي قرّر عبر عملية دفترية أنّ الدولة مفلسة، وكذلك «مصرف لبنان» (البنك المركزي) من دون حتى النقاش معه، وأنه يجب الاستجابة لشروط «صندوق النقد الدولي»، قبل أن يضع هذا الصندوق شروطه.
وانطلاقاً مما تقدّم، رأى غبريل أن الحكومة «همّشت المصارف وحمّلتها والمودعين العبء الأكبر، ولم تراعِ مصلحة الاقتصاد اللبناني، الذي يمر عبر تخفيض عجز الموازنة والاهتمام بالقطاع الخاص، وإصلاح القطاع العام وتفعيل الجباية وتحرير الاحتكارات». وفي هذا الإطار يذكّر غبريل بموقف وزير المالية الذي وصفه بـ«الجريء»، عندما خرج وقال إنه لا يجوز تهميش القطاع المصرفي، وكذلك بجهود لجنة المال والموازنة النيابية التي عملت على تقصي الأرقام وتصحيحها.
كذلك يشير غبريل إلى أن «الدول عادة هي التي تأخذ معها برنامجها الإصلاحي لـ(صندوق النقد الدولي)، وهذا ما يجب أن يحصل، فعلى الحكومة أن تذهب بأرقام ورؤية موحدة تقدّم مصلحة الاقتصاد اللبناني على كلّ شيء، حتى تسير قدماً في اقتصادها».

بطاقة شخصية

غازي وزني من مواليد بلدة بنت جبيل الحدودية في أقصى جنوب لبنان، يوم 20 يوليو (تموز) 1954. وهو يتحدر من عائلة «مرتاحة» مالياً، جمعت ثروة مقبولة من أعمالها في أفريقيا؛ حيث عمل فيها وزني في قطاع المصارف لفترة من الزمن متابعاً أعمال عائلته، واستمر في ذلك من بروكسل التي قضى فيها فترة لا بأس فيها من حياته. إلا أن الفترة الأكبر من حياته أمضاها في العاصمة الفرنسية باريس، التي توجه إليها طالباً جامعياً، ثم طالب دكتوراه حيث تخرّج في جامعة باريس التاسعة – دوفين (Dauphine)، حائزاً دبلوم دراسات عليا في العلوم المالية في عام 1980. ثم شهادة دكتوراه في الأداء الاقتصادي والمالي في عام 1983.
عمل وزني بعد ذلك باحثاً في مركز الأبحاث والدراسات المالية (CREFI) التابع لجامعة باريس التاسعة - دوفين بين عامَي 1980 و1984. ومستشاراً مالياً واقتصاديا في باريس بين عامَي 1985 و2001. كذلك كان أستاذاً مشاركاً ومحاضراً في كلية الاقتصاد والأعمال بين عامَي 1987 و1998 في جمهورية الكونغو الديمقراطية، قبل أن يعود إلى لبنان حيث عمل مستشاراً للجنة المال والموازنة البرلمانية بين 2009 و2011. إلى جانب إدارة مكتبه الخاص للدراسات المالية والاقتصادية الذي أنشأه في بيروت عام 2007. ولقد كتب كثيرًا من المقالات الاقتصادية في كبريات صحف لبنان، وتحديدا في «السفير»، ثم «النهار»، بالإضافة إلى مشاركته كمحاضر في كثير من المؤتمرات والندوات.

حياته العائلية

في باريس، تعرّف الدكتور وزني إلى زوجته الأولى، واستمر زواجهما الذي أثمر ثلاثة أبناء، ومن ثم أربعة أحفاد، قبل أن ينفصلا. وبعد ذلك تعرف في بيروت على زوجته الحالية، الإعلامية نجاة شرف الدين.
تصفه زوجته، بأنه «جدي ودقيق»، مضيفة أنه «دقيق ويتابع أعماله حتى النهاية». وتستطرد فتقول عنه إنه أيضاً «صاحب روتين لا يمكن أن يتغير بسهولة، حتى ليكاد يكون هو الروتين بحد ذاته». من ذلك أنه يستيقظ في السادسة والنصف من صباح كل يوم. ولديه طقوسه في تناول قهوة الصباح والفطور. وكذلك في الغداء واللقاءات مع الأصدقاء، وهم قلة على ما تقول شرف الدين، التي تشير إلى أن المنصب الوزاري «استطاع النيل من بعض هذا الروتين، مبقياً له الصباح، وآخذاً منه وجبة الغداء التي باتت أحيانا (ساندويتشاً) يرسل على عجل إلى مكتبه في الوزارة».
وفي هذا السياق، يُذكر أن الوزير وزني من محبي الطعام اللذيذ، وهو يقدّر كثيراً وجبة «الكبة بالصينية» أو الملوخية على الطريقة اللبنانية، كما يحمل معه من السنوات الثلاثين التي عاشها في فرنسا حبه لـ«الفيليه». ومن الأشياء التي يحبها أيضاً السفر ويكثر من القراءات المتنوعة بين الاقتصاد والسياسة والثقافة عموماً.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.