رفيف الظل: يَنْتصِفُ الليلُ ليُكْمِلَك

رفيف الظل:  يَنْتصِفُ الليلُ ليُكْمِلَك
TT

رفيف الظل: يَنْتصِفُ الليلُ ليُكْمِلَك

رفيف الظل:  يَنْتصِفُ الليلُ ليُكْمِلَك

هذا هو الليل، ينتصفُ ليكملَك.
انتبه، وقتُكَ انتهى، ابتدى وقتُهم. سوفَ يقضمونَ العظام، سيدٌ في الظلامِ اعتدى، عندما في النهار صرتَ ندا لهم.
انتبه، موتُنا في التمام.
واحدٌ والبقية جر،
اثنانِ وما مِن تهمة إلا انفضّ شاهدُها في النفي، ثم يكادُ وصفُ الماءِ أن يغرقَ ويتدلى من عنفِ مجراه اسمٌ غريبٌ سيأتي، معترفا لأنه يؤمن بالقسَم، وسيقول لا 3 مراتٍ ويختفي في جدار. ثم سيتخذونَهُ رمزا بعد أن ذابَ في النكرة، ولم يبقَ من اسمه سوى الهاء، ممطوطة كي يكتملَ المخطوط، ويُبعث في نشيدٍ نشاز.
وجدناهُ في الملة وأضعناهُ في الذات، وهو انتصافُ الشمائل بين نعم ولا، بوحُ التميمة وبحّة الكهل في سهل الصعوبة. كلما أخضرّ قلبُ الفتاة غطيناهُ رعبا من العار، وإذا مشى السارحُ قالوا كواهُ القمر، لكنّ خطوتَه توْغلُ في الاستقامة وفيها ارتجاجٌ واحتجاج، والعفو في كلماتِهِ عقابٌ مؤجل وأحمر. الحمدُ للمجدِ وكفى بالرفقة أن انقطاعَها مُحال.
لهبٌ لهب،
ما أبردَ هذه اللحظة، فيها الموتُ أبيض من دون ضدّ، ولا شبيهَ لها الحياة.
ذائبٌ ما ليسَ في القلب،
شائعٌ كارتجافِ الغصن،
مشرَعٌ للتفاسير،
إنّه شبهُ صوتٍ،
شبهُ نورٍ،
شبهُ ماءٍ غادرتْهُ الريح،
شبهُ جرح.
ذائبٌ ما ليسَ في القلبِ،
مثل أرضٍ مترفة، نامَها ليلُ المسافر.
إنما في القلب شمسٌ،
شرقُها عمرُ الحكايات التي هربتْ من التجويد،
غربها صوتُ البوادي تستجيرُ النارَ أن تغفو على رمضائِها.
لا أُخفي أنني خائفٌ، بل إنني مذعور. فكلّ ما في حياتنا يدعو إلى الخوف. كيف يمكن العيشُ في حياة مخيفة إلى هذا الحد؟ يكادُ الإنسان لا يجدُ سببا واحدا للطمأنينة والأمان. كلّ أشياء الحياة من حولنا توقظُ غريزة التوجسِ والخوف، كلّ شيء حتى الدين، وهو الشيءُ القديم الأولُ الذي وُجد ليمنحَ الإنسان الشعورَ بالطمأنينة والتوازنِ الروحي والسلام. لم أعد قادرا على العثور على ما يُشعرني بأن شمسا يمكن أن تشرقَ غدا وأنّ للأبجدية حروفا معدودة ستسعفُ الكتابة. أنا الذي أكتبُ لفرطِ الخوف، أصبحتِ الكتابة ذاتَها مدعاة لخوفٍ لا فكاكَ منه. عبرتُ الخرائطَ واجتزتُ المدنَ والمحيطاتِ وعدتُ بالروح الخائفة والوثائقِ المذعورة والكلمات المرتعشة. ما مِنْ بيتٍ في البلاد إلاَ وهو مكانٌ مفقود أو طريقٌ لحقّ مغصوب وكبدٍ مفدوح. صارتِ الحياة مهيضة الجناح كسيرة القلب، لا يأتيها نومٌ ولا أحلام. تعالوا انظروا ليلي المشحونَ بالكوابيس، من منكم يزعم أنّه ليس كذلك؟
الخوف هو صديقنا الأزلي،
لَدوْدُنا الذي استأنسناهُ، فصرنا من فرطِ رجفانِه، نجهّزُ له صحنَ الماءِ مرة وصحنَ الدمِ مرة.
الماءُ لكيلا تجفّ كوابيسُهُ،
والدمُ لكي يعرفَ أننا أقربُ سلالته، فيطمأنُ لنا ويتناسلَنا.
وكما نألفُ جدرانَ البيتِ التي تخذلنا ليلَ كلّ مطر، نألفُ نسلَ الخوفِ الذي يصيرُ يشبهُنا شيئا فشيئا، إلى أن نصيرَهُ ونغدو مصيرَه.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.