صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق

الإدارة الكردية تضارب على سعر دمشق لتخزين 700 ألف طن... ومجالس معارضة تدعو إلى تداول الليرة التركية

صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق
TT

صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق

صراع على القمح السوري... بسلاح الدولار والحرائق

يكشف الصراع على القمح السوري، بين «الحكومات» في «مناطق النفوذ» الثلاث، جانبا رئيسيا من الوضع الذي وصلت إليه البلاد بعد تسع سنوات من النزاع انخفض خلالها الإنتاج من حوالي أربعة ملايين في 2011 إلى حوالي 2.2 مليون في الموسع الجاري. واللافت، أن الأطراف المتنازعة تستعمل الدولار الأميركي أو الليرة التركية والحرائق أسلحة في هذا الحرب الجديدة.
الوضع العام
كان الإنتاج السوري من القمح في 2010 أكثر من 3.5 مليون، وحرصت «المؤسسة العامة للحبوب» على تخرين كمية موازية في صوامعها المنتشرة في البلاد. وبعد الاحتجاجات وبسبب الجفاف، تراجع الإنتاج تدرجيا المحصول. وكانت سنة 2018، الأسوأ حيث انخفض إلى 1.2 مليون طن.
وخلال تسع سنوات، حافظ القطاع الزراعي على دوره المهم في تأمين الحد الأدنى من الأمن الغذائي والدخل. وزاد دوره في مناطق خارج سيطرة الحكومة، بسبب تدهور الأنشطة الاقتصادية الأخرى. إذ ساعدت الأنشطة الزراعية في الحفاظ على الحد الأدنى من ظروف المعيشة لآلاف العائلات «لكن هذا القطاع شهد أيضاً تراجعاً وتقلبات في النمو، وأدى النزاع إلى تخريب المعدات وأنظمة الري ونهبها، وتقييد إمكانية الوصول إلى الأراضي والنقص في المواد الخام واليد العاملة، وتراجع الأمان في نقل المنتجات الزراعية إلى الأسواق»، حسب «المركز السوري لبحوث الدراسات» في تقريره الأخير. كما استعملت الحرائق والتدمير أداة حرب بين المتصارعين أو أداة للعيش والتدفئة بسبب تراجع البدائل الأخرى.
وبين 2016 و2018، سُجّل تراجع كبير في هطول الأمطار. وإذ يعتمد 70 في المائة من الإنتاج على المطر، أثر ذلك سلبياً عليه. وتراجعت مساحة الأراضي المروية في هذه الفترة، بسبب تناقص كمية المياه، وتزايد تكلفة المحروقات المستخدمة في تشغيل الآبار. وتضرّر القطاع الزراعي أيضاً نتيجة ندرة المستلزمات الزراعية وارتفاع تكاليفها. ولم تلبِ هذه المؤسسات سوى 10.8 في المائة من احتياجات المزارعين من الأسمدة. ووصلت أسعار المازوت إلى 350 ليرة سورية للتر الواحد في السوق السوداء مقارنة بالسعر المدعوم من الحكومة البالغ 185 ليرة. كما تأثرت القدرات المالية جرّاء التقلبات التي طالت سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي. فبين العام 2018 ومطلع العام 2020. تراجع سعر صرف الليرة تراجعاً هائلاً، ما رفع من أسعار المستلزمات الزراعية والسلع.
وقال المركز: «علاوة على ذلك، تلوثت الأراضي الزراعية بالأنقاض السامة، إضافة إلى التلوث الناجم عن احتراق النفط، فضلاً عن تضررها غير المباشر نتيجة إنشاء المناطق السكنية العشوائية والمباني غير السكنية على الأراضي الزراعية».
التعويض
بحسب مسؤولين سوريين، استوردت الحكومة في عامي 2017 و2018 حوالي 2.2 مليون طن قمح طري، وكان 90 في المائة منها من روسيا. وفي بداية العام الماضي، أعلنت خطة لشراء 400 ألف طن قمحا في مناقصتين منفصلتين بعدما اشترى 200 ألف طن من القمح الروسي في يناير (كانون الثاني). وفي بداية العام الجاري، سمحت الحكومة باستيراد دقيق القمح لكل الراغبين بذلك، أي تصبح عملية استيراد المادة مفتوحة وغير مقيدة بفئة من الصناعات أو الفعاليات الإنتاجية. وقبل أسابيع، تبرعت موسكو بآلاف الأطنان من القمح لدمشق.
في بداية العام، أعلنت دمشق زيادة في المساحات المزروعة بالقمح للموسم الحالي مقارنة مع الموسم السابق نتيجة ارتفاع كمية الأمطار وعودة الفلاحين إلى مناطقهم. وقال مسؤول حكومي إن نسبة تنفيذ خطة زراعة القمح بلغت 70 في المائة من أصل المخطط البالغ 1.8 مليون هكتاراً، موضحا أن إجمالي المساحة المزروعة بالقمح هي 1.2 مليون هكتار. وتوزعت هذه الزيادة على محافظة حلب بأكثر من 110 آلاف هكتار ثم الرقة ودير الزور فإدلب والحسكة.
الصراع
تتقاسم ثلاثة أطراف «السلة الغذائية» للبلاد. وتقع الحسكة ودير الزور والرقة تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية - العربية التي يدعمها التحالف الدولي بقيادة أميركا، فيما تتقاسم السيطرة على أرياف حلب «قوات سوريا الديمقراطية» وفصائل معارضة تدعمها تركيا إضافة إلى قوات الحكومة السورية، فيما تسيطر على معظم ريف إدلب فصائل يدعمها الجيش التركي. وفي مناطق شرق الفرات، هناك «مربعان أمنيان» لدمشق، في الحسكة والقامشلي.
ومع بدء جني محصول القمح، تصاعد التنافس بين الأطراف المسيطرة لإغراء المزارعين. إذ وافق مجلس الوزراء السوري قبل أيام على «رفع سعر تسلم محصول القمح من الفلاحين للموسم الحالي من 225 ليرة سورية إلى 400 ليرة للكيلوغرام الواحد (حوالي 30 سنتاً أميركياً، حسب سعر الصرف وقتذاك)». وكانت الحكومة السورية رفعت في منتصف شهر مارس (آذار) الماضي، سعر القمح من 185 ليرة إلى 225 ليرة للكيلوغرام الواحد.
في المقابل، أوضح مسؤول في الإدارة الكردية لـ«الشرق الأوسط» أن هناك خطة دائمة لحفظ مخزون يكفي لستة أشهر أو أكثر، ما يعني الحصول على 700 ألف طن، موضحا أن التقديرات تفيد بوجود حوالي 1.2 طن من القمح في الحسكة ومناطق شرق الفرات التي تتبع للإدارة و«قوات سوريا الديمقراطية». وقال: «عندما كان سعر صرف الدولار حوالي 1250 ليرة، حددنا سعر شراء الكيلو بـ225 ليرة ثم رفعناه إلى 315 ليرة بعد انخفاض سعر صرفها. رد النظام وسعر كيلو القمح بـ400 ليرة، كما قام ممثلوه في القامشلي والحسكة بالضغط وأغراء المزارعين كي يبيعوا له القمح. وكي نحسم المضاربة لصالحنا، حددنا سعر الشراء بالدولار الأميركي وهو 17 سنتا لكل كيلو. وأمام تدهور سعر صرف الليرة، بات النظام في موقع ضعيف». وإذ خصصت حوالي مائة مليون دولار لشراء المحصول، أصدرت تعليمات تمنع نقله من مناطقها وتشكل حوالي 24 في المائة من مساحة سوريا البالغة 185 ألف كلم مربع إلى مناطق الحكومة، وهي 64 في المائة من البلاد، وعبور نهر الفرات الذي يفصل بين الطرفين.
في موازاة ذلك، أعلن عبد الحكيم المصري وزير الاقتصاد في «الحكومة الموقتة» المعارضة التي تسيطر على محاصل أرياف حلب واللاذقية وحماة «سعرا مغريا» وصل إلى 225 دولارا أميركيا للطن الواحد. وأمام تدهور سعر الليرة، أصدرت المجالس المحلية المعارضة قرارات حصرت التداول بالليرة التركية في مناطقها التي تشكل حوالي 11 في المائة من مساحة سوريا.
ومع احتدام الصراع على القمح، تجددت الحرائق في هذا الموسم. وفي 2019. أتت النيران على المحاصيل، خلال موسم الحصاد، في كل من الحسكة، وحماة، وإدلب، والسويداء. والتهمت نيران هذه الحرائق 2.3 في المائة من محصول القمح (130 ألف هيكتار) و3.4 في المائة من محصول الشعير (180 ألف هيكتار)، إضافة إلى تدمير 8 آلاف هكتار من الغابات.
ومع تجدد الحرائق في «مناطق النفوذ» الثلاث، تجددت الاتهامات بين المتخاصمين. وقال المسؤول: «بعض الحرائق بسبب الحر، لكن معظمها مفتعل من أطراف مختلفة، تحاول استعمال ذلك سلاحا للضغط على المزارعين أو التجار أو المنافسين».



تفاقم معاناة القطاع المصرفي تحت سيطرة الحوثيين

عاملة في البنك المركزي اليمني في صنعاء الخاضع لسيطرة الجماعة الحوثية (أ.ف.ب)
عاملة في البنك المركزي اليمني في صنعاء الخاضع لسيطرة الجماعة الحوثية (أ.ف.ب)
TT

تفاقم معاناة القطاع المصرفي تحت سيطرة الحوثيين

عاملة في البنك المركزي اليمني في صنعاء الخاضع لسيطرة الجماعة الحوثية (أ.ف.ب)
عاملة في البنك المركزي اليمني في صنعاء الخاضع لسيطرة الجماعة الحوثية (أ.ف.ب)

تراجعت أنشطة بنوك يمنية بشكل حاد، ويشتكي مودعون من حالة تذمر إزاء عدم قدرتهم على سحب أموالهم، وسط إجراءات وقرارات حوثية.

تلك البنوك تقع بمناطق سيطرة الحوثيين، ويشتكي السكان من إجراءات الجماعة المدعومة من إيران، من عجزها عن تقديم خدمات بنكية.

ودفعت المعاناة البنوك إلى مزاولة أنشطة خارج اختصاصاتها، والاعتماد على فروعها بالمناطق اليمنية المحررة، وتحت سيطرة الحكومة لتغطية خسائرها، في حين تطالبها الجماعة بجبايات عن أنشطة تلك الفروع.

في الأثناء، اشتبك عدد من المودعين مع أفراد أمن أحد البنوك، على خلفية مطالبتهم بمبالغ من ودائعهم في صنعاء قبل أيام، وفقاً لمصادر قالت لـ«الشرق الأوسط» إن بعض الموظفين أيضاً يخشون خسارة مصدر دخلهم بسبب موجة تقليص وظيفي لمواجهة تراجع الإيرادات وهواجس الإفلاس الذي يهددها.

بوابة البنك المركزي اليمني في صنعاء الخاضع لسيطرة الجماعة الحوثية (أ.ف.ب)

وأوضحت المصادر أن المودعين اعتصموا داخل مقر البنك بعد رفض إدارته منحهم مبالغ من ودائعهم، ما دفعهم للاحتجاج بالاعتصام، قبل أن ينشب عراك بينهم وبين رجال الأمن، وتطورت الأحداث بقدوم مسلحين من أقارب بعض المودعين، حاولوا اقتحام البنك بالقوة، وتبادلوا إطلاق النار لبعض الوقت، قبل أن تتدخل قوة من شرطة الجماعة الحوثية، وتوقف الاشتباكات. لجأ البنك إلى تخفيض رواتب الموظفين العاملين في إدارته وفروعه، بنسبة 20 في المائة، بسبب أزمة السيولة النقدية التي يواجهها منذ أشهر، بعدما حجزت الجماعة أمواله في البنك المركزي الحوثي بصنعاء، ما اضطر عدداً من الموظفين إلى التوقف عن العمل احتجاجاً على خفض رواتبهم، أو للبحث عن فرص عمل أخرى. ويواجه سكان مناطق سيطرة الحوثيين أوضاعاً معيشية معقدة بسبب الحرب وسيطرة الجماعة على مؤسسات الدولة ووقف رواتب الموظفين العموميين.

أزمة نقدية

تُمْنَى البنوك اليمنية وفروعها الموجودة في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية بخسائر كبيرة، وتواجه أزمات نقدية حادة، وباتت غالبيتها غير قادرة على دفع مرتبات موظفيها أو تغطية مصاريفها الشهرية.

بسبب الإجراءات الحوثية تحوّلت غالبية البنوك إلى أنشطة غير مصرفية (غيتي)

يرى الباحث الاقتصادي رشيد الآنسي، أن مصير البنوك والقطاع المصرفي في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية بشكل عام أصبح في مهب الريح، بعد الدخول في مرحلة شبه إفلاس منذ أصدرت الجماعة قانوناً يمنع الفائدة، ما أجهز تماماً على ما تبقى من إمكانية تحقيق إيرادات للبنوك في ظل الكساد الاقتصادي الذي تعاني منه تلك المناطق. ويبين الآنسي لـ«الشرق الأوسط» أنه، إضافة الى لجوء الناس، وخاصة رجال الأعمال والتجار، إلى الاعتماد على شركات الصرافة، فإن البنوك أضحت خاوية من العملاء تقريباً، باستثناء تلك البنوك التي تحولت إلى ما يشبه محلات صرافة لتسليم المعونات الإغاثية أو مرتبات شركات القطاع الخاص. وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، فرضت الجماعة الحوثية على البنوك جبايات جديدة تحت مسمى دعم وإسناد قطاع غزة، وطالبتها بمبالغ ما بين 75 ألفاً، و131 ألف دولار (ما بين 40 مليوناً و70 مليون ريال يمني، حيث تفرض الجماعة سعراً ثابتاً للدولار في مناطق سيطرتها بـ534 ريالاً).

وطبقاً لمصادر تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، فإن البنوك في مناطق سيطرة الحوثيين لجأت إلى مزاولة أنشطة وأعمال تجارية ليست من اختصاصها لمواجهة حالة الركود وشبح الإفلاس اللذين يحيطان بها، ومن ذلك الوساطة بين المستهلكين والشركات التجارية والمحلات التجارية ومحال البقالة للحصول على عمولات يتحملها المستهلكون.

البنوك اليمنية تعرضت لاستحواذ الجماعة الحوثية على سيولتها النقدية المتوفرة لصالح المجهود الحربي (إكس)

ويتهم البنك المركزي اليمني الجماعة الحوثية بالاستحواذ على جزء كبير من المبالغ النقدية للبنوك التجارية في مناطق سيطرتها، وإجبارها على سحب السيولة النقدية المتوافرة في خزائن فروعها، ونقلها إلى مراكزها الرئيسية، ثم توريدها لحسابات الجماعة واستخدامها لدعم مجهودها الحربي، متسببة بعجز البنوك عن الوفاء بالتزاماتها، وفقدان ثقة العملاء بالقطاع المصرفي.

الاتكال على الفروع

يواجه عدد من البنوك في مناطق سيطرة الحوثيين الأزمات النقدية ببيع بطاقات الشراء من الإنترنت وبطاقات ركوب الحافلات وبيع الذهب، بعدما فقدت، بسبب الإجراءات والقرارات الحوثية، القدرة على ممارسة مهامها الأساسية وتقديم التمويلات الضخمة والمنتجات المصرفية. ووفقاً للآنسي، لجأت هذه البنوك إلى الاعتماد على فروعها في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية التي تحقق أرباحاً كبيرة نتيجة دخولها في الدين العام وتحصيل فوائد تصل إلى 23 في المائة، إضافة إلى الحركة الاقتصادية في هذه المناطق، وتوجه رجال الأعمال والشركات التجارية للتعامل مع البنوك لسهولة الحركة بعيداً عن رقابة الجماعة الحوثية.

بنك في صنعاء تعرض للحجز التحفظي على أرصدة ملاكه قبل أعوام بأوامر من الحوثيين (إكس)

وتشترك فروع البنوك في مناطق سيطرة الحكومة في مزادات البنك المركزي، ما يحقق لها عائداً جيداً من خلال بيع العملات الأجنبية للتجار، أو من خلال فتح الاعتمادات الخاصة بالمزادات، وهو ما يتيح للبنوك في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية التنفس برئة هذه الفروع. وينتقد الآنسي ما وصفه بتقاعس الحكومة اليمنية عن تحصيل ضرائب من إيرادات فروع البنوك في مناطق سيطرتها، بينما تضغط الجماعة الحوثية على إدارات البنوك في مناطق سيطرتها لإجبارها على دفع ضرائب على أرباح تلك الفروع، ما يمثل دعماً مالياً إضافياً للجماعة. وطالب الباحث اليمني البنك المركزي في عدن بعزل فروع البنوك في مناطق سيطرة الحكومة عن فروعها ومراكزها الرئيسية في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، تجنباً لتحول هذه الفروع إلى ممول للجماعة.