تحاول أوروبا منذ أيام النهوض من سبات «كورونا» الطويل، وتجهد لتنفض عنها ما تسربلت به من ذعر، لتعود إلى الحياة الطبيعية، أو ما يشبهها، لكن الزائر الثقيل ما زال يحوم في الأفق، ويرخي ظلال القلق على كثير من مناحي الحياة التي ما زالت تحمل توقيعه.
وليس أبلغ من المطارات الغارقة في حال من الغيبوبة للدلالة على أن العودة إلى سابق الحياة في أوروبا ما زالت بعيدة عن حبل الذراع، وأن ما ينتظرها هو نمط جديد من الحياة لا يعرف أحد بعد كيف سيكون شكله النهائي، وهل سيكون مستقراً أم عابراً مع عبور الوباء. الرحلة من مدريد إلى ميلانو تمرّ عبر مطار باريس، لأن الرحلات المباشرة بين إسبانيا وإيطاليا لم تستأنف إلا منذ 4 أيام، بمعدّل رحلتين في الأسبوع، بعد إن كانت تربط البلدين أكثر من 450 رحلة مباشرة في الأسبوع.
مطار مدريد أشبه بصحراء خاوية، تدخله من باب واحد إلى بهو مقفر سوى من بعض المسافرين الذين لا يزيد عددهم على العشرات، يستعدون لرحلتهم الأولى منذ أكثر من 3 أشهر على متن واحدة من الطائرات الأربع التي ستقلع هذا اليوم: اثنتان إلى الجزر الإسبانية، وواحدة إلى دبي، وأخرى إلى باريس. إجراءات المراقبة استثنائية قبل الصعود إلى الطائرة: خفر الحدود والشرطة يطلبون إبراز المستندات التي تبرّر أسباب السفر، والتقارير الصحيّة، والإفادة الشخصية بأن المسافر لا يعاني من عوارض الوباء، وذلك بعد إخضاعه لقياس حرارة الجسد التي يجب ألا تتجاوز 37 درجة مئوية.
الطائرة الفرنسية يقول ملّاحوها إنها معقّمة منذ لحظات، وإن الكمّامات إلزامية طوال الرحلة، ويعتذرون عن تقديم الخدمة، ويطلبون من الركّاب عدم مغادرة مقاعدهم إلا للضرورة القصوى. لكن الشركة لم تأخذ بنصائح المنظمة الدولية للطيران المدني بترك مقاعد فارغة بين الركاب الذين لم يتردد كثيرون منهم بالاحتجاج والتذّمر. الدخول من مطار باريس، المقفر أيضاً، لا يخضع لأي إجراءات صحيّة أو أمنية، والمغادرة منه إلى إيطاليا لا تستدعي سوى قياس درجة حرارة الجسد، من دون إبراز أي وثائق أو مستندات تبرر أسباب السفر إلى البلد الذي كان البؤرة الأولى لانتشار الوباء في أوروبا، وعاش أسابيع مرعبة تحت وطأته.
الأجواء في الطائرة الإيطالية مختلفة جداً: المقاعد الفارغة تفصل بين جميع الركّاب، والخدمة ممتازة، تتجاوز بكثير ما هو مألوف لدى الشركة في مثل هذه الرحلات.
الدخول إلى ميلانو ترافقه رهبة العودة إلى المدينة التي سجّلت أكبر عدد من الوفيّات في إيطاليا، والتي ما زالت إلى اليوم تسجّل نصف الإصابات والوفيّات التي تراجعت أعدادها اليومية إلى ما دون المائة.
مع غروب الشمس، بدأت جولتنا الأولى بعد غياب 3 أشهر عن المدينة التي تغيّر فيها كل شيء، ما عدا حجارتها وشوارعها وأشجارها التي عادت إليها الطيور والعصافير. ثمّة جرح كبير على جبينها ما زال ينزف خوفاً من هول ما عاشته، وقلقاً من الأيام الآتية التي لا تعرف بأي ماء ستكون مجبولة.
لم تفلت ميلانو بعد من براثن الوباء الذي انقضّ عليها، وأنهك نظامها الصحي الذي كان مفخرة عالمية، وما تزال تتعثر للنهوض من الصدمة التي أصابتها، وكسرت معادلة الهجرة إلى الشمال الغني من الجنوب الفقير الذي صار يوصد الأبواب في وجه أبناء الشمال الهاربين من الفيروس.
القليل الذي يتحرّك في عاصمة الشمال الإيطالي يتحرّك ببطء شديد كأنه بلا طاقة أو عزيمة، والمعهد العالي للصحة يكرّر تحذيراته من أن للوباء بؤراً لم تخمد نارها بعد في ميلانو وإقليم لومبارديّا. وفي هذه الأجواء الضاغطة على صدر إيطاليا الذي يضيق بالأزمات، يطلّ برأسه وباء آخر سبق أن كتب أبشع الصفحات في التاريخ الإيطالي الحديث؛ إنها الفاشيّة الجديدة التي أظهرت آخر الاستطلاعات أنها قاب قوسين من أن تصبح القوة السياسية الأولى في البلاد.
رحلة العودة إلى ميلانو... بؤرة الوباء الأولى في أوروبا
«الشرق الأوسط» ترصد أجواء 3 مطارات أوروبية بعد إعادة فتح الحدود الداخلية
رحلة العودة إلى ميلانو... بؤرة الوباء الأولى في أوروبا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة