حسب الشيخ جعفر شاعر المكان المنفي والأزمنة المطمورة

«القصيدة المدورة» لا تختزل تجربته وليست علامتها الوحيدة الفارقة

حسب الشيخ جعفر
حسب الشيخ جعفر
TT

حسب الشيخ جعفر شاعر المكان المنفي والأزمنة المطمورة

حسب الشيخ جعفر
حسب الشيخ جعفر

لم يحدث أن التقيت بالشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر سوى مرات قليلة، وفي مناسبات ثقافية متباعدة يعود معظمها إلى مهرجان المربد الشعري، في سبعينيات القرن الفائت وثمانينياته. ولما كانت بعض أعماله المبكرة قد سبقتني إليه، فإن المقارنة التي عقدتها على عجل بين شخصية حسب وبين شعره، كانت تشي بنوع من التكامل والانسجام يصل إلى حد التطابق أو التماهي الكامل. إذ ثمّ قدر من الغموض المحير يلف ملامح الشاعر الذي يؤثر الصمت على الثرثرة، والتواري الخفر على الاستعراضية والادعاء والتباهي المنفر بالنفس.
ورغم حرص الشاعر على أن يظهر بمظهر البشوش والحميم إزاء من يلتقي بهم، فإن ابتسامته البادية لم تكن لتنجح في إخفاء سحابة الحزن المبهمة التي تكتنفها، والمتأتية على الأرجح من عوالم ريفية مثخنة بالعزلة والفقر، ومن المخزون التاريخي الذي لا ينفد لشجن العراق ومكابدات أهله المزمنة. على أن الحزن البادي في عيني حسب وملامحه، لم يكن ليعطي من يتأمله انطباعاً بيأس صاحبه أو نزوعه الرومانسي، بل هو حزن مشوب بالتحدي والغضب والتبرم بالواقع.
وإذا كان لي أن أستعيد تفاصيل لقائي الأول بصاحب «الطائر الخشبي»، فإنني أستطيع القول إن حزنه الغاضب وهدوءه المتوتر، كانا يقعان في مكان وسط بين انكسار السياب وغضب خليل حاوي. لا أعرف على وجه التحديد إذا ما كانت مجموعة حسب الشيخ جعفر الأولى «نخلة الله» الصادرة عام 1969. قد تضمنت بالفعل بواكير شعره، أم أن الشاعر قد تعمد القفز عن البواكير التي لم ير فيها ما يستحق النشر في عمل مطبوع. ذلك أن هذا الديوان لا يحمل سمات البواكير التي تتسم في الأعم الأغلب بالكثير من الارتباك والتعثر الأسلوبي، بل يحمل قدراً غير قليل من النضج والدربة والحساسية الإيقاعية والتعبيرية.
وإذا كان بعض الشعراء قد لجأوا لاحقاً إلى حذف أعمالهم الأولى التي تسرعوا في نشرها بدافع الحماس واستعجال الشهرة، فليس من شأن حسب أن يحذو حذوهم بأي حال. على أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن الشاعر في عمله الأول لم يكن قد وجد بعد «إيقاعه» الخاص، لا بالمعنى الضيق للكلمة، بل بالمعنى الذي يجعل الإيقاع ناظماً للفرادة في اللغة والأسلوب وسائر أدوات التعبير. واللافت في الأمر أن الانطباع الأولي الذي تكوّن لدي عن تقاطعٍ في الملامح بين الشيخ جعفر وبين كلّ من السياب وحاوي، ما لبث أن انسحب على بواكيره التي حملت ظلالاً واضحة لشجن السياب وترسله الغنائي، وهو ما يجد تمثلاته في قصيدته «جذور الريح» التي يقول فيها:
«قرأنا وجهكِ المهجور في الحفَرِ/ قرأنا وجهكِ المحفور في صخر الفؤاد الجائع العاري/ وأمسكت الأصابعُ والشفاهُ بجرْفك الهاري/ وأرعدت الذرى في القاع واتحدر الهشيم بكل متحدر».
فيما أن نصوصاً أخرى تتقاطع مع مناخات حاوي، المسكونة بالهواجس الحضارية من جهة، والمعتمدة على الضربات المتماثلة للإيقاع المقفى من جهة أخرى. إذ تمة ما يذكّرنا بقصيدة «لعازر» في قول الشيخ جعفر:
«كلما ناديت ذاك الجرف عادْ/ صوتك الخابي مع الريح وأمطار الرمادْ/ لا تدقّ الباب فالباب جدارْ/ ليس خلف الباب إلا ورق الأمس وأكفان الغبارْ». وثمة ما يذكّر بقصيدة «الكهف»، التي تمزج بين النزوع إلى براءة العالم وبين اللغة المحمومة، في قول حسب «أيها الكهف القديمْ/ ها أنا أعوي على بابك كالذئب، طريداً استجيرْ/ في يدي النار التي تنفخ روحاً في الهشيمْ».
على أن قارئ حسب الشيخ جعفر لن ينتظر طويلاً، قبل أن يتلمس مع ثلاثيته الشعرية المتلاحقة «الطائر الخشبي» و«زيارة السيدة السومرية» و«عبر الحائط في المرآة»، المنحى الجديد لتجربة الشاعر التي اتجهت سريعاً نحو مزيد من التميز والخصوصية والتبلور الأسلوبي.
صحيح أن تلك الخصوصية كانت قد ظهرت ملامحها في بعض قصائد عمله الأول، وبخاصة في قصيدته «قهوة العصر»، التي تمتح من خصوبة الريف وتحوّله إلى مادة سحرية غنية ملتبسة الدلالات، ولكن الشاعر بدا في أعماله تلك، أكثر تمكّناً من أدواته، فضلاً عن ذهابه نحو مناطق أكثر عمقاً في استكناه الأسئلة المتعلقة بالذات والوجود.
فهو من ناحية يفيد من عالم التصوف وكشوفه ومعجمه التعبيري، وهو من ناحية أخرى يستند إلى ظهير غير محدود من الأساطير والرموز، سواء تلك المتصلة ببلاد ما بين النهرين، أو التي تجد مرجعيتها في حضارتي اليونان وبلاد فارس، وغيرهما من حضارات العالم. والملاحظ في هذا الإطار أن نصوص هذه الدواوين تنقسم بشكل واضح بين المقطوعات القصيرة والمكثفة، وبين القصائد الطويلة التي يطغى عليها عنصرا الحوار والسرد، وتعتمد ما عُرف لاحقاً بتقنية التدوير. ففي مقطوعة «النار القديمة» تنتقل النار من إطارها الطقوسي المتعلق بمعتقدات المجوس، لتتحد مع حرائق الداخل الإنساني، ومع الصرخات التي ترافق الروح في طريق بحثها عن الخلاص:
«أكلما خبا الصدى والريح/ رأيتُ عينين وحيدتين وامرأه/ توقد ناراً تحت قدْرٍ، والنخيل في الدجى ينوحْ/ ويصرخ البطّ الطريد، والنجوم مطفأه/ أكلما خبا الصدى والريحْ/ وانشقّ قلبي مثل جذع نخلة مجروحْ/ هامت كطيرِ الفلواتِ الروحْ».
في كتابه «أيتام سزمر» يرى الناقد المغربي بنعيسى بو حمالة بأن حسب الشيخ جعفر هو واحد من أبرز الشعراء الأيتام الذين تمكنوا من قتل الأب الرمزي المتمثل بالسياب، على وجه الخصوص، ليقترفوا فعل التمرد والمغامرة الشكلية والتثاقف الحر مع حركة الشعر في العالم.
ويذهب بو حمالة، استطراداً، إلى القول بأن الشيخ جعفر غادر خانة الشعراء التموزيين ليدخل فيما يمكن تسميته بالتراجيديا الأورفية، نسبة إلى أورفيوس الذي كان يفتن الكائنات الحية بموسيقاه الساحرة، والذي فقد حبيبته أوريديس للمرة الثانية، بعد أن تجاهل تحذيرات الآلهة بعدم التفاته نحوها.
والحقيقة أن من يمعن النظر في قصائد حسب، لا بد أن يرى ظلالاً لأوريديس في غير مجموعة من مجموعاته. وسواء أطلق على حبيبته اسم زينا أو أوديت أو ابتهال أو غير ذلك، فإن المرأة عنده لا تحضر بوصفها امرأة من لحم ودم فحسب، بل هي تحضر متداخلة مع عناصر الطبيعة وصوَرها وتجلياتها المختلفة، أو تحضر متماهية مع روح الحضارة القديمة وأماكنها وأطيافها الغاربة.
ولكن ذلك الحضور سرعان ما يتوارى وراء رتلٍ من السراب الخادع «شممت في غرفتها هبّة ريحٍ أتيه/ من مدنٍ مطمورة في غابر الدهورْ/ شممت في غرفتها مجامراً في سرَرٍ/ تقضي سميراميس ليلتها فيها/ كنَمِرٍ جائعٍ حبيسْ/ يلهث ثدياها كخيلٍ متعبه/ مددتُ كفّي نحوها/ نزعتُ عن جبينها النقابْ/ وحينما عانقتها/ طويتُ زندي على ترابْ».
وفي اعتقادي أن تخفف حسب الشيخ جعفر الجزئي من بحري الكامل والرمل، اللذين ألح بعض الرواد على استنفاد احتمالاتهما الإيقاعية، واستثماره اللاحق لإيقاعي المتقارب والرجز، حيث التواشجات الموسيقية المتموجة والأكثر توتراً، قد مكنته من حمل تجربته إلى مناطق ومساحات مختلفة على الصعد النفسية والمعجمية والرؤيوية.
وهو ما ساعده أيضاً على المضي أكثر فأكثر في اجتراح ما سمي بالقصيدة المدورة القائمة على كسر الحواجز بين الأسطر، وتضييق المسافة بين الشعر والنثر، وتهميش التقفية إلى حد الإلغاء، بحيث تصبح القصيدة نوعاً من النص التشكيلي المفتوح على الشعر والسرد والمسرح وغيرها. وإذا كنت لا أحب الأحكام المطلقة في النقد، ولا أجاري فاروق يوسف في ذهابه إلى القول بأن قصيدة حسب «قارة سابعة» هي أعظم ما كُتب في الشعر العربي الحديث، بحيث لم تكن تجارب السياب وأدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال إلا تمارين مسرحية ممهدة لتلك القصيدة، فإن ذلك لا يحول دون التنويه بهذا النص العاطفي الطويل الذي تتحول فيه الرغبة الشبقية إلى مثلث متساوي الأضلاع، قوامه اللغة والطبيعة والجسد الأنثوي «وارتحلتُ في انزلاقة اليدين حتى العروة الأخيرة/ اتكأتُ في الظل على انحناءة الشفاه/ فرّ الشعَر الثقيل كالنهرِ،/ ارتمى كالبجع التعبانِ،/ وانهمرتُ في همومه المنهمره/ في شهركِ الثامن مثل الثمره». إلا أن الشاعر، وفق ما أراه، لا ينجح بشكل دائم في إقامة التوازن المطلوب بين مقتضيات التشكيل الإيقاعي وبين متطلبات المعنى. وهو ما يظهر في مجموعته «أنا أقرأ البرق احتطابا» التي تكرر نظامها الثلاثي بشكل رتيب على امتداد مائتين وثمانين صفحة، وبدت ثلاثيات من مثل «جوّفتُ كالقعداء كالكسلى القلمْ/ وقد التقى الرعد القمم/ سلمان للريح النشاره» وكثير غيرها، أقرب إلى التأليف المتعسف منه إلى أي شيء آخر.
من الصعب، أخيراً، أن نختزل تجربة حسب الشيخ جعفر في عبارة أو عنوان بعينهما، وهو الذي لم يتوانَ، في بعض أعماله، مثل «أعمدة سمرقند»، عن توظيف الخرافة في نصوصه، وإقامة حوارات ذات طابع فلسفي بين الحيوانات، على طريقة أحمد شوقي، الذي أهداه الشاعر سونيتاته تلك، على سبيل «الامتنان والذكرى». على أن هاجس حسب في كل ما كتب، هو البحث عن الحياة الغفْل، سواء تجسدت تلك الحياة في مدنٍ غاربة، أو نساء مفقودات، أو لغة متوارية داخل كهوفها المعتمة ودغلها الكثيف.
وهو ما تعكسه بوضوح قصيدته «في أدغال المدن» حيث لا نعثر على فاصل يُذكر بين بهو الفنادق والجذور المجعدة الوجه، أو قصيدة «الإقامة على الأرض»، حيث يرقد طفل من نخيل العراق في مقبرة خلف برلين، ويحتل أسد أشوري مجنح صدارة متاحفها. وحيث وقْع خطى المرأة السومرية، يتردد في أعماق الطرق المجهولة ويخترق الحدود المعروفة للزمن.
وإذ يتخذ الشيخ جعفر من أبي نواس، الباحث عبثاً عن وجه «جنان» السرابي، قناعاً لبحثه المضني عن المرأة المستحيلة، يستعير مرة أخرى قناع أورفيوس التراجيدي ليخاطبه قائلاً: «كلما قيل: آتية، والتفتّ، اختفتْ/ والتلفّت شيمتنا/ فكلّ طيرٍ شاردٍ جنان/ كلّ امرأة عابرة جنان/ والتوسّل الجميل/ والنيازك العمياء في انحدارها/ وكلّ وردة آفلة جنان». ومع أن مظاهر الحنين إلى الطفولة والتشبث بالمكان الأصلي لا تغيب عن نصوص الشاعر، إلا أن هذه النصوص تنفتح في الوقت عينه على أماكن كثيرة، تكتسب عند حسب ألفتها الحميمة التي تتكفل الذاكرة بإبقائها طازجة ونابضة بالحياة. ففي ديوانه «تواطؤاً مع الزرقة» تتحول القصائد إلى رقائم وتعاويذ لمنع النسيان، ولحفظ الوقائع من التسرب بعيداً عن لحظات حدوثها.
كأن حضور الشاعر في العالم هو مزيج من الشجرة والنهر، من الثبات والترحل، من الوطن والمنفى، أو كأنه «خيط مضطرب بين العمارة، مدينته الأم، وبين وموسكو، المدينة التي درس فيها وانعكست ملامحها في كثير من أعماله.
وبين هذه وتلك تنبجس من باطن الذاكرة أصقاع وخرائط وتضاريس، لا يتوانى الشاعر عن تعقّبها في قصائده، أنّى ذهبت به السبل: «عالياً في انحدار الجبال على النهر،/ في الصين/ تبني السنونو بيوتاً لها/ مذ جرى النهر واتحدرتْ بالجروف الجبالْ/ لم أعد أرتجي غير معتزَلٍ في منازلها/ فأصلّي إلى الله/ متّكئاً باليدين إلى الصخر منفرداً/ قائلاً: يا إلهي أعِنّي».



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.