لا يختلف اثنان على أن مقعد وزارة المال في الحكومة اللبنانية بات يشبه «كرة نار»، لا يجرؤ على التقاطها كثيرون، لأنها تمثل مركزاً قيادياً في سفينة تشارف على الغرق التام. وبالتالي فإن وزير المال سيكون (مع حاكم «مصرف لبنان») في «بوز المدفع»، كما يقول المثل اللبناني، أي أنه يقف أمام فوهة المدفع وسيكون أول من يصاب بطلقاته.
وعلى الرغم من إغراء لقب «صاحب المعالي»، فإن غازي وزني تردد كثيراً، قبل قبوله بهذا المنصب، أو على الأقل تأخر في اتخاذ قرار قبول حقيبة النار الوزارية، على عادته في التروّي كثيراً قبل اتخاذ القرارات الكبرى. إذ لم يعرف من قبل عن غازي وزني – وفق عارفيه – اتخاذه القرارات السريعة. بل العكس صحيح، إذ يقول عنه بعض معارفه إنه «أبعد ما يكون عن الانفعال، ولا يتخذ قراراً عن غضب أو عن تسرّع، فتراه يقلّب الأمور من جوانبها كافة قبل اتخاذ القرار». وهذا ما حصل مع منصب وزير المال الذي استغرق الكثير من وقت وزني لقبوله، على الرغم من أنه كان جاهَر المعنيين برغبته في تولي منصب نائب حاكم (مصرف لبنان)، قبل استفحال الأزمة المالية.
مع أن الوزير الدكتور غازي وزني، وزير المال اللبناني، تجنّب المواجهات الكبرى، مفضلاً عليها الحوار والنقاش وتدوير الزوايا، فإن هذا لا يعني أنه لا يمتلك قراراً واضحاً ورؤية واضحة. إنه رجل هادئ تتغلب واقعيته على مثاليته. وهو كان يدرك سلفاً أنه عندما يتخذ قرار المشاركة في الحكومة، فلن يكون صاحب قرار حرٍّ يضع أفكاره ويطبقها من دون حسيب أو رقيب، بل يعرف تماماً أن القوى السياسية التي سمّته لهذا المنصب تمتلك رؤية ستكون لها الأولوية.
لهذا رضخ وزني في موضوع التعيينات الإدارية التي أقرّتها الحكومة، كما تمهل في طرح موضوع «ترشيق» القطاع العام الذي كان وزني في طليعة مُنتقدي «ترهُّلِه». ولهذا السبب أيضاً لم يعارض قرار الحكومة ضخ الدولارات في السوق المحلية، على الرغم من اقتناعه بأن ما سيضخّه مصرف لبنان ضئيل، وغير كافٍ للحفاظ على سعر الليرة، وأنه كان الأجدى بأن يُصرَف في توفير المستلزمات الحيوية للبنان.
لكن الوزير وزني، في نهاية المطاف، قبل بأن تتم «التجربة»، التي يعتقد (كما ينقل بعض أصدقائه) أن مصيرها سيكون الفشل. وهو ممن يعتقدون أن أزمة لبنان المالية منبعها فقدان الثقة بالعملة الوطنية، ومعالجة هذا الواقع هو المدخل الصحيح، في ظل غياب القدرة على ضخ كتلة نقدية كبيرة تدافع عن الليرة اللبنانية.
خبير يلم بالتفاصيل
الخبير الاقتصادي الاقتصادي بهيج أبو غانم، يقول إنه عرف وزني «على مدى سنوات عدة خبيراً اقتصادياً ومالياً يواكب الأوضاع الاقتصادية والمالية بكل تفاصيلها، ويعكس آراءه ومواقفه الصريحة من خلال منابر الإعلام المرئي والمقروء والمسموع». ويضيف أن وزني تميز قبيل توليه الوزارة «بالتحليل الموضوعي الرصين. وكان باستمرار يضع الأصبع على الجرح، منتقداً بجرأة السياسة المالية والنقدية، ومنبهاً، باستمرار، من مخاطر استمرار عجز الموازنة وعجز مؤسسة (كهرباء لبنان)، ناهيك من محاذير التوسّع في حجم القطاع العام، ولا سيما معارضته الشديدة لقانون سلسلة الرتب والرواتب ولأنظمة التقاعد».
وإذ يشير أبو غانم إلى أن وزني «تسلّم مهمات وزارة المالية في الوقت الصعب، مدركاً سلفاً المفاصل الأساسية في وزارته»، فإنه يأخذ عليه أنه تنقصه كأول مرة يتولى فيها حقيبة وزارية، رؤية «روما من فوق». ويشرح: «قد تختلف الآراء حول أدائه في الوزارة لكنها تتفق على شفافيته ومناقبه، فضلاً عن احترامه الرأي الآخر. وهو على الدوام ودود ودمث ومتواضع».
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي نسيب غبريل إنّ وزير المالية لا يتحمل مسؤولية كل القرارات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية للحكومة «فهناك قرارات تأخذها الحكومة مجتمعة، ولا يقرّرها الوزير وحده، ولا يمكن فصل آداء الوزارة عن آداء الحكومة بشكل عام».
ويرى غبريل أنه يجب الفصل بين القرارات التي اتخذتها وزارة المالية مباشرة، أو تلك التي صدرت عن الحكومة مجتمعة. واعتبر أنّ «ما قامت به وزارة المالية، على سبيل المثال، فيما يخصّ دعم الأشخاص والشركات عبر تعليق المهل كان جيداً إذا ما نظرنا إلى الإمكانيات المتاحة، مع العلم أنه كان يمكن الذهاب أبعد من ذلك وطرح سلاّت تحفيزية وإعفاءات ضريبية».
أما فيما خصّ القرارات الاقتصادية والمالية التي صدرت عن الحكومة فلا يتحمل مسؤوليتها وزير المالية (حسب غبريل)، مثل قرار التوقف عن سداد الديون المستحقة بالدولار الأميركي، أي سندات «اليوروبوندز»، والذي حصل بطريقة أثّرت سلباً على المصداقية والثقة بلبنان، في حين يعرف كلّ من يتابع وزير المال حرصه على تعزيز الثقة بلبنان، وميله لتشجيع القطاع الخاص، وجذب رؤوس الأموال من الخارج.
وفي هذا السياق، يوضح غبريل أنّ معظم الدول التي اتخذت قرار التوقف عن الدفع عملت على التفاوض والنقاش مع حاملي سندات «اليوروبوندز»، في الداخل والخارج، قبل أشهر من اتخاذ القرار، الأمر الذي لم تقم به الحكومة حتى اللحظة، ثم إن قرار التوقف عن الدفع كان يجب أن يتزامن مع التفاوض مع «صندوق النقد الدولي» على مشروع تمويلي، بينما بدأت الحكومة بمناقشة الصندوق بعد شهرين تقريباً... ولم نصل حتى اللحظة إلى مرحلة التفاوض.
عملي وواعٍ للتحديات
وفي حين يلفت غبريل إلى أن وزير المالية «واعٍ تماماً للتحديات وللأزمة الاقتصادية، وأنه شخص عملي ولديه خبرة واسعة يمكن التعويل عليها والاستفادة منها في الحكومة»، يشير إلى «تأثير غير مسبوق لبعض المستشارين في الحكومة الحالية لم نعهده في السابق». ويضيف أن أبرز مثال على ذلك كان برنامج الإنقاذ المالي الذي صدر عن الحكومة، والذي قرّر عبر عملية دفترية أنّ الدولة مفلسة، وكذلك «مصرف لبنان» (البنك المركزي) من دون حتى النقاش معه، وأنه يجب الاستجابة لشروط «صندوق النقد الدولي»، قبل أن يضع هذا الصندوق شروطه.
وانطلاقاً مما تقدّم، رأى غبريل أن الحكومة «همّشت المصارف وحمّلتها والمودعين العبء الأكبر، ولم تراعِ مصلحة الاقتصاد اللبناني، الذي يمر عبر تخفيض عجز الموازنة والاهتمام بالقطاع الخاص، وإصلاح القطاع العام وتفعيل الجباية وتحرير الاحتكارات». وفي هذا الإطار يذكّر غبريل بموقف وزير المالية الذي وصفه بـ«الجريء»، عندما خرج وقال إنه لا يجوز تهميش القطاع المصرفي، وكذلك بجهود لجنة المال والموازنة النيابية التي عملت على تقصي الأرقام وتصحيحها.
كذلك يشير غبريل إلى أن «الدول عادة هي التي تأخذ معها برنامجها الإصلاحي لـ(صندوق النقد الدولي)، وهذا ما يجب أن يحصل، فعلى الحكومة أن تذهب بأرقام ورؤية موحدة تقدّم مصلحة الاقتصاد اللبناني على كلّ شيء، حتى تسير قدماً في اقتصادها».
بطاقة شخصية
غازي وزني من مواليد بلدة بنت جبيل الحدودية في أقصى جنوب لبنان، يوم 20 يوليو (تموز) 1954. وهو يتحدر من عائلة «مرتاحة» مالياً، جمعت ثروة مقبولة من أعمالها في أفريقيا؛ حيث عمل فيها وزني في قطاع المصارف لفترة من الزمن متابعاً أعمال عائلته، واستمر في ذلك من بروكسل التي قضى فيها فترة لا بأس فيها من حياته. إلا أن الفترة الأكبر من حياته أمضاها في العاصمة الفرنسية باريس، التي توجه إليها طالباً جامعياً، ثم طالب دكتوراه حيث تخرّج في جامعة باريس التاسعة – دوفين (Dauphine)، حائزاً دبلوم دراسات عليا في العلوم المالية في عام 1980. ثم شهادة دكتوراه في الأداء الاقتصادي والمالي في عام 1983.
عمل وزني بعد ذلك باحثاً في مركز الأبحاث والدراسات المالية (CREFI) التابع لجامعة باريس التاسعة - دوفين بين عامَي 1980 و1984. ومستشاراً مالياً واقتصاديا في باريس بين عامَي 1985 و2001. كذلك كان أستاذاً مشاركاً ومحاضراً في كلية الاقتصاد والأعمال بين عامَي 1987 و1998 في جمهورية الكونغو الديمقراطية، قبل أن يعود إلى لبنان حيث عمل مستشاراً للجنة المال والموازنة البرلمانية بين 2009 و2011. إلى جانب إدارة مكتبه الخاص للدراسات المالية والاقتصادية الذي أنشأه في بيروت عام 2007. ولقد كتب كثيرًا من المقالات الاقتصادية في كبريات صحف لبنان، وتحديدا في «السفير»، ثم «النهار»، بالإضافة إلى مشاركته كمحاضر في كثير من المؤتمرات والندوات.
حياته العائلية
في باريس، تعرّف الدكتور وزني إلى زوجته الأولى، واستمر زواجهما الذي أثمر ثلاثة أبناء، ومن ثم أربعة أحفاد، قبل أن ينفصلا. وبعد ذلك تعرف في بيروت على زوجته الحالية، الإعلامية نجاة شرف الدين.
تصفه زوجته، بأنه «جدي ودقيق»، مضيفة أنه «دقيق ويتابع أعماله حتى النهاية». وتستطرد فتقول عنه إنه أيضاً «صاحب روتين لا يمكن أن يتغير بسهولة، حتى ليكاد يكون هو الروتين بحد ذاته». من ذلك أنه يستيقظ في السادسة والنصف من صباح كل يوم. ولديه طقوسه في تناول قهوة الصباح والفطور. وكذلك في الغداء واللقاءات مع الأصدقاء، وهم قلة على ما تقول شرف الدين، التي تشير إلى أن المنصب الوزاري «استطاع النيل من بعض هذا الروتين، مبقياً له الصباح، وآخذاً منه وجبة الغداء التي باتت أحيانا (ساندويتشاً) يرسل على عجل إلى مكتبه في الوزارة».
وفي هذا السياق، يُذكر أن الوزير وزني من محبي الطعام اللذيذ، وهو يقدّر كثيراً وجبة «الكبة بالصينية» أو الملوخية على الطريقة اللبنانية، كما يحمل معه من السنوات الثلاثين التي عاشها في فرنسا حبه لـ«الفيليه». ومن الأشياء التي يحبها أيضاً السفر ويكثر من القراءات المتنوعة بين الاقتصاد والسياسة والثقافة عموماً.