منذ ثمانينات القرن الماضي لم يعرف المشهد السياسي الإسباني مثل التوتّر الذي يسيطر عليه منذ مطلع العام الجاري عندما تشكّلت الحكومة الثانية برئاسة الاشتراكي بيدرو سانشيز، ولم يبلغ الخطاب البرلماني مستوى الحدّة والشراسة الذي وصل إليه مؤخراً مع تفاقم الأزمة الصحية الناجمة عن «كوفيد - 19» وما بدأت تجرّه من تداعيات اقتصادية واجتماعية طاحنة.
الأحزاب المعارضة، من الوسط إلى أقصى اليمين المتطرف الذي بات يشكّل القوة السياسية الثالثة في البلاد، لا تكفّ يوماً عن استخدام كامل عتادها الحربي الثقيل ضد الحكومة المترنّحة منذ تأليفها على أغلبية برلمانية ضعيفة ومرهونة بتأييد أحد الأحزاب الكاتالونية الانفصالية الذي تقف كل مطالبه عند الخطوط الحمر التي لا يمكن لأي حكومة إسبانية أن تتجاوزها. الاتهامات التي توجهها المعارضة إلى الحكومة، وتكاد تحصرها في شخص سانشيز، تتوزّع على جبهتين رئيسيتين؛ الأولى، خضوعه لما تعتبره ابتزازاً من القوى الانفصالية يهدّد وحدة البلاد مقابل وصوله إلى الحكم، والثانية تحالفه مع الحزب اليساري الذي يضمّ أشلاء الحزب الشيوعي ورضوخه للشروط التي فرضها عليه لتشكيل الحكومة.
الجبهة الأولى كانت مفتوحة منذ تشكيل الحكومة الأولى التي رأسها سانشيز عام 2018 عندما طرح الثقة في حكومة ماريانو راخوي اليمينية ولم يجد من يدعمه سوى الأحزاب الكاتالونية الاستقلالية عندما كانت الأزمة الانفصالية في ذروة غليانها. أما الجبهة الثانية فهو الذي قدّمها للمعارضة على طبق من فضّة بعد أن رفض مرّتين متتاليتين التحالف مع حزب «بوديموس» اليساري.
في أعقاب دورتين للانتخابات العامة لم تسفر أي منهما عن أغلبية في البرلمان، ثم عاد بعد الانتخابات الثالثة أواخر العام الماضي ورضخ لشروط هذا الحزب من أجل تشكيل حكومة في اللحظة الأخيرة.
طوال الأشهر الثلاثة الماضية لم تتوقّف المعارضة عن قصف الحكومة بالنيران الكثيفة، إلا أنها لم تطالب مرة واحدة باستقالتها أو بتنحّي أحد الوزراء الذين كانت تتهمهم بالفشل في إدارة الأزمة الصحية التي كانت إسبانيا بين أشدّ البلدان تضرراً منها. لكن مع انحسار الوباء مؤخراً وتراجع عدد الإصابات والوفيّات في إسبانيا إلى أدنى المستويات في أوروبا، صعّدت المعارضة في خطابها وباتت تطالب يوميّاً باستقالة الحكومة والدعوة لإجراء انتخابات عامة مبكرة. وتتزامن هذه المطالبة مع الاستطلاعات الأخيرة التي تُظهر للمرة الأولى صعود أحزاب اليمين والوسط مجتمعة إلى المرتبة الأولى ومتقدمة بفارق بسيط على الائتلاف الحاكم بين الحزب الاشتراكي وحزب «بوديموس». لكن القراءة المتأنية لنتائج الاستطلاع الأخير التي صدرت يوم الخميس الماضي تبيّن أن فداحة الأزمة الصحية والوضع الاقتصادي لم تنل كثيراً من شعبية الحزب الاشتراكي الذي يرجّح وصوله في المرتبة الأولى بنسبة 27 في المائة من الأصوات، أي بزيادة طفيفة على الاستطلاع السابق منتصف الشهر الماضي، لكن دون النتيجة التي حصل عليها في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ويتوقّع الاستطلاع صعوداً قويّاً للحزب الشعبي اليميني يصل إلى 23 في المائة وتراجعاً ملحوظاً للحزب اليميني المتطرف «فوكس» إلى 14 في المائة وحزب «بوديموس» إلى 12 في المائة. أما حزب «مواطنون» الذي كان ينافس الحزب الشعبي على زعامة وسط اليمين والمعارضة، وتعرّض لانتكاسة قاسية في الانتخابات الأخيرة، فمن المرجّح أن تبقى شعبيته مستقرة عند 7 في المائة. لكن رغم احتدام المواجهة السياسية واحتمال صعودها إلى مرتبة أشدّ حدّة في الأسابيع المقبلة بعد أن تنتهي حالة الطوارئ ويستأنف الانفصاليون حركتهم في كاتالونيا، لا يراهن أحد اليوم في إسبانيا على انتخابات مبكرة في ظل الأوضاع الاقتصادية الضاغطة وأزمة الوباء التي يمكن أن تعود في أي لحظة. ويدرك سانشيز أن التوازن البرلماني غير المستقرّ الذي تستند إليه حكومته، هو سيف مسلّط على استمراره في الحكم بقدر ما هو شبه ضمانة لبقائه. فالأحزاب الانفصالية والإقليمية التي يحتاج إلى دعمها للحفاظ على الأغلبية اللازمة في البرلمان كي لا تسقط حكومته، لن تجازف بسهولة في سحب تأييدها وفتح الباب أمام رجوع اليمين إلى الحكم وإعادة ملفّ المطالب الاستقلالية والإقليمية إلى المربّع الأول، خصوصاً أن أي حكومة يمينية في المرحلة الراهنة سيكون لليمين المتطرف دور وازن فيها.
الحكومة الإسبانية اليسارية مستمرة في ترنّحها
المعارضة اليمينية تقصفها بالنيران الكثيفة وتطالب بانتخابات عامة
الحكومة الإسبانية اليسارية مستمرة في ترنّحها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة