حزب «العدالة» التركي يستعمل سياسة «العصا والجزرة» لتطويع وسائل الإعلام

تشكل العلاقة بين وسائل الإعلام والحزب الحاكم في تركيا مادة جدل واسع في البلاد، بعد انهيار الهدنة مع حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب إردوغان في عام 2011، الذي وصل ذروته أخيرا مع الحرب التي يشنها الحزب والحكومة على ما يسمونه «الكيان الموازي»، الاسم الذي يطلقونه على جماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأميركية ويسيطر على مجموعة واسعة من وسائل الإعلام التركية.
ويقوم حزب العدالة والتنمية بالتحكم في 6 صحف و8 قنوات تلفزيونية، يقول خصومه إنه تم شراؤها من خلال العمولات مقابل المقاولات أو المناقصات. لكن العنوان الأبرز للعلاقة مع الإعلام تتجلى في رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب إردوغان الذي يمتلك علاقة جدلية بوسائل الإعلام التركية، وهو ما يثير المؤسسات الدولية التي ترعى حرية الإعلام، فيما قالت تقارير الاتحاد الأوروبي وبعض المؤسسات الدولية إن حرية الإعلام في تركيا قد تراجعت خلال الـ12 عاما الماضية أي منذ أن تولى «العدالة» سدة الحكم في البلاد.
وانتقد رئيس جمعية حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، جويل سيمون، في مقال بصحيفة الـ«غارديان» البريطانية، حرية الصحافة في تركيا. وتطرق في مقاله إلى تفاصيل الاجتماع الذي عقدته الجمعية مع إردوغان الشهر الماضي، قائلا: «إذا كان إردوغان يتصرف علنا بهذا الشكل مع مجموعة من الصحافيين الدوليين، فمن يعلم ماذا يقول في دائرة خاصة؟».
واستغرب سيمون في مقاله كيف أن إردوغان تجاهل في اللقاء الذي جمعهما المعتاد في التعامل مع هذه الأمور، فلم يعرب عن ولائه العميق الذي لا يتغير تجاه حرية الصحافة، أو يوضح السبب الذي يجعله يتخذ موقفا متوترا. ولفت سيمون إلى أن إردوغان لم يتبع هذا السيناريو المتعارف عليه، موضحا أن رئيس الجمهورية التركي شرع في الهجوم عليهم وأبدى موقفا مشاكسا منذ بداية الاجتماع. وأوضح أن إردوغان يصف أخبار وسائل الإعلام بـ«الانحياز والتدخل»، مضيفا أن «هدفه الرئيسي ليس الإعلام المحلي على الرغم من كثرة التوبيخات التي يوجهها له، بل (نيويورك تايمز) و(سي إن إن) العالمية، وأنه قال إنه لن يتسامح على الإطلاق مع الإساءات، كما ذكر أنه يعارض شبكة الإنترنت».
بدوره يقول، طارق أونال، وهو خبير إعلامي ومدير شبكة «روتا» للأخبار، إن عام 2011 نقطة تحول في علاقة حكومة «العدالة والتنمية» مع الإعلام بجميع وسائله، حيث بدأ الطرفان بسل السيوف لمواجهة كليهما الآخر، وأعلنت الحكومة على لسان رئيس وزرائها آنذاك أنها لن ترحم أيّا من وسائل الإعلام التي تقف بجانب الطرف المعارض لسياستها. و«لهذا السبب أقول إن (العدالة والتنمية) كان يستخدم أسلوب (التقية) منذ تولية السلطة حتى عام 2011، أو بمعنى آخر أسقط القناع عن وجهه في موضوع الحريات، والسبب في هذا أنه بعد أن تمكن من السلطة المطلقة في البلاد لم يعد يحتاج إلى ديمقراطية أو إلى إعلام حر يليق بالمعايير الدولية والأوروبية، وبهذا بداء الصراع بين الحكومة ووسائل الإعلام». ويقول أونال لـ«الشرق الأوسط» إن «إردوغان شخص لا يحب الإعلام والإعلاميين قطعا، وإنما استطاع الاستفادة منهم على مر السنين الماضية، ولهذا يستقبل الإعلاميين الذين يرى فيهم إمكانية لتمرير أفكاره والدعاية لحكومته وحزبه، ونرى هذا على أرض الواقع، لأنه يمنع جميع الإعلاميين والمؤسسات التي تنتقده من المشاركة في جولاته أو في المؤتمرات التي يعقدها».
ويرى أونال أن إردوغان «يكن العداء الأكبر لوسائل الإعلام الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي»، مشيرا إلى أنه في اجتماع لممثلي وسائل الإعلام الإلكترونية والحكومة والأكاديميين «كان واضحا أن إردوغان يرى الإعلام الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي ليس إلا نافذة تسمح للناس بشتم الحكومة، باختصار هذه هي نظرة إردوغان للإعلام إلكتروني، ولهذا يطمح إردوغان بجميع الوسائل للحد من انتشاره، وإذا لزم الأمر تقليص حرية التواصل الاجتماعي بين الجميع، ويريد استصدار القوانين ليتيح لحكومته إغلاق أي مؤسسة إعلامية لا تروق له».
وقال أونال: «أنا أعمل في المجال الإعلامي منذ الثمانينات، وأنا شاهد على أن جميع الحكومات كانت تدعم أو تنشئ بعض وسائل إعلام تستطيع من خلالها أن تنقل وجهه نظرها للشارع، أي تصبح لسان حالها والناطقة باسمها، ولكن تلك الحكومات لم تكن تشن حملات ترهيب وإقصاء لوسائل الإعلام الأخرى كما تفعل حكومة (العدالة والتنمية)».
ويشير إلى أن وسائل الإعلام الموالية تنقسم إلى 3 فئات؛ فئة برأسمال الحزب، وفئة أجبرت على الولاء، وفئة أخرى هي الإعلام المكمم. ويعطي مثلا كيف أن الحزب قام بإنشاء إعلام برأسمال الحزب مباشرة ليكون لسان حاله ومن بينها «تلفزيون 24»، وفضائية «آ» للأخبار، و«تلفزيون 360»، هذه الفضائيات الـ3 أقيمت برأسمال الحزب لتكون الناطقة باسمه، وهذا هو القسم الأول من الإعلام. أما القسم الثاني، فيتكون من قنوات موالية مثل «القناة الـ7» و«قناة ألف» و«تلفزيون آ.ت.ف»، وتلك القنوات اختارت أن تكون موالية لأنه توجد لأصحابها مصالح مع الحكومة. كما يوجد قسم ثالث من الإعلام، وهو الإعلام المكمم، الذي أجبر على الخضوع للحكومة لكي يبقى على قيد الحياة، وأكبر مثال على هذا، مجموعة «دوغوش» للإعلام التي توجد فيها قناة «إن تي في» الإخبارية، ومجموعة «دوغان» التي تمتلك العشرات من الفضائيات، ومن بينها «سي إن إن تورك».
ويوضح أونال أن وسائل الإعلام التي أنشأها «العدالة والتنمية» تمول بطريقتين؛ «الأولى الإعلانات للشركات والمنتجات الخاصة، والثانية الإعلانات الحكومية لمؤسسات الدولة وهي من أهم الإعلانات التي تريد وسائل الإعلام أن تأخذها، فنرى أن وسائل إعلام الحكومة تعج بإعلانات بنوك الدولة؛ (خلق بنك) و(زراعات بنك) وخطوط الطيران التركية، كما أن أكثر الشركات الخاصة في تركيا تتسابق لإعطاء الإعلانات لتلك القنوات لأنها تريد أن تنال رضا الحكومة لكي تمنحها من مناقصات من الدولة، وبعض الشركات تعطي إعلانات لإبعاد بلاء الحكومة عنها سواء في الضرائب أو في معاملاتها الرسمية».
ويتابع أونال أن «الأمر نفسه ينطبق على صحفهم الموالية؛ وعلى رأسها جريدة (ستار) التي اشتراها المقربون من إردوغان، وجريدة (ميلاد) التي لا يصل عدد المطبوع منها إلى 10 آلاف نسخة، ولكنها تأخذ نصيبها في الإعلانات مثل جريدة (حرييت) أو جريدة (زمان) التي تبيع مليون نسخة، ومقدار الإعلانات الذي أخذته جريدة (ميلاد) من المؤسسات الحكومية في 3 أشهر من هذا العام يصل إلى 900 ألف ليرة، أي نحو 400 ألف دولار. في المقابل أخذت جريدتا (حرييت) و(زمان) في الفترة نفسها نحو مليون ليرة، أي 450 ألف دولار. باختصار جريدة لا تمثل 10 في المائة من حجم جريدة (حرييت) تتساوى معها في إعلانات الدولة».
ودخلت جريدتا «اقشام» و«يني شفق» حلقة الموالاة نتيجة المصالح المشتركة بين أصحابها وحكومة «العدالة» لتكون لسان حال الحكومة.. وبالنسبة لجريدة «صباح»، فقد جمع رجال الأعمال الموالون لحزب العدالة والتنمية أموالا وقاموا بشرائها لتكون ناطقة باسم «العدالة والتنمية».
ويقول جيهون بوزكرت، رئيس تحرير قسم الأخبار السياسية في جريدة «آيدنلك» المعارضة إنه «منذ أن اعتلى إردوغان وحزب (العدالة) سدة الحكم في البلاد وهو يحاول أن تكون جميع وسائل الإعلام في تركيا تحت سيطرته بالكامل، ويظهر هذا جليا في إجابته عن الأسئلة التي يوجهها له الصحافيون؛ إذ يجيب عن الأسئلة بطريقة لم يعتدها أي صحافي في العالم، فمن بين الأجوبة التي رد بها على صحافي لم يعجبه السؤال الذي وجهه إليه، أن قال له بأن رائحة فمه نتنة». ويرى بوزكرت أن «هذا الأسلوب يدل على أن إردوغان لا يتحمل النقد أو الاعتراض على وجهه نظره».
وأشار إلى أن المتعارف عليه في جميع أنحاء العالم أن الحكومات تنتقد بحدة من جميع وسائل الإعلام لأن السلطة بيدها، و«لهذا مع مرور الزمن بدأ الحقد من قبل إردوغان يزداد يوما بعد يوم على وسائل الإعلام التي تنتقده، وبدأ بإقصاء المؤسسات الإعلامية التي تنتقد إجراءات حكومته ودعم المؤسسات التي تنهال عليه بالمديح». ويقول: «منذ عدة سنوات اقتصر المدعوون من الصحافيين على طائرة رئيس الوزراء على ما نسميهم بالصحافيين الموالين فقط لا غير، كما أنهم هم الوحيدون الذين يقبل إردوغان إجراء اللقاءات الصحافية معهم».
وتحدث بوزكرت عن الضغوط التي تتعرض لها الصحافة المعارضة، متهما إردوغان بأنه «قام بالتعاون مع شريكه في السلطة آنذاك جماعة فتح الله غولن بتلفيق اتهامات للإعلاميين والصحافيين الذين كانوا ينتقدونه، بالضلوع في مؤامرة للانقلاب على الحكومة المنتخبة، كما قامت الحكومة بالضغط على الشركات والمؤسسات الخاصة لعدم إعطاء وسائل الإعلام المعارضة لهم إعلانات حتى لا تستطيع هذه الوسائل الاستمرار في البث أو النشر وتكون نهايتها إما البيع أو الإفلاس وإغلاق مكاتبها». وأشار إلى أن أول ضحايا «إردوغان – فتح الله غولن» هو زعيم حزب الشباب جيم أوزان الذي كان يمتلك أيضا وسائل إعلام قوية مثل قناة «ستار» وهي من أكثر القنوات مشاهدة في تركيا وجريدة «ستار» أيضا، وأنه «تم تلفيق التهم لمجموعته الإعلامية ووضعت الدولة يدها على التلفزيون والجريدة والمنشآت التي تعود لعائلة أوزان، مما أجبره على الهروب خارج البلاد، ومن ثم بيعت الجريدة والتلفزيون للمقربين من حكومة إردوغان»، مضيفا أنه تم أيضا «إخضاع كثير من المؤسسات الإعلامية بتخويفها بأن يكون مصيرهم مصير جيم أوزان ووسائل إعلامه».
ويرد بوزكرت قوة الإعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية إلى أن المقربين من الحكومة بدأت تهطل عليهم الأموال نتيجة المشاريع والمناقصات التي كانوا يأخذونها من الدولة، و«كانوا بحاجة إلى مؤسسات إعلامية تبرئ وتنقي فسادهم، ولهذا قاموا بإنشاء خزائن لجمع الأموال لشراء المؤسسات الإعلامية التي وضعت الدولة يدها عليها، وكانت صحيفة (صباح) و(تلفزيون آ.ت.ف) من أهم وسائل الإعلام التي اشتراها المقربون من إردوغان».
وفي المقابل، يتهم جيم كوجك، وهو كاتب ومحرر في جريدة «يني شفق» الموالية، ما سماه «الكيان الموازي» بالتسبب باعتقال الكثير من الصحافيين الذين لا تتناسب أفكارهم مع أفكار الكيان الموازي. ويقول كوجك لـ«الشرق الأوسط» إن «تركيا تعيش الآن أفضل فترات حرية الإعلام في تاريخها الحديث، فالجميع يكتب ويرسم وينقد كما يشاء، لكن الحرية لا تعني الاعتداء وشتم وتوبيخ الآخرين، فحرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين».
ويضيف: «لا توجد دولة في العالم تسمح لأي صحافي بأن يسب أو يشتم رئيسا أو مسؤولا انتخب بطريقة شرعية، لكننا نرى في وسائل التواصل الاجتماعي أن الرئيس يحقر ويشتم في بعض وسائل الإعلام الإلكتروني، فمن الطبيعي أن تقوم مؤسسات القضاء في تركيا بتحريك دعاوى ضد من يتطاول على مسؤول في الدولة». ورأى أن «هذه الإجراءات عندما تطبق في بريطانيا أو ألمانيا أو أميركا يكون الأمر طبيعيا، ولكن عندما تطبق في تركيا تكون انتهاكا لحريات الإعلام».
وإذ اعترف بوجود صحافيين اعتقلوا بتهمة الانتماء لتنظيمات محظورة، فإنه كرر اتهامه «الكيان الموازي» بتلفيق التهم، مشيرا إلى أن «الأغلبية العظمى من الدعاوى القضائية التي أقيمت ضد الصحافيين كانت على أساس السب والشتم والتعدي على الحريات الشخصية للمواطنين ومن بينهم مسؤولو الدولة».
ويشير كوجك إلى أن «الكيان الموازي» يمتلك الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، «فهم كانوا يمهدون لانقلاب على الشرعية، ولهذا من الطبيعي أن تكون هناك محاسبة لتلك الوسائل، وبقدر الإمكان تقليص مجال عملها وانتشارها». ويقول: «السيد إردوغان بصفته رئيسا منتخبا يتقبل وبكل صدر رحب الانتقادات الإيجابية والمعقولة، ولكنه لا يتحمل بأي شكل من الأشكال التطاول عليه وعلى حزبه أو على أي مسؤول في حكومات (العدالة والتنمية)، وهذا شيء طبيعي لمن يريد المحافظة على سمعة حزبه وحكوماته»، معتبرا أنه «من الطبيعي أن يقوم بدعم مؤسسات إعلامية موالية له مثل (قناة 24)، أو مجموعة جريدة (صباح) لكي تستطيع الصمود أمام أقدم وأقوى مجموعات إعلامية يتحكم بها رجال أعمال لا يوجد لهم هدف غير تحقيق مكاسب مادية على حساب الشعب».
وأضاف: «في البداية كان يتبع حزب (العدالة) صحيفة وتلفزيون، أما اليوم فقد أصبح له الكثير من وسائل الإعلام، وأنا لا أرى في هذا أي محظور، وهو شيء طبيعي جدا أن يكون لكل حزب وسائله الإعلامية، ومن الطبيعي أن يكون هناك إعلام بديل غير الإعلام الذي اعتدناه من إعلام النخب الذي يوجه ويخدم فقط رأس المال ورجال الأعمال. أما بالنسبة لعدم السماح لبعض وسائل الإعلام بالدخول إلى الاجتماعات أو الفعاليات التي تقوم بها رئاسة الجمهورية أو الحكومة، فهي تصرفات عادية لأن هذا لا يطبق على الجميع، بل فقط على وسائل الإعلام التي تتبع الكيان الموازي»، موضحا أن «هذا القرار أتى بعد أن أثبت القضاء أن الكيان الموازي كان يخطط للانقلاب على الشرعية، ولهذا تم منع جميع وسائل إعلامه من المشاركة في الاجتماعات الرسمية، وهو نوع من أنواع أخذ الحيطة والحذر»، مشيرا إلى أن الحكومات التي كانت قبل «العدالة» كانت تحظر دخول كثير من الوكالات والصحف إلى اجتماعاتها، و«أيضا رئاسة الأركان كانت تحظر دخول العشرات من الصحف، ومن بينها جريدة (زمان) ووكالة (جيهان) و(يني شفق) وجريدة (عقد) وجميع الإعلام المحافظ لم يكن يسمح لهم بالدخول إلى رئاسة الأركان».