حسب الشيخ جعفر شاعر المكان المنفي والأزمنة المطمورة

«القصيدة المدورة» لا تختزل تجربته وليست علامتها الوحيدة الفارقة

حسب الشيخ جعفر
حسب الشيخ جعفر
TT

حسب الشيخ جعفر شاعر المكان المنفي والأزمنة المطمورة

حسب الشيخ جعفر
حسب الشيخ جعفر

لم يحدث أن التقيت بالشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر سوى مرات قليلة، وفي مناسبات ثقافية متباعدة يعود معظمها إلى مهرجان المربد الشعري، في سبعينيات القرن الفائت وثمانينياته. ولما كانت بعض أعماله المبكرة قد سبقتني إليه، فإن المقارنة التي عقدتها على عجل بين شخصية حسب وبين شعره، كانت تشي بنوع من التكامل والانسجام يصل إلى حد التطابق أو التماهي الكامل. إذ ثمّ قدر من الغموض المحير يلف ملامح الشاعر الذي يؤثر الصمت على الثرثرة، والتواري الخفر على الاستعراضية والادعاء والتباهي المنفر بالنفس.
ورغم حرص الشاعر على أن يظهر بمظهر البشوش والحميم إزاء من يلتقي بهم، فإن ابتسامته البادية لم تكن لتنجح في إخفاء سحابة الحزن المبهمة التي تكتنفها، والمتأتية على الأرجح من عوالم ريفية مثخنة بالعزلة والفقر، ومن المخزون التاريخي الذي لا ينفد لشجن العراق ومكابدات أهله المزمنة. على أن الحزن البادي في عيني حسب وملامحه، لم يكن ليعطي من يتأمله انطباعاً بيأس صاحبه أو نزوعه الرومانسي، بل هو حزن مشوب بالتحدي والغضب والتبرم بالواقع.
وإذا كان لي أن أستعيد تفاصيل لقائي الأول بصاحب «الطائر الخشبي»، فإنني أستطيع القول إن حزنه الغاضب وهدوءه المتوتر، كانا يقعان في مكان وسط بين انكسار السياب وغضب خليل حاوي. لا أعرف على وجه التحديد إذا ما كانت مجموعة حسب الشيخ جعفر الأولى «نخلة الله» الصادرة عام 1969. قد تضمنت بالفعل بواكير شعره، أم أن الشاعر قد تعمد القفز عن البواكير التي لم ير فيها ما يستحق النشر في عمل مطبوع. ذلك أن هذا الديوان لا يحمل سمات البواكير التي تتسم في الأعم الأغلب بالكثير من الارتباك والتعثر الأسلوبي، بل يحمل قدراً غير قليل من النضج والدربة والحساسية الإيقاعية والتعبيرية.
وإذا كان بعض الشعراء قد لجأوا لاحقاً إلى حذف أعمالهم الأولى التي تسرعوا في نشرها بدافع الحماس واستعجال الشهرة، فليس من شأن حسب أن يحذو حذوهم بأي حال. على أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن الشاعر في عمله الأول لم يكن قد وجد بعد «إيقاعه» الخاص، لا بالمعنى الضيق للكلمة، بل بالمعنى الذي يجعل الإيقاع ناظماً للفرادة في اللغة والأسلوب وسائر أدوات التعبير. واللافت في الأمر أن الانطباع الأولي الذي تكوّن لدي عن تقاطعٍ في الملامح بين الشيخ جعفر وبين كلّ من السياب وحاوي، ما لبث أن انسحب على بواكيره التي حملت ظلالاً واضحة لشجن السياب وترسله الغنائي، وهو ما يجد تمثلاته في قصيدته «جذور الريح» التي يقول فيها:
«قرأنا وجهكِ المهجور في الحفَرِ/ قرأنا وجهكِ المحفور في صخر الفؤاد الجائع العاري/ وأمسكت الأصابعُ والشفاهُ بجرْفك الهاري/ وأرعدت الذرى في القاع واتحدر الهشيم بكل متحدر».
فيما أن نصوصاً أخرى تتقاطع مع مناخات حاوي، المسكونة بالهواجس الحضارية من جهة، والمعتمدة على الضربات المتماثلة للإيقاع المقفى من جهة أخرى. إذ تمة ما يذكّرنا بقصيدة «لعازر» في قول الشيخ جعفر:
«كلما ناديت ذاك الجرف عادْ/ صوتك الخابي مع الريح وأمطار الرمادْ/ لا تدقّ الباب فالباب جدارْ/ ليس خلف الباب إلا ورق الأمس وأكفان الغبارْ». وثمة ما يذكّر بقصيدة «الكهف»، التي تمزج بين النزوع إلى براءة العالم وبين اللغة المحمومة، في قول حسب «أيها الكهف القديمْ/ ها أنا أعوي على بابك كالذئب، طريداً استجيرْ/ في يدي النار التي تنفخ روحاً في الهشيمْ».
على أن قارئ حسب الشيخ جعفر لن ينتظر طويلاً، قبل أن يتلمس مع ثلاثيته الشعرية المتلاحقة «الطائر الخشبي» و«زيارة السيدة السومرية» و«عبر الحائط في المرآة»، المنحى الجديد لتجربة الشاعر التي اتجهت سريعاً نحو مزيد من التميز والخصوصية والتبلور الأسلوبي.
صحيح أن تلك الخصوصية كانت قد ظهرت ملامحها في بعض قصائد عمله الأول، وبخاصة في قصيدته «قهوة العصر»، التي تمتح من خصوبة الريف وتحوّله إلى مادة سحرية غنية ملتبسة الدلالات، ولكن الشاعر بدا في أعماله تلك، أكثر تمكّناً من أدواته، فضلاً عن ذهابه نحو مناطق أكثر عمقاً في استكناه الأسئلة المتعلقة بالذات والوجود.
فهو من ناحية يفيد من عالم التصوف وكشوفه ومعجمه التعبيري، وهو من ناحية أخرى يستند إلى ظهير غير محدود من الأساطير والرموز، سواء تلك المتصلة ببلاد ما بين النهرين، أو التي تجد مرجعيتها في حضارتي اليونان وبلاد فارس، وغيرهما من حضارات العالم. والملاحظ في هذا الإطار أن نصوص هذه الدواوين تنقسم بشكل واضح بين المقطوعات القصيرة والمكثفة، وبين القصائد الطويلة التي يطغى عليها عنصرا الحوار والسرد، وتعتمد ما عُرف لاحقاً بتقنية التدوير. ففي مقطوعة «النار القديمة» تنتقل النار من إطارها الطقوسي المتعلق بمعتقدات المجوس، لتتحد مع حرائق الداخل الإنساني، ومع الصرخات التي ترافق الروح في طريق بحثها عن الخلاص:
«أكلما خبا الصدى والريح/ رأيتُ عينين وحيدتين وامرأه/ توقد ناراً تحت قدْرٍ، والنخيل في الدجى ينوحْ/ ويصرخ البطّ الطريد، والنجوم مطفأه/ أكلما خبا الصدى والريحْ/ وانشقّ قلبي مثل جذع نخلة مجروحْ/ هامت كطيرِ الفلواتِ الروحْ».
في كتابه «أيتام سزمر» يرى الناقد المغربي بنعيسى بو حمالة بأن حسب الشيخ جعفر هو واحد من أبرز الشعراء الأيتام الذين تمكنوا من قتل الأب الرمزي المتمثل بالسياب، على وجه الخصوص، ليقترفوا فعل التمرد والمغامرة الشكلية والتثاقف الحر مع حركة الشعر في العالم.
ويذهب بو حمالة، استطراداً، إلى القول بأن الشيخ جعفر غادر خانة الشعراء التموزيين ليدخل فيما يمكن تسميته بالتراجيديا الأورفية، نسبة إلى أورفيوس الذي كان يفتن الكائنات الحية بموسيقاه الساحرة، والذي فقد حبيبته أوريديس للمرة الثانية، بعد أن تجاهل تحذيرات الآلهة بعدم التفاته نحوها.
والحقيقة أن من يمعن النظر في قصائد حسب، لا بد أن يرى ظلالاً لأوريديس في غير مجموعة من مجموعاته. وسواء أطلق على حبيبته اسم زينا أو أوديت أو ابتهال أو غير ذلك، فإن المرأة عنده لا تحضر بوصفها امرأة من لحم ودم فحسب، بل هي تحضر متداخلة مع عناصر الطبيعة وصوَرها وتجلياتها المختلفة، أو تحضر متماهية مع روح الحضارة القديمة وأماكنها وأطيافها الغاربة.
ولكن ذلك الحضور سرعان ما يتوارى وراء رتلٍ من السراب الخادع «شممت في غرفتها هبّة ريحٍ أتيه/ من مدنٍ مطمورة في غابر الدهورْ/ شممت في غرفتها مجامراً في سرَرٍ/ تقضي سميراميس ليلتها فيها/ كنَمِرٍ جائعٍ حبيسْ/ يلهث ثدياها كخيلٍ متعبه/ مددتُ كفّي نحوها/ نزعتُ عن جبينها النقابْ/ وحينما عانقتها/ طويتُ زندي على ترابْ».
وفي اعتقادي أن تخفف حسب الشيخ جعفر الجزئي من بحري الكامل والرمل، اللذين ألح بعض الرواد على استنفاد احتمالاتهما الإيقاعية، واستثماره اللاحق لإيقاعي المتقارب والرجز، حيث التواشجات الموسيقية المتموجة والأكثر توتراً، قد مكنته من حمل تجربته إلى مناطق ومساحات مختلفة على الصعد النفسية والمعجمية والرؤيوية.
وهو ما ساعده أيضاً على المضي أكثر فأكثر في اجتراح ما سمي بالقصيدة المدورة القائمة على كسر الحواجز بين الأسطر، وتضييق المسافة بين الشعر والنثر، وتهميش التقفية إلى حد الإلغاء، بحيث تصبح القصيدة نوعاً من النص التشكيلي المفتوح على الشعر والسرد والمسرح وغيرها. وإذا كنت لا أحب الأحكام المطلقة في النقد، ولا أجاري فاروق يوسف في ذهابه إلى القول بأن قصيدة حسب «قارة سابعة» هي أعظم ما كُتب في الشعر العربي الحديث، بحيث لم تكن تجارب السياب وأدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال إلا تمارين مسرحية ممهدة لتلك القصيدة، فإن ذلك لا يحول دون التنويه بهذا النص العاطفي الطويل الذي تتحول فيه الرغبة الشبقية إلى مثلث متساوي الأضلاع، قوامه اللغة والطبيعة والجسد الأنثوي «وارتحلتُ في انزلاقة اليدين حتى العروة الأخيرة/ اتكأتُ في الظل على انحناءة الشفاه/ فرّ الشعَر الثقيل كالنهرِ،/ ارتمى كالبجع التعبانِ،/ وانهمرتُ في همومه المنهمره/ في شهركِ الثامن مثل الثمره». إلا أن الشاعر، وفق ما أراه، لا ينجح بشكل دائم في إقامة التوازن المطلوب بين مقتضيات التشكيل الإيقاعي وبين متطلبات المعنى. وهو ما يظهر في مجموعته «أنا أقرأ البرق احتطابا» التي تكرر نظامها الثلاثي بشكل رتيب على امتداد مائتين وثمانين صفحة، وبدت ثلاثيات من مثل «جوّفتُ كالقعداء كالكسلى القلمْ/ وقد التقى الرعد القمم/ سلمان للريح النشاره» وكثير غيرها، أقرب إلى التأليف المتعسف منه إلى أي شيء آخر.
من الصعب، أخيراً، أن نختزل تجربة حسب الشيخ جعفر في عبارة أو عنوان بعينهما، وهو الذي لم يتوانَ، في بعض أعماله، مثل «أعمدة سمرقند»، عن توظيف الخرافة في نصوصه، وإقامة حوارات ذات طابع فلسفي بين الحيوانات، على طريقة أحمد شوقي، الذي أهداه الشاعر سونيتاته تلك، على سبيل «الامتنان والذكرى». على أن هاجس حسب في كل ما كتب، هو البحث عن الحياة الغفْل، سواء تجسدت تلك الحياة في مدنٍ غاربة، أو نساء مفقودات، أو لغة متوارية داخل كهوفها المعتمة ودغلها الكثيف.
وهو ما تعكسه بوضوح قصيدته «في أدغال المدن» حيث لا نعثر على فاصل يُذكر بين بهو الفنادق والجذور المجعدة الوجه، أو قصيدة «الإقامة على الأرض»، حيث يرقد طفل من نخيل العراق في مقبرة خلف برلين، ويحتل أسد أشوري مجنح صدارة متاحفها. وحيث وقْع خطى المرأة السومرية، يتردد في أعماق الطرق المجهولة ويخترق الحدود المعروفة للزمن.
وإذ يتخذ الشيخ جعفر من أبي نواس، الباحث عبثاً عن وجه «جنان» السرابي، قناعاً لبحثه المضني عن المرأة المستحيلة، يستعير مرة أخرى قناع أورفيوس التراجيدي ليخاطبه قائلاً: «كلما قيل: آتية، والتفتّ، اختفتْ/ والتلفّت شيمتنا/ فكلّ طيرٍ شاردٍ جنان/ كلّ امرأة عابرة جنان/ والتوسّل الجميل/ والنيازك العمياء في انحدارها/ وكلّ وردة آفلة جنان». ومع أن مظاهر الحنين إلى الطفولة والتشبث بالمكان الأصلي لا تغيب عن نصوص الشاعر، إلا أن هذه النصوص تنفتح في الوقت عينه على أماكن كثيرة، تكتسب عند حسب ألفتها الحميمة التي تتكفل الذاكرة بإبقائها طازجة ونابضة بالحياة. ففي ديوانه «تواطؤاً مع الزرقة» تتحول القصائد إلى رقائم وتعاويذ لمنع النسيان، ولحفظ الوقائع من التسرب بعيداً عن لحظات حدوثها.
كأن حضور الشاعر في العالم هو مزيج من الشجرة والنهر، من الثبات والترحل، من الوطن والمنفى، أو كأنه «خيط مضطرب بين العمارة، مدينته الأم، وبين وموسكو، المدينة التي درس فيها وانعكست ملامحها في كثير من أعماله.
وبين هذه وتلك تنبجس من باطن الذاكرة أصقاع وخرائط وتضاريس، لا يتوانى الشاعر عن تعقّبها في قصائده، أنّى ذهبت به السبل: «عالياً في انحدار الجبال على النهر،/ في الصين/ تبني السنونو بيوتاً لها/ مذ جرى النهر واتحدرتْ بالجروف الجبالْ/ لم أعد أرتجي غير معتزَلٍ في منازلها/ فأصلّي إلى الله/ متّكئاً باليدين إلى الصخر منفرداً/ قائلاً: يا إلهي أعِنّي».



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.